سد النهضة الإثيوبي: التفاوض ليس المسار الوحيد
على الرغم من وجود العديد من التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها مصر في المرحلة الراهنة، فإنه يمكن اعتبار التحدي الخاص ببناء إثيوبيا سد النهضة في القلب منها، فهو من الخطورة والأهمية النسبية التي تفوق غيره من التحديات، لما له من تأثير سلبي مباشر على الأمن المائي المصري في فترة زمنية وشيكة، وما يتبعها من تأثير حتمي على الحياة اليومية لكل مواطن مصري.
سلوك الفاعلين الرئيسيين تجاه مشروع سد النهضة
1- إثيوبيا
تسعى إثيوبيا لخلق حالة من الهيمنة الإقليمية من خلال استغلال الورقة المائية وهو ما يتضح من سعيهم لبناء سدود أخرى مع تغيير المواصفات الفنية، بالإضافة إلى المراوغة وسوء النية الواضح من خلال تسمية المشروع بـ Project X قبل الإعلان عن اسمه الحقيقي، بالإضافة إلى انتهاجها سياسة أحادية الجانب تسعى من خلالها إلى فرض الأمر الواقع من خلال التسويف وإطالة مدة التفاوض مع تبني مواقف متشددة.
2- مصر
أخذت مصر قضية سد النهضة إلى الطريق السياسي والدبلوماسي مع اعتبار التفاوض هو الخيار المطروح، ومع تعنت الجانب الإثيوبي، فقد تقدمت مصر بشكواها في سبتمبر/أيلول 2019 من الجانب الإثيوبي إلى المجتمع الدولي من خلال الأمم المتحدة، وقد لجأ الجانب المصري إلى طلب الوساطة من الولايات المتحدة الأمريكية بحضور البنك الدولي.
3- السودان
يتسم موقف السودان في ظل الحكومة الانتقالية بالتحفظ والحياد، مع الأخذ في الاعتبار الوعود الإثيوبية بتصدير الكهرباء إليها، وكذلك الدور الذى لعبته إثيوبيا في المصالحة السودانية بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير في مرحلة ما بعد البشير. ويحاول السودان لعب دور أقرب إلى الوسيط ما بين مصر وإثيوبيا مع حفظ مصالحه كطرف أساسي في المشكلة واستمرار المفاوضات كخيار وحيد لحل المشكلة.
4- الولايات المتحدة الأمريكية
الولايات المتحدة ليس لها مصلحة مباشرة في المشروع، ويمنحها ما تقدمه من مساعدات للطرفين، إضافة لمكانتها المؤثرة داخل المؤسسات المالية الدولية كالبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ثقلاً يجعل كلمتها مسموعة لدى أطراف هذه القضية، وبالنسبة لها فإثيوبيا تلعب دوراً مهماً في مواجهة تنظيم القاعدة والجماعات التابعة له في منطقة القرن الإفريقي، بالإضافة إلى الأهمية الاستراتيجية لمصر في المنطقة، وتحرص واشنطن على بقاء علاقات جيدة مع الدولتين وتسعى حالياً لتقريب وجهات النظر بينهما.
وتجب الإشارة إلى أن المشروع يعتمد على التمويل الذاتي من إثيوبيا ثم المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي والاتحاد الأوروبي، مع توجيه بعض المنح المقدمة من الهيئات المانحة مثل هيئة التنمية السويدية، والكندية والألمانية والإنجليزية إلى السد، هذا إلى جانب الدول المُساعِدة مثل: أمريكا وإيطاليا والصين ودول أخرى مثل إيران وباكستان وتركيا وبعض الدول العربية.
الخبرات والتجارب الدولية
توضح الخبرات الدولية أن اندلاع العنف حول المياه نادراً ما يمثل خياراً استراتيجياً، وأن زيادة الفوائد النابعة من النهر تفتح المجال أمام التنمية البشرية والنمو الاقتصادي والتعاون الإقليمي، ومن النماذج التي تدل على أهمية التعاون «اللجنة الدائمة لمياه نهر السند» والمشرفة على معاهدة مشاركة المياه بين الهند وباكستان، والتي استمرت في عملها على الرغم من نشوب أكثر من حرب بين البلدين. وكذلك تجربة «التشيك وبلغاريا»، فعند رغبة التشيك في إنشاء سد على نهر «الدانوب» تم رفع الأمر إلى المحكمة الدولية وترتب على ذلك الحكم بإيقاف تنفيذ المشروع.
