بم يُصاب من يشرب من نيلها؟ ليست البلهارسيا أدق إجابة
ضجة شديدة – تفوح منها رائحة الافتعال والتصنع- أحدثها بروز ٌ للواجهة لتصريحاتٍ للمطربة شيرين، اعتبرها البعض تستحق المقاضاة من أجلها، والرمي بالخيانة والعمالة .. إلخ هذه القائمة العريضة. كانت المطربة تتظرَّف مع بعض المعجبين الذي طالبوها على المسرح بأداء أغنيتها الوطنية الشهيرة (ما شربتش من نيلها)، فردَّت عليهم بما معناه أنها تخشى من البلهارسيا إذا شربت من نيلها!
إذا كان هُناك ما يستحق الاتهام الشديد في هذا التصريح، فليس عبر أكلاشيهات الوطنية وإهانة النيل رمز مصر …إلخ، فالأمر أهون من هذا. سيكون العتب الشديد منَّا كمهتمين بنشر الثقافة الصحية الواعية السليمة. بالفعل يشيع في مجتمعنا الكثير من الأغلاط الصحية. يصبح الأمر أخطر، عندما ترد مثل هذه الأغلاط – ولو مزاحًا – على ألسنة رموز المجتمع، والذين للأسف تسري خَطَرات أفكارهم، وشواردها، مسرى النار في الهشيم، لدى قطاعات واسعة من الجمهور. والمزاح التلقائي كثيرًا ما يكشف عن المحصلة الحقيقية من المعرفة لدى قائله.
ومن الصادم فعلًا أن يظل لدى بعض المصريين جهلٌ في معلومات أساسية عن طفيل البلهارسيا المتوطن في نيلنا وأكبادنا منذ آلاف السنين، رغم نيْلِهِ أكبر قدر من حملات التوعية المرئية وغيرها في العقود الماضية.
عمومًا ليس هدفنا تجريح هذا أو تلك. إنما دعونا نتعرف على أصناف من الموت قد يحملها ماء النيل، الذي جعل الله منه حياةَ مصر، قبل أن يظهر الفساد في برَِّها وبحرِها بما كسبت أيدينا.
لماذا ليست البلهارسيا؟
تنتقل السيركاريا، الطور المعدي للبلهارسيا – أيًا كان نوع البلهارسيا – إلى جسم الإنسان باختراق جلده للوصول إلى الدورة الدموية. يسبب هذا تحسُّسًا مشهورًا في الجلد، يسمى تحسُّس السبَّاحين. تتجول السيركاريا في أوردة الجسم حتى تصل إلى مبتغاها – والذي غالبًا ما يكون الكبد– وقد تمايزت ونضجت تمامًا.
ولإغلاق دورة الحياة، يضع الطفيل الناضج – بعد التزاوج – بيضه إما بجدران الأمعاء، أو المثانة البولية – حسب نوع البلهارسيا – ليصل إلى المياه بممارسة العادة السيئة بالتبول والتبرز في المياه. يفقس البيض، ويخرج طور الميراسيديم، والذي يغزو القواقع المنتشرة بالنيل – تسمى العائل الوسيط، وتركز أغلب جهود مكافحة البلهارسيا عليها – ويخرج منها على هيئة السيركاريا، والتي تنفذ إلى أجسام آخرين يتعاملون مباشرة مع المياه الملوثة (السباحة – غسل الأواني … إلخ) .. وهذا دواليك.
إذًا البلهارسيا مرضٌ ينتقل بالتلامس مع المياه. فماذا يحدث إذا تناول أحدنا شربة من النيل ملوثة بالطور المعدي للبلهارسيا؟
لن يصاب الشارب بالبلهارسيا، إذ ستتكفل الأحماض المعدية بالقضاء على السيركاريا التي لا تتحملها. أما الاحتمال النظري بأن تعبر السيركاريا إلى الدم عبر بطانة الفم مباشرة، فهو سيناريو أبعد من الخيال.
إذًا فأقل ما قد يشغل بال من يشرب من نيلها هو البلهارسيا .. ما هي الإجابة الصحيحة إذن؟
ماذا يحدث إذن لمن يشرب مياه النيل غير المعالَجة مباشرة؟
إلى أي رقمٍ تستطيعون العد؟ … سنكتفي بـ 9…
للأسف من منظور الصحة العامة، فمياه النيل خطيرة للغاية، بما يلقى بها من صرف صحي، ومخلفات بعض المصانع، والفضلات الآدمية … إلخ. ومن البدهي أن نؤكد أنه لا يُشْتَرَط حدوث كل ما يلي ذكره لمن يتناول شربة واحدة، بل يمكن ألا يحدث له شيءٌ على الإطلاق. كما أن انتقال بعض هذه الأمراض ليس قاصرًا على شرب الماء الملوث فقط، فبعضها يمر عبر الطعام الملوث أيضًا أو مجرد التلامس مع الماء.
