في عالم غابت فيه السياسة، وحضرته البلطجة السياسية، غابت فيه الدبلوماسية، وحضرته الشعبوية الخطابية، يبحث رئيس أكبر دولة في العالم عن إنجازاته، فلا يجد إلا انسحابًا من المعاهدات الدولية، بدءًا من معاهدة الشراكة عبر المحيط الهادئ (TPP)، واتفاقية باريس للمناخ، ومنظمة اليونسكو، وميثاق الأمم المتحدة العالمي للهجرة، والمجلس الدولي لحقوق الإنسان (التابع للأمم المتحدة)، وأخيرًا أتى على ما اعتُبرت الإنجازات الأهم لسلفه، باراك أوباما، فألغى أولًا الاتفاق الذي وقعه أوباما لرفع العقوبات عن كوبا، وانسحب تاليًا من الاتفاق النووي مع إيران، وأعلن قبل أيام اعتزامه تقويض واحدٍ من أهم مخرجات الحرب الباردة بين بلاده والاتحاد السوفيتي البائد، الاتفاق النووي الروسي.

لا يبدو مفعول ترامب إلا تدميريًّا، لذلك فالرجل حريصٌ كل الحرص على تشييد تحالفات، تبدو للعالم قوية بما يكفي ليكون إرثًا لرئيس أمريكي، يعتبر نفسه الأفضل والأذكى من بين الرؤساء الأمريكيين، لكن من يثق برجل يسحب بلاده من الاتفاقيات التي ظلت صامدة لعقود؟

الجميع يعرف الإجابة، ليس ترامب وحده الذي فطن إليها.


الناتو العربي وصفقة القرن «أوهام ترامب»

طوال عمري وأنا أسمع أن هذه الصفقة هي الأصعب إبرامًا في العالم. إذا كنت لا تستطيع إحلال السلام في الشرق الأوسط فلن يتمكن أحد من ذلك.
دونالد ترامب لكوشنر – فبراير/ شباط 2017

يعتقد دونالد ترامب أنه فريد، وأن المهام الصعبة التي فشل في حلها السابقون كأنما تُركت له، وأول هذه المهام القضية الفلسطينية. مذ كان مرشحًا رئاسيًّا وهو يعد بحلها، حلًّا نهائيًّا، والحق أنه اتخذ بحقها عددًا من الخطوات التي لم يجرؤ أيٌ من الرؤساء الأمريكيين على مجرد التحدث بها، لكنه وفقًا لتقدير الكثيرين مشى في الطريق الخطأ. وهذا التقدير لا يكمن في كوننا عربًا، وأن الخطوات التي اتخذها رئيس الولايات المتحدة لم توافق مصالحنا، لكن المتابع للتدخلات الأمريكية التاريخية في القضية يستبصر دعمًا لا نهائيًّا للجانب الإسرائيلي مغلفًا بإطار من الدبلوماسية، وبعض القرارات الرضائية بحق خصمهم الفلسطيني، أما تلك التي اتخذها ترامب فغُلفت بعