غوستاف لوبون: هل كانت الثورة الفرنسية حقًا روح الثورات؟
تقفُ أمام أجمل لوحة وأكثرهن رومانسية في متحف اللوفر، رُسمت تخليدًا لذكرى الثورة الفرنسية، التي امتدت بين عامي (1789-1799). إنها لوحة «الحرية تقود الشعب» (Liberty leading the people،1830.) للرسّام الرومانسي «أوجين ديلاكروا».
المرأة هي الحرية، تقف عارية الصدر كالحقيقة تمامًا، وفي يدها علم الجمهورية الفرنسية، فوق أشلاء أبطالها الذين ضحّوا بحياتهم في سبيلها. البرجوازي إلى جوار الفلاح والعامل، والغني إلى جوار الفقير، والطفل إلى جوار الرَجُل والمرأة. تكثيف رومانسي باعث للأمل في وردية الثورات عامةً والثورة الفرنسية بخاصة، لكنه خالٍ من الحقيقة بحسب المؤرخ والفيلسوف الفرنسي «غوستاف لوبون» في كتابه «روح الثورات والثورة الفرنسية».
البواعث النفسية للثورة الفرنسية
يقول كثير من المؤرخين إن الثورة الفرنسية نشبت ضد الملكية المستبدة، خاصة مع تحريض الفلاسفة التنويريين، بعد إطّلاعهم على الملكية الدستورية في المملكة البريطانية العظمى، إلا أن الواقع يثبت أن ملوك فرنسا عدَلوا عن الاستبداد قبل انفجارها بزمن طويل، فقارعوا الإقطاعيين تارةً والإكليروس (النظام الكهنوتي الخاص بالكنائس المسيحية) والبرلمانات تارةً أخرى، فمثلًا: «فرنسوا الأول» لم يكن من القوة الكافية كي يكف الأذى عن أعز أصدقائه «بيركان» من جانب السوربون والبرلمان؛ فأُحرِقَ الأخير حيًا لمدة ساعتين.
والحقيقة هي أن الملوك الفرنسيين استمدوا قوتهم أمام الشعب من التقاليد التي كان يتألف من مجموعها العقد الاجتماعي، فلما تكرّر الجدل في تلك التقاليد أصابها الوهن، ولم يبق منْ يدافع عنها؛ فانهار ذلك النظام من أساسه.
ولم يكن الشعب كما صوّرته لوحة «ديلاكروا» على وِفاق، فقد كانت المملكة الفرنسية مؤلفة من ولايات مستقلة، مختلفة بقوانينها وطبائعها وعاداتها وثرائها أيضًا، وكانت الأمة الفرنسية مؤلفة من ثلاث طبقات: طبقة الأشراف، وطبقة الإكليروس، وطبقة ثالثة مهمَّشة، مع تمسك النظام السابق بسياسة التفريق بين الطبقات؛ لاعتباره ذلك سرًا من أسرار قوته.
فالاضطهاد الذي جاءت به الطبقات الوسطى الظافرة أيام الثورة الفرنسية ناشئٌ عن ميلها إلى الانتقام من ماضٍ طويل احتقرتها فيه طبقة الأشراف والإكليروس، أمّا الطبقات الدنيا، فقد كانت خارج الاعتبار أساسًا. وكان للأشراف والإكليروس امتيازات لا مُبرر لها؛ كل ذلك أدى لانفجار الثورة الفرنسية، وتطور الأمر لسلسلة اضطهادات مرعبة ألغت أي صفة رومانسية يمكن إسباغ الثورة الفرنسية بها كما يدّعي «ديلاكروا» في لوحته.
الأوهام النفسية أيام الثورة الفرنسية
- اعتقد الناس أيام الثورة الفرنسية أن الله قد خلق الإنسان كاملًا، وأن المجتمعات كانت مُثلًا عُليا، وأن الحضارة أفسدتها، وأنَّه يجب العودة إليها، قال روسو: «إن مبدأ الأخلاق الأساسي الذي بحثت عنه في مؤلفاتي يدل على أن الإنسان طيّب بفطرته مُحب للعدل والنظام».
- اعتمد المشرعون إبان الثورة الفرنسية مبدأ فصل الإنسان عن ماضيه وإمكانية تجديد المجتمع بالأنظمة؛ فعزموا على قطع أي صلة به، ودوَّنوا تاريخًا جديدًا وتقويمًا جديدًا مبدِّلين أسماء الشهور والفصول، ولجهلهم فعل الماضي أرادوا القضاء عليه فقضى عليهم.
