ثؤلول: الزوائد الإنسانية المسكوت عنها
تحكي ميس خالد العثمان في روايتها «ثؤلول» كيف قامت قيامة الكويت لمدة سبعة أشهر، تحكيها من منظور الفتاة «سلوى» المراهقة التي تعرَّضت للاغتصاب في حين تعرَّض وطنها للاجتياح. تَحكي وقائع يوميَّة وتحوُّلات دراميَّة عاشتها جرَّاء اغتصابها من قبل جندي عراقي في بيتها، تحت سمع وبصر أسرتها التي تركتها تواجه مصيرها وحدها خوفاً من القتل.
طِفلة لبست ثِياب السَّيدات على عَجَل، بل على حين سقْطَة
«انا كائن لا مرئي، كائن شفاف لا يترك وراءه إلاَّ الخيبة والسؤال»هكذا تصف سلوى نفسها في أولى صفحات الرواية، تحكي الرواية كيف تحولت سلوى فجأة إلى امرأة ببطن منتفخة تنتظر مولوداً تسمِّيه أسرتها «ابن الغريب» وهي فقط في الثَّالثة عشرة من عمرها، كيف نبذتها الأسرة وتعاملت معها وكأنها ليست موجودة، يهربون من الفضيحة بأن ينكروا وجودها، ربما كانوا يهربون من خُذلانِهم لها وقت الاجتياح/الاغتصاب خوفاً من أن يقتلهم «الغريب»، فتركوه يسحقها وحدها.وكأن الكاتبة تصف كيف تحولت «الكويت» فجأة بعد الغزو العراقي، فهي لم تمهد للاجتياح/الاغتصاب الذي تعرضت له سلوى/الكويت قبل أغسطس 90، فجأة تحولت الكويت للمحافظة رقم 19 التابعة للعراق، وتحولت سلوى لـ«ثؤلول» يؤرِّق جَلَد أسرتها ولا يقدرون على انتزاعه.تحكي سلوى أيامها في المنزل، مرة أخرى تدمج الكاتبة بين سلوى والكويت أو تجعل إحداهن صورة للأخرى دون أن تُفصح عن ذلك، فقد استمر الغزو العراقي للكويت سبعة أشهر، بقيت فيهم سلوى في المنزل لا تبارحه، ثم رحل العراقيون وسافرت سلوى لمصر كي تلد «ابن الغريب».تحكي الكاتبة عن جراح سلوى/الكويت طوال السبعة أشهر، تنقل لنا كيف تفكك المجتمع وكيف نقص الغذاء وتم نهب المنشآت، كيف سافر المواطنون وكيف نُكِّست رأس من بقى منهم، كل هذا لم تنقله الكاتبة عبر تقارير جامدة أو إحصاءات، بل نقلته على لسان سلوى بتمكن عبقري من ناصية اللغة التي تجعلها تشق القلب حزناً على سلوى/الكويت، وتشبيهات ساخنة سخونة السبعة الأشهر التي عاشتهم سلوى/الكويت تحت الغزو العراقي.الغريب الذي أصبح فجأة «إياد»«أخاف من جنيني وأخشى عليه، فأي ارتباك هذا». كانت سلوى في حملها تنسج أحلاماً أنَّ طفلها هذا سيكون مخلِّصها من عذابات أهلها، كانت تعرف أنهم يكرهون وجوده كونه «ابن الغريب» ولكنه سيكون «سلوتها» في عالمها الذي تعيش فيه وحيدة بعد أن قرر أهلها أنها غير مرئية، ولكن رغم إيمانها العميق أن طفلها هذا سيحميها بشكل ما، إلا إنها لا زالت تخاف منه، فهو في كل الأحوال نتاج الاجتياح/الاغتصاب أو كما يسمونه في الكويت «مواليد الغزو الله لا يعيده»قررت سلوى أن تسميه «جابر» وقررت أيضاً أن تخلع عليه صفة الشرعية ولو للحظة واحدة عندما أخبرت أمها أنه «يشبه إياد» لتخبر أمها للمرة الأولى باسم الغريب العراقي الذي حول حياتها تماماً دون أن يَرِفَّ له جفن، ودون أن يعرف حتى أنها سمعت اسمه حين ناداه رفيقه.في تلك اللقطة شخصنت الكاتبة الغزو للمرة الأولى، وربما كان ذكر اسم المغتصب غرساً للحنين الذي سوف تشعر به سلوى لاحقاً يطاردها في أحلامها بعبق ذكوري، يجعلها تتمنى لو كان الاغتصاب حباً بدلاً من أن يكون ألماً حدث في لحظات وتركها تعاني ما تبقى لها من عمر.