1. الأميبا:
يسبب هذا الطُفَيْل مرض الدوسنتاريا الأميبية. وهو نوع من الإسهال المخاطي المُدَمَّمْ نتيجة تضرر جدران الأمعاء الذي يُسبِّبُه طفيل الأميبا. ينتقل هذا الطفل من إنسان لآخر بالطريقة التي تسمى – عذرًا – من البراز للفم. تخرج الأكياس الأميبية مع البراز إلى المياه – النيل مثلًا – لتمر بدورة من النضج، لتنتهي إلى الطور المعدي والذي ينتقل عند شرب الماء الملوث دون معالجة، ليصل إلى الأمعاء فبسبب الدوسنتاريا.
ومن المضاعفات التي قد تحدث في قلة من المرضى، حدوث خُرَّاج أميبي بالكبد أو الرئة. لكن عمومًا لحسن الحظ، فالإصابة بالأميبا ليست من الأمراض المميتة غالبًا، وعلاجها متوفر بعقار الفلاجيل الشهير.
2. الكريبتوسبوريديم Cryptosporidium:
أخطر ما في هذا الطفيل – بجانب اسمه – هو مقاومته للكلور، أوسع وسائل تعقيم المياه انتشارًا خصوصًا في مصر. ينتقل أيضًا بطريقة من البراز للفم. وعند الإصابة به يسبب أعراضًا شبيهة بالإنفلوانزا كالإجهاد، بجانب ميل للقيء، وانتفاخات، وآلام بالبطن. لكن أهم الأعراض هي الإسهال الحاد الذي قد يكون شديدًا مسببًا حدوث الجفاف. وعلاجه كالأميبا، بجانب تعويض الفاقد من السوائل.
3. الجيارديا:
طفيل الجيارديا كما يظهر بالميكروسكوب الإلكتروني
وهي تشبه الطفيل السابق في طريقة الانتشار عبر الماء، وكذلك في العلاج، و تسبب أيضًا الإسهال الحاد، ومتاعب الجهاز الهضمي. لكن نظرًا لتركز نطاق عملها في الأمعاء الدقيقة، حيث يتم معظم عمليات الامتصاص للمواد الغذائية بعد الهضم، فإن الإصابة المزمنة بها قد تسبب متلازمة عدم الامتصاص، والتي تحرم الجسم من أهم المواد الغذائية والفيتامينات والأملاح الذائبة، وتفاقم الإسهال والجفاف.
4. التهاب الكبد الوبائي (أ)
والذي يسببه فيروس الكبد الوبائي (أ) شديد الانتشار. وهو لا ينتقل بالدم كفيروسيْ بي وسي، وهما بالمقابل لا ينتشران لا بالماء ولا الطعام. ويشتهر فيروس (أ) أكثر، بانتشاره عبر الطعام الملوث كذلك بطريقة من البراز للفم. وهو لحسن الحظ أقل الفيروسات الكبدية في معدلات الوفاة الناجمة عن الإصابة به (أقل من ١٪) وكذلك لا يسبب الإصابة المزمنة كفيروسيْ سي وبي. ويوجد تطعيم وقائي منه، مشهور لدى الأجانب الذي يقدمون إلى البلاد المتوطِّن بها الفيروس كمصر.
يعاني المريض من أعراض شديدة شبيهة بالإنفلوانزا (حمى شديدة – آلام بالمفاصل – إجهاد شديد – انعدام في الشهية للطعام .. إلخ) واصفرارٍ شديد بالجلد والأغشية المخاطية، وتغير في لون البراز والبول.
يحتاج المريض إلى الراحة التامة، والغذاء الصحي قليل البروتين والدهون، المناسب لحالة الكبد. ويمكن أن يتحسّن المريض تمامًا خلال ٣-٤ أسابيع إذا التزم بالتعليمات. ولابد للمريض ومن يتعامل معه عن قرب، غسل الأيدي جيدًا، وذلك لمنع انتقال العدوى منه إلى غيره. (هذه النصيحة عامة لتجنب انتشار كافة الأمراض التي تنتقل بطريقة من البراز للفم).
