بدلاً من ذلك، فقد نال عقوبة السجن لعشر سنوات، بسبب سوء الإدارة (يقصد «دياتلوف»)، لكن ماذا يعني ذلك؟ لا أحد يعلم، ولا أحد يكترث. المهم بالنسبة لهم، أن العدالة قد تحققت. لأنه كما ترى بالنسبة لهم، العالم العادل هو العالم العقلاني، ولم يكن هناك شيء عاقل بشأن «تشرنوبل». ما حدث هناك، وما حدث بعدها، حتى الخير الذي قمنا به، كل شيء أصبح جنونًا.
افتتاحية مسلسل «تشرنوبل – Chernobyl»، على لسان العالم «فاليري ليجاسوف»

كانت هذه افتتاحية مسلسل «تشرنوبل – Chernobyl»، الذي أنتجته شبكة «HBO» الأمريكية، لعرض تفاصيل واحدة من أخطر الحوادث في تاريخ البشرية، كارثة التسرب الإشعاعي في مدينة تشرنوبل السوفييتية.

لكن من كثرة الإقبال على مشاهدة حلقات المسلسل، بدا الأمر وكأن المفاعل انفجر من جديد، والجميع يتهافت ليدرك ما فاته من تفاصيل، لاعنًا الدولة السوفييتية التي كتمت عنا كل هذه الأسرار. لكن إذا تجاوزنا مصداقية الرواية الأمريكية، ولم نعتبرها مؤامرة على الروس -كما سيعتبرونها هم – فإن المأساة بضحاياها تظل واقعًا غير قابل للشك، وللأسف كان لكرة القدم نصيب منها.

مباراة مصيرية

لم تذكر أحداث المسلسل وجود أي حياة لكرة القدم في تلك المنطقة، لكن في الواقع، كان لمدينة «بريبيات» المجاورة لمحطة تشرنوبل فريق محلي يدعى «FC Stroitel Pripyat»، ويمكننا القول إن الرياضة كانت جزءًا مهمًا من حياة هذه المدينة. لكن من سوء طالعهم، كانت الحادثة سببًا في إلغاء أهم مبارياتهم.

فبينما انفجر المفاعل رقم 4، في تمام الساعة 1:23 صباح يوم السادس والعشرين من أبريل/نيسان عام 1986، كان الفريق ينتظر لعب مباراة نصف نهائي كأس كييف أمام «Mashinostroiteli» فريق مدينة «Borodyanka» في نفس اليوم.

حكى «فالنتين ليتفين» بعضًا من مشاهد ذلك اليوم لصفحة «Discover Chernobyl». كان «ليتفين» أحد لاعبي الفريق، يقضي ليلة الانفجار على بعد بضعة أميال في مدينة «يامبل». وفي التاسعة صباحًا، توجه إلى «بريبيات» من أجل التدريب الأخير، ليتفاجأ بالشرطة توقفه عند مدخل المدينة، حاول أن يستفسر منهم عما حدث، لكن أحدًا لم يجبه.

استكمل «ليتفين» طريقه إلى الإستاد، وكانت ملامح الحياة في الشارع تبدو طبيعية، فلم يكن أحد من السكان يدري هول الفاجعة بعد. وصل «فالنتين» وبقية اللاعبين، ليتم إخبارهم بتوقيف حافلة فريق «Mashinostroiteli» خارج المدينة. فتوجه على الفور لمقر إدارة النادي، ليخبره أحد المدربين أن طائرة هيليكوبتر هبطت على أرض الملعب، نزل منها عدد من الرجال يرتدون ملابس واقية وبحوزتهم كاشفات الإشعاع، قد أخبروهم بانفجار المفاعل، وبالطبع إلغاء المباراة.

مدينة متكاملة

تحول اهتمام «ليتفين» من كرة القدم إلى زوجته القابعة في إحدى مستشفيات المدينة، بسبب مضاعفات ما بعد ولادة طفلهما الثاني. كان المشهد بالمستشفى تمامًا كما جسده المسلسل، فوضى وهرولة من كل جانب، لكنه استغل ذلك ليهرِب زوجته من المستشفى، ثم هربا معًا خارج المدينة لأن الجميع كان محبوسًا بداخلها، ولم تبدأ عملية الإجلاء سوى بعد 36 ساعة.

كان مشهد هروب «ليتفين» تجسيدًا للواقع الذي سينتهي إليه المشروع الحالم للنادي، والمدينة نفسها. لأنهم كانوا مرتبطين بذلك المفاعل، بقاؤهم من بقائه، وزوالهم من زواله. فمدينة «بريبيات» التي ظهرت على السطح في عام 1970، كان السبب الرئيسي لوجودها هو أن تصبح واحدة من واجهات الاتحاد السوفييتي الصناعية، التي تستخدم الطاقة النووية النظيفة بدلاً من المصادر الأخرى كالفحم.