«سلّاوة» الأخت الكبرى لجابر
قررت أسرة سلوى أن يكون الطفل ابناً لهم وأخاً لسلوى، فقد أنجبته ابنة الثلاثة عشر عاماً رغماً عنها ودون زواج، قرروا أن يكتبوه باسم أبيها وأمها ويكون «جابر» أخوها على الورق وأمام الناس وحتى داخل الأسرة.تحكي سلوى في البداية عن مشاعرها الأمومية المتقدة، تحول درامي شديد للطفلة التي كانت مهووسة بدُمَى باربي والتي أصبحت فجأة أم مطلوبٌ منها أن تتصرف كأخت، وتعيش كثؤلول. استطاعت الكاتبة أن تدمجنا في هذا الجو المربك عير تفاصيل يومية صغيرة جداً، تعيشها البطلة يومياً مع ابنها/أخوها الذي يكبر معها جنباً بجنب، ويدلِّلها سلّاوة ويعشقها كأخت كبرى حنون.كانت سلوى تقدم لأخيها/ابنها إجابات عن كل الأشياء، رغم أنها أحياناً يصيبها الارتباك من تعقيد المشاعر الإنسانية التي نعيشها جميعاً، فعندما سألها ذات يوم عن سبب بكاء أمه/جدته واحتارت كيف تجيبه وفكرت أن «كيف لي أن أخبره بأننا يصعب تفسيرنا؟ وأننا أحياناً تفرحنا الأحزان وتبكينا الأفراح؟ كل مشاعرنا تحددها مدى استفادتنا مما يحدث». وكأن الكاتبة في تلك اللَّقطة ترسِّخ لموقف سلوى من جابر ابنها/أخيها، فقد أهداها جابر الفرح خالصاً رغم أنه وُلد من رحم القسوة، مشاعرها نحوه كانت تخصها هي وحدها دون أي منطق للأحداث.
يوسف، الطبيب/الصَدِيق
تكبر سلوى وتقرر أن«أحمي نفسي التي تشوَّهت بالضياع كي لا أتمرغ في الجحيم أكثر، وكي لا أصاب ببلادة فجائيَّة ،ولا أضيع في مساحات جديدة من الفراغ» فتذهب للطبيب النفسي الذي نعيش من خلال جلساتها معه بقية الأحداث.يستمع الطبيب/الصديق إلى نضجها، إلى كوابيسها، إلى تخطيها اختبارات الجامعة، إلى علاقاتها بالعمل، إلى الهواء النظيف الذي تتنفسه مع جابر، يدعمها «يوسف» عبر جلوسه خلفها وهي متمددة على الشيزلونج في العيادة في قراراتها جميعاً، يتركها تتَّخذها ثم يدعم قوَّتها، يفرح معها عندما يقع جابر في الحب، ويدعمها عندما تقرِّر أن تقف في وجه أسرتها للمرة الأولى كي تجعله يتزوج من أحببها.كانت الكاتبة هنا ترسخ لفكرة نضوج المرأة ككل في المجتمع الكويتي، فلم تستسلم للسقوط رغم كل ما حدث، ولكنها ذهبت للطبيب النفسي خُفيَة عن أسرتها، ساعدت نفسها ولم تنتظر أن تساعدها أسرتها أو أن يعترف المجتمع بأن الغزو لم ينتهي في سبعة أشهر فقط كما دونت كتب التاريخ.غرست الكاتبة للتحول الذي سيطرأ في علاقة سلوى والطبيب عندما أصرَّت أن تطلق عليه صديقاً في كثير من الأحيان، فإذا كان يمكن للطبيب أن يصبح صديقاً ذات مرة، يمكنه أيضاً أن يصبح حبيباً ذات عمر. كانت نهاية الرواية مُشرِقَة رغم كل شيء، فقط ظلَّت سلوى/الكويت وجهان لعملة واحدة، نهَضَتا رغم ما حدث في أغسطس 90 على الرغم من أنهما حملَتا تبعاته طويلاً وإلى الآن. استطاعت ميس خالد العثمان أن تكتب تاريخ الكويت حباً في المرأة وإيماناً بها، وثقة في المشاعر الإنسانية الأساسيَّة التي تُسيِّر العالم، المشاعر التي يمكنها أن تَجبُر كسر المرأة التي أحبَّت الكويت ولم تستطع أن تكره العالم.