٥. التسمم بالسالمونيلا:
هناك أنواع عديدة من بكتيريا السالمونيلا قادرة على التسبب بتسمم من خلال الطعام والماء الملوث، وتشيع الإصابة بها من خلال الفواكه والخضروات المغسولة بماءٍ ملوث. تظهر أعراضٌ شبيهة بالنزلات المعوية الحادة، على هيئة قيءٍ، مصحوب بإسهال، وآلام مغصية بالمعدة والبطن، بجانب أعراضٍ عامة كالحمى، وآلام المفاصل، والصداع.
لحسن الحظ، يمكن أن تمر الإصابة بسلام خلال أيام، مع الراحة، والغذاء الصحي الجيد، وتعويض فاقد السوائل في الإسهال والقيء. بالمقابل، في حالة الإهمال ووجود ضعف في المناعة، قد تتطور الإصابة إلى تسمم عام بالدم.
٦. حمى التيفود:
هذه الحمى الشديدة من أخطر ما تسببه بكتيريا السالمونيلا، بنوعها المسمى (تايفي). ومنها نوع مخفف قليًلا في شدة أعراضه هو حمى الباراتيفود، ويسببها عدة أنواع من (سالمونيلا باراتايفي). يعاني المريض من أعراض عامة شديدة (إرهاق شديد – حمى مرتفعة – آلام شديدة بالمفاصل والعضلات)، واضطرابات بالجهاز الهضمي، ونقص كريات الدم البيضاء.
وفي الإصابات الشديدة، ومع تأخر العلاج بالمضادات الحيوية القوية، قد يحدث قُرَحٌ بجدار الأمعاء، عرضةً للانثقاب، وتسرب محتويات الأمعاء إلى غشاء البريتون، وهذه من حالات الطوارئ الجراحية الخطيرة. كما قد يحدث تضخم بالكبد والطحال، وإصابة مزمنة بالتهاب المرارة، وقد تصل في بعض الحالات إلى تسمم بكتيري عام بالدم، ومن ثمَّ الوفاة.
٧. الشيجيلا:
تسبب هذه البكتيريا نوع من الدوسنتاريا أشد من الذي تسببه طفيليات الأميبا. وهي بكتيريا سالبة الجرام تحتاج في علاجها إلى مضادات حيوية قوية. وهناك نوع قد يسبب اضطرابًا مناعيًا يؤدي إلى تجلط الدم داخل الأوعية، وفشل كلوي حاد (متلازمة ارتفاع البولينا وتحلل الدم) وهي من الحالات الخطيرة.
٨. الإي- كولاي E-coli
من أشهر البكتيريا التي تنتقل بالماء الملوث، خاصةً إذا خالطَهُ الصرف الصحي. وهي من البكتيريا سالبة الجرام التي تصيب الجهاز الهضمي، ومنها عدة أنواع. بعضها يفرز سمومًا تسبب إسهالًا مائيًا حادًا شبيهًا بالكوليرا، وبعضها إسهالًا دمويًا يشبه الدوسنتاريا، وبعضها إسهالًا مصحوبًا بمتلازمة عدم الامتصاص … إلخ. وهي كالشيجيلا والسالمونيلا، تحتاج في علاجها إلى مضادات حيوية قوية ضد البكتيريا سالبة الجرام.
9. الفشل الكلوي وخلافه
هل تتذكرون واقعة برزت منذ أكثر من 3 أعوام على سطح نيل كفر الشيخ؟. فوجئ الناس ذات يومٍ بآلاف مؤلفة من الأسماك النافقة طافية على سطح مياه فرع رشيد. حينها أثبتت التحاليل أن سبب الوفاة هو التسمم بالنشادر، نتيجة تلوث ماء النيل بقدر كبير من عوادم المصانع، وفضلات المزارع السمكية، وكذلك الصرف الصحي. وُجِدَ كذلك احتواء عينات المياه، وأجسام الأسماك النافقة، على كمية سمية من الرصاص والمعادن الثقيلة.
سنكتفي بالحديث عن الرصاص كممثل للمعادن الثقيلةالتي لا تستطيع أجسامنا التعامل معها للتخلص منها. يُختَزَن الرصاص بالجسم خاصة في العظام، لكنه ينتقل إلى معظم أعضاء الجسم ليسبب أضرارًا متنوعة .. التخلف العقلي للأطفال، الصداع المستمر، اضطرابات في وظائف الأعصاب، أنيميا الدم، الفشل الكلوي المزمن، آلام شديدة بالبطن … إلخ.
الخلاصة إذن: لا تشرب من نيلها مباشرة، أو خُذْ شربةً وداعيةً أخيرةً للذكرى، قد لا تجد مثلها بعد أعوامٍ قليلة.