وصل عدد سكان المدينة إلى ما يقارب الـ50 ألفًا، من ضمنهم العاملون في محطة تشرنوبل وعائلاتهم. كان خمسهم يبلغ أقل من 18 عامًا، وإجمالاً كان متوسط الأعمار 26 عامًا، لذا كان للرياضة مكانة خاصة في حياة «بريبيات». فاحتوت المدينة على سينما، حديقة ألعاب ترفيهية، 3 حمامات سباحة، ملعبي كرة قدم، 10 صالات للرماية، 10 صالات رياضية «gym».

أما النادي، فتم إنشاؤه في منتصف السبعينيات، على يد العمّال المساهمين في بناء محطة تشرنوبل، ومن هنا جاء المقطع الأول من اسمه «Stroitel»، وتعني بالأوكرانية بنّاء. كان ذلك بدعم من مدير البناء «فاسيلي كيزيما»، الذي كان واحدًا من المرموقين وسط الدوائر السوفييتية، والحاصل على وسام «لينين» نظير جهوده.

لدي عمال يعملون على 4 فترات يوميًا، ولا يملكون مكانًا يذهبون إليه للترفيه. دعهم يذهبون لمشاهدة بعض كرة القدم واحتساء البيرة.
«فاسيلي كيزيما» عن أهمية النادي

من الطموح إلى الانقراض

ورغم وجود الفريق بمنافسات الدرجة الخامسة في الدوري المسمى بـ«KFK Championship»، إلا أنه حظي بعدد لا بأس به من المشجعين، وكان يأتي لمشاهدتهم ما يقارب الألفي مشاهد وفقًا لما ذكره مدافع الفريق «ألكسندر فيشنفسكي».

بدأ الفريق يتقدم بخطى ثابتة، مستقطبًا النجوم بدعم من الحالة الاقتصادية الجيدة للمدينة، خاصةً من قرية «Chistogalovka»، المشهورة وسط منطقة «كييف» بمواهب فريقها لكرة القدم. وكان أبرز هذه الخطوات، هو تعيين «أناتولي شيبيل» مدربًا للفريق عام 1981. كان «شيبيل» لاعبًا دوليًا سابقًا للاتحاد السوفييتي، وسبق له اللعب لدينامو كييف، وكانت خطوة تعيينه مفاجئة لنادٍ بهذا الحجم.

تمكن فريق «بريبيات» من الفوز بكأس المنطقة أعوام 1981، 1982، 1983، لكنه ظل عالقًا في دوري «KFK»، حتى استطاع في عام 1985 تحقيق المركز الثاني، وبدا أن طموحاتهم في طريقها للزيادة، وباتوا يحتاجون لملعب جديد يرتقي لها.

تم الانتهاء من الملعب الجديد في العام التالي، بسعة 11 ألف متفرج، وبمزيد من الأضواء الكاشفة والخدمات، وتم تحديد موعد الافتتاح في الأول من مايو لعام 1986، أي بعد كارثة تشرنوبل بأيام قليلة، التي أتت لتُذهب كل هذا أدراج الرياح.

انسحب فريق «FC Stroitel Pripyat» من المنافسات في عام 1986، ثم ذهب بلا رجعة مع تهجير المدينة برمتها، ليستبدل بنادٍ آخر رفقة مجموعة من اللاعبين السابقين لمدينة «بريبيات»، حمل اسم «FC Stroitel Slavutych». لكن النادي الجديد لم يستمر كثيرًا، واكتفى بالمشاركة في درجة الهواة عامي 1987، 1988، ثم تم حله. ثم في عام 1994، ظهر نادي «FC Slavutych» من جديد، بديلاً لنادي «FC Transimpeks» المفلس. لكن النادي الجديد لم يكن له أي علاقة بسالفه، لكنه اشترك معه في النهاية، وتم حله هو الآخر في عام 1998.

لا أحد يدري إلى أي مدى كان سيصل نادي مدينة «بريبيات»، وهل كانوا حقًا يمتلكون مواهب استحقت المشاهدة لولا الكارثة؟ لكن الواقع يفيد بأن كرة القدم كانت ضحية من ضحاياها، والإستاد الذي كان مخططًا له احتواء مشجعي كرة القدم في هذه المدينة، تحول إلى مبنى مهترئ وسط الأشجار، يزوره السياح لالتقاط الصور وليس لمشاهدة كرة القدم.