نحن لا نزرع الخوف.. بل نشتريه
علي هلال
“ما الذي يجعل المرء يتكئ بمرفقيه على تلك الدبابة دون الأخرى، يشعر بمعدنها البارد على جبهته ويضم صدره لتروس الدفع الخلفية. الاثنتان لهما نفس المُصنع في أغلب الأحيان. فقط الأولى وعدتهم بالأمن والثانية رفعت لواء الخوف أو هكذا قيل لهم…“
***
قبل عام ونصف..
يسير صديقي بعد صلاة العشاء في ذلك الطريق المؤدي لأطراف قريته، بعيداً -على غير العادة- عن اهتماماته أو أي جهة مألوفة للجميع. يظهر بصعوبة بناء قديم من الطوب اللبن -ظهرت عليه أشد عوامل الزمن قسوة- بين أستار الظلام واختفاء كلي للقمر في نهاية شهر آخر. يتقدم صديقي متململاً، يُمني نفسه بسهولة المهمة وسرعة انقضائها وبعض أحاديث النوايا والأجور، يطرق الباب في هدوء وينتظر، بعد مدة طويلة نسبيا يتهادى لمسمعه صوت مغلاق الباب يُفتح في بطء، يظهر خلفة ضوء خافت ومساحة صغيرة هي كامل مساحة البناء، حَزّمتها عيناه في لقطة أولى سريعة حتى التقتا بوجه صنعت فيه الأيام أعداداً لا نهائية من الخطوط والتجاعيد، ابتسم صديقي، سلم الوجه مظروفاً أبيض وانصرف.
صديقي الآن يبيت ليلته في مكان مجهول، على الأرجح في أحد أقبية الأمن الوطني. ليلته الوحيدة تتكرر يومياً وتعود لذلك التاريخ، يوم أن تًحدَتْ العجوز طبيعتها وعضلات وجهها الواهنة لتردد نشيد الفقد بحروف مبعثرة… “تسلم الأيادي“
اختفى صديقي ولم يترك خلفة سوى هاشتاج يحمل اسمه وشهرية مُتقطعة وعجوز خائفة!
***
“إذا أردت مجتمعاً متماسكاً .. فلابد أن يكون هناك شبح لعدو“
كارل شميت
***
في خضم الملهاة اليومية، يتحرك الميكروباص بتثاقل الذاهبين للجحيم. الراكبون تَعرقّوا رغم الطقس المُتقلب كحال الجالسين في المقاعد الخلفية الذين نالوا قسطاً من التعذيب والكدمات المتنوعة. أمامي مباشرة شخص يشبة الموظف الحكومي القياسي تماماً بملابسه وجريدته الحكومية المفرودة على مصراعيها. يتوسطها صورة بائسة باللونين الأبيض والأسود لإحدى علامات القرن الحالي “محمد سلطان ووالده“. ملامح محمد تائهة كمتوحد، نظراته تَضرب اللاشئ، فمه مفتوح بلا سيطرة لجسده، يرتدي قبعة السجن وكُرسياً مدفوعاَ من والده. انتظرت طويلاً وراقبت الجالس حتى حصلت على مرادي، تعليقا يُثبت يقين ما تنبأت، خرج من أطراف شفاه مرتعشه لا تدري ما تقول أو تقول ما لم تعتد.
“هما بيحاكموهم ليه، المفروض يعدموهم من غير محاكمات، خَلّي البلد تستقر والناس تاخد بتارها من الإرهابيين دول، اللي عَيشونا في رعب..“
لم أحاول إظهار صوت معارض بأي صورة، فقط عُدت للوراء بنصف عين متمنياً أن يعود السائق إلى هوايته المذمومة في إظهار قدرات التحكم بعجلة القيادة على السرعات القصوى.
***
“مَاعندكم يَنْفد … إلا الخوف!“
***
في إحدى العصور الغابرة الغير معرفة زمكانيا، الظروف تبدو مواتية لتنشأ الأسطورة. أيقن الحاكم أن قَدمه وطأت أرض الموت وأحس بدنو أجله، بعث لولديه فحضرا في الحال. أراد أن يختبرهما ليرى الأحق بعرشه. أحضر لكل منهما طائراً في قفصه، “الأمر بسيط، يكفي أحدكما أن يحتفظ بطائره في عنقه لخمس دقائق دون أن يقتله“.
اندفع الأول فقبض على الطائر بكفيه، دق عنقه قبل أن يبدأ، الثاني بادر بحزم وترك لطائره الكفاية ليفكر، انسل الطائر هارباً عبر نافذة الشرفة المطلة على الساحة. غضب الحاكم ونادى: أن أحضرا ثالثاً. أمسك طائره، انتزع ريشه وفض ستر أمنه، وقف الطائر على حافة يده يرتعش لا يلوي على شئ، يخاف الطيران لئلا يقع بما فقد. اتجه الطائر للكف الآثمة وضم جسده في غطائها شاكراً، ابتسم الهالك في غموض، ورث إرثه لا العرش.
***
“الناس يخافون المجهول، يخافون المصير، يخافون الفوضى، يخافون الخوف…“
“لقد وضعت أمي توأماً .. أنا والخوف“
توماس هوبز
***
عندما نظَم هوبز عقده الإجتماعي، ووضع السيادة في يد الدولة لتحل محل الإله في الأرض، جرد الإنسان من خوفه الفردي المصاحب لحالته الأولى البدائية، ذريعته الأولى للقتال والوجود. حول الخوف لنسق عام يربط الإنسان إلى أخيه، جعل خوفه منحصراً في محيط السيادة المتمثلة في الدولة، أطلق عليها نظرية هوبز للخوف.
أصبح الخوف بعِقد هوبز أداة لتحكم الدولة في الشعوب، ومؤشرا لتحديد المصائر.
بالعودة للوحي كمركزية أولى، يُجمع علماء العقيدة أن الخوف منزلة من منزلتين مع الرجاء تكتمل بهما الثنائية في طريق البحث عن الحرية والإرتقاء الروحي. تنظيم عبادة الخوف من الله باستحضارة كسيادة عليا تتحطم أمامها أصنام الدولة والقوميات واجب وقتي لدحر الزحف على روح الإنسان و وجودة من الأساس. الخوف من الله ليس خوفاً من قوى فوقية مجهولة أو خوفاً من المجهول كما يوجه أعداء الدينية، بل امتثالاً لعَقد نفسي أخر، يُعيد الإنسان لحالته الأولى بعد أن كاد يفقد القطع الأهم في بشريته.
ﻗﺎﻝ ﺗﻌﺎﻟﻰ: (ﻓَﻠَﺎ ﺗَﺨْﺸَﻮُﺍ ﺍﻟﻨَّﺎﺱَ ﻭَﺍﺧْﺸَﻮْﻥِ) وقال: (ﻓَﻠَﺎ ﺗَﺨَﺎﻓُﻮﻫُﻢْ ﻭَﺧَﺎﻓُﻮﻥِ ﺇِﻥْ ﻛُﻨْﺘُﻢْ ﻣُﺆْﻣِﻨِﻴﻦَ)..
***
“People should not be afraid of their government, government should be afraid of their people”V for Vendetta
ملحق:
1- The Power of Nightmares: The Rise of the Politics of Fear
2- The Village