- الثورة الفرنسية أمُّ بيانات حقوق الإنسان التي نُشِرت بالتتابع في سنة 1789، و1793، و1795، وقد صرّحت كلها بأن «السلطة للأمة». أمّا الشعار الجمهوري (الحرية والمساواة والإخاء) فقد كان له شأن كبير، فهو من الأمثال المبهمة الساحرة للنفوس، والتي فسّرها كل شخص بحسب ذوقه وحقده وخياله؛ فقد اختلف معنى المساواة باختلاف الناس، فعند بعضهم دلَّ على رغبة الإنسان في ألا يرى فوقه أحد، وأن يكون كل امرئ دونه، ومقت كل أفضلية، وإنكار التفاوت الطبيعي، وتوحيد العادات والأزياء والمراتب. وليس صعود نجم نابليون ووصوله إلى سُدَّة الحكم إلا لاكتشافه ما وراء كلمات الحرية والمساواة والإخاء من ميل زعماء الثورة ورغبتهم في الأمر والنهي والتفوق، وقد رأى أن أكثرهم يطمع في المال والترف، فكان لهم ما يتمنون وكان له ما تمنى.
صفات الثورات
مصادر الثورات ثلاثة: المنطق الديني، والمنطق العاطفي، والمنطق العقلاني. والثورة مهما كان مصدرها لا تصبح ذات نتائج إلا بعد هبوطها إلى روح الجماعة، فالجماعة تُتمِّم الثورة ولا تكون مصدرًا لها؛ وعليه لن تقدر الثورة على شيء إن لم يكن لها زعيمًا واحدًا يقودها، فالجماهير تقتدي ولا تبتدع. وقد تفشل ثورة ما إذا لم يدعمها فريق كبير من الجيش؛ فلم تنتهي الملكية في فرنسا يوم قُطِعَ رأس لويس السادس عشر، بل يوم امتنع جنده عن الدفاع عنه. ولا يُقدَّر للثورة أن تستمر ما لم تنسجم مع روح الشعب وماضيه.
وتنقسم الثورات إلى:
- ثورات علمية: وهي أكبر الثورات أهمية، لكنها ذات نتائج بعيدة، وليس للمعتقدات والمشاعر سلطان عليها.
- ثورات سياسية ودينية: وهي الثورات التي تكون فيها المشاعر والمعتقدات مُسيطرة وبشدة، ولا مكان فيها للمنطق، وتحدث في الأمم المحافظة جدًا غير المتحولة لتُلائم تطورات الزمن، فتُكرَه تلك البيئات على ملاءمتها بالثورة، والتي غالبًا ما تكون مُدمِرة وغير مُتسامحة مع المعتقدات المتباينة.
والمفارقة أن الثورة الفرنسية انطلقت في بداياتها كثورة إصلاح ديني سياسي تحت رعاية العقل والمنطق، فما لبثت أن نبذت العقل وصار للقتل والنهب والسرقة والاغتصاب وحرق القرى والمدن والاغتيالات السياسية مكانًا بيّنًا، انزلقت معه فرنسا إلى ويلات عديدة وانقلابات سياسية مزّقت عرى المجتمع الفرنسي، فمثلًا أقُيمت في فرنسا 187 محكمة ثورية، منها 40 محكمة كانت تحكم بالقتل وتُنفِّذ أحكامها مكان الحكم على الفور، وأصبحن الأمهات يَقُدن أطفالهن لرؤية المقاصل وهي تنهال على الرؤوس كما لو أنها رحلة إلى ساحات الألعاب.
يُبدِي الكثير إعجابهم بالثورة الفرنسية، كنموذج ناجح يُحتذى به في انتقال حال الناس من ثنائية (الدين-اللادين) و(الملكية-الجمهورية)، وأنها الأم الرؤوم لبيانات حقوق الإنسان، ويشيدون برمزياتها الفنيّة، انطلاقًا من لوحة «ماري أنطوانيت» وهي تحمل وردة ولوحة «الحرية تقود الشعب»، وحتى روايات الأدب العالمي كـ«البؤساء» لـ«فكتور هوغو»، و«قصة مدينتين» لـ«تشارلز ديكنز».
والحقيقة أن الفوضى هي منْ قادت الشعب الفرنسي لمدة عشر سنوات، قُصِلَت فيها رؤوس كثيرة، وقُتل أشراف الناس على يد أشد الناس غباءً وتطرف، في حين يرى لوبون أن الثمرة التي اقتُطِفَت بعد القيام بكثير من التخريب لابد من نيلها مع سير الحضارة وبلا عناء كبير.
والسؤال المطروح كشعوب عربية: هل من ثمرة تُقطف في بلادنا دون ثورة مُدمِرة؟