أمّا عن النماذج السلبية، فقد أحجمت دول آسيا الوسطى عن التعاون فيما بينها، مما أدى إلى تكاليف باهظة لغياب صيغة «مكسب لجميع الأطراف»، فتستطيع قيرغيزستان في آسيا الوسطى التحكم في توقيت تدفق المياه باتجاه الشق الأدنى بل وتوفرها أيضاً. ومن الأمثلة السلبية في منطقة الشرق الأوسط ما تقوم به تركيا من مشاريع وعلى رأسها مشروع «جنوب شرق الأناضول» الذي يهدد تدفقات المياه من نهر دجلة والفرات إلى سوريا والعراق، مستغلة حالة الضعف التي يمر بها البلدان في الفترة الأخيرة. وكذلك ما تقوم به إسرائيل مع الفلسطينيين، حيث لا تحصل الأراضي الفلسطينية سوى على نسبة من 10% إلى 15% من المياه على الرغم من أنهم يمثلون نصف السكان تقريباً بما يؤثر على التنمية الزراعية وظروف الحياة اليومية للمواطنين.
المسارات والبدائل المتاحة لتعامل مصر مع الأزمة
توجد مجموعة من الخيارات والمسارات التي تستطيع مصر الحفاظ على أمنها المائي من خلال اتباعها، سواء بشكل متواز أو عن طريق اختيار أفضلها.
البديل الأول: الاستمرار في المسار التفاوضي
يترتب على هذا البديل بناء الثقة بين الأطراف المتفاوضة وإظهار حسن النية وصولاً إلى تحقيق المنفعة المشتركة من خلال صيغة توازن ما بين الطموحات الإثيوبية والحقوق التاريخية لمصر والحيلولة دون الصدام، وهو البديل الذي أثبتت الخبرة الدولية أنه الخيار الأكثر نجاحاً والأفضل من حيث النتائج، إذا ما صدقت الإرادة السياسية للأطراف المتفاوضة.
وللأسف أثبتت التجربة أنه على عكس مصر، فإن الموقف الإثيوبي استغل ذلك لمحاولة المراوغة وكسب الوقت من خلال سياسة فرض الأمر الواقع والتهديد بالتصرف الأحادي دون الرجوع لباقي الأطراف.
البديل الثاني: استخدام أوراق الضغط
يوجد مجموعة من الأوراق السياسية التي تستطيع مصر استخدامها في مواجهة هذه الأزمة، ومنها استثمار دور الكنيسة القبطية وتصحيح الصورة الذهنية لمصر لدى المواطن الإثيوبي، والحفاظ على علاقات قوية مع إريتريا التي تطل على البحر الأحمر وجيبوتي التي تعتمد عليها إثيوبيا حالياً كمنفذ لصادراتها، والمشاركة في ملف المصالحة الوطنية في الصومال، والتواصل مع المجتمعات المحلية في إثيوبيا وقوى المعارضة السياسية للسد داخل المجتمع الإثيوبي، واستخدام ورقة «بنى شنقول» والنزاع الإثيوبي السوداني عليها ومحاولة استمالة السودان مرة أخرى، وكذلك ممارسة الضغط على الأطراف الخارجية الداعمة لإثيوبيا مثل إسرائيل وقطر سواء اقتصادياً أو بتخفيض التمثيل الدبلوماسي وفتح التحقيقات في الملفات الخلافية السابقة مع هذه الدول.
البديل الثالث: مسار الحوافز والضغوط الاقتصادية
تستطيع مصر حل القضية من خلال تقديم حوافز تنموية للجانب الإثيوبي، مثل رفع مستوى التجارة البينية بين البلدين وتقديم المساعدات الاقتصادية والمنح والقروض والاستثمارات المشتركة، خاصة في مجال الطاقة والبنية الأساسية بما يربطها اقتصادياً بمصر ويجعلها تعيد حساباتها تجاه المشروع.
ويجب على مصر كذلك التنسيق مع الجانب الصيني الداعم مالياً للمشروع، وإيطاليا التي تتبعها الشركة المنفذة، وكذلك السعودية والإمارات والكويت، وهم من أكبر الشركاء التجاريين لإثيوبيا، مع الضغط على قطر لكي توقف دعمها السياسي والاقتصادي للمشروع، ويجب الحذر من أن المبالغة في الحوافز الاقتصادية قد يترتب عليها ابتزاز من الجانب الإثيوبي وإدخال مبدأ «بيع المياه» وهو الأمر الذي ترفضه مصر في علاقاتها مع دول المنبع.
البديل الرابع: اتباع المسار القانوني
يجب على مصر التمسك بحقوقها التاريخية والاتفاقات السابقة، مثل اتفاقية 1902، والمذكرات المتبادلة بين السودان وإثيوبيا حول تسوية النزاعات الحدودية بين البلدين 1972، بالإضافة الى الاتفاقية القانونية للأمم المتحدة للعام 1997 بشأن استخدام المجاري المائية الدولية في غير الأغراض الملاحية، وكذلك الاستناد إلى اتفاق المبادئ الموقع عليه بين الطرفين في عام 2015، كما يمكن التقدم بشكوى إلى مجلس الأمن الدولي أو طلب عرض القضية على محكمة العدل الدولية.
البديل الخامس: القبول بالأمر الواقع والتكيف مع الآثار السلبية للسد
تستطيع مصر من خلال تطوير منظومة الري لديها، والاعتماد على الحاصلات الزراعية قليلة الاستهلاك للمياه،والقيام بحملات توعية لترشيد الاستخدام للمواطنين، وكذلك اللجوء إلى مشروعات تحلية المياه، وطلب المساعدة في ذلك من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والجهات المانحة لتخفيف الآثار السلبية لهذا المشروع.
البديل السادس: التصعيد العسكري وضرب السد
تعد قوة وقدرة مصر العسكرية ورقة ضغط وردع تُؤخذ في حسابات الجانب الإثيوبي حتى لو لم يكن هناك نية حقيقية لاستخدامها، ويأتي افتتاح قاعدة برنيس العسكرية جنوب شرقي البحر الأحمر ليصب في هذا الاتجاه، ويعد اللجوء لهذا البديل هو الأعلى تكلفة من بين البدائل المتاحة، والذى من الممكن أن يترتب عليه العديد من النتائج السلبية، وسيعطل المشروع فقط ولن يمنعه بشكل نهائي.
توصيات نهائية
توجد مجموعة من التوصيات التي من الممكن أن تتبناها الدولة المصرية في مواجهة هذه الأزمة:
- توحيد الجهات المتعاملة مع هذا الملف ونوصي بإنشاء «مجلس أمن مائي» يتبع مجلس الأمن القومي المصري.
- عدم التعامل مع هذا الملف بطريقة رد الفعل ولكن وفقاً لاستراتيجية طويلة المدى، جوهرها خلق صيغة توافقية تجمع دول الحوض وتراعي مصالح الجميع وتحتوي أي طموحات آنية أو مستقبلية لإثيوبيا أو لأي دولة أخرى من دول المنبع.
- أن يتم التحرك السياسي السريع والمكثف لمحاصرة إثيوبيا إقليمياً ودولياً ومنعها من المراوغة وإطالة زمن المفاوضات وتضييق البدائل المتاحة لديها.
- اجتذاب الطرف السوداني للجانب المصري.
- اتخاذ الخطوات اللازمة للحيلولة دون توفر التمويل اللازم لبناء السد، من خلال استمرار الضغط على الممولين الرئيسيين والجهات المانحة، وكذلك التنسيق مع الدول العربية والمستثمرين العرب في إثيوبيا.
- طرح حزمة من المشروعات التنموية المشتركة ما بين مصر وإثيوبيا والسودان ودول حوض النيل، وخاصة في مجال الطاقة والبنية التحتية.
- استخدام القوة الناعمة لمصر ممثلة في الكنيسة القبطية والدبلوماسية الشعبية والإعلام.
- في حالة عدم نجاح الوساطة الأمريكية، يجب التصعيد على مستوى رؤساء الدول، وكذلك التقدم بمذكرة لمجلس الأمن الدولي ولمجلس السلام والأمن الأفريقي ولمحكمة العدل الدولية.
- العمل على مشروعات استغلال الفواقد المائية في المنابع ومنطقة بحر الغزال بالسودان.
- العمل على ترشيد الاستهلاك وخاصة في المحاصيل الزراعية.
- تقوية العلاقات والروابط مع الدول المجاورة لإثيوبيا مثل إريتريا وجيبوتي والصومال.
- فتح قنوات للتواصل مع المعارضة الإثيوبية للسد بصفة خاصة، وأن يكون لمصر القدرة على التأثير في الداخل الإثيوبي، ولو عن طريق أطراف أخرى وسيطة.
خاتمة
يجب أن نذكر أن البدائل السابقة مجرد مسارات متعددة ومتوازية للتحرك، ولا يغني أحدها عن الآخر، وأن تصعيد الاهتمام بأحدها بشكل تدريجي أو بشكل متواز يتوقف على التطورات التي قد تطرأ أثناء إدارة هذا الملف وعلى رؤية صانع ومتخذ القرار وتقديره لحسابات التكلفة والعائد لكل بديل، ووفقاً للرؤية الاستراتيجية الأوسع للدولة في التعامل مع هذه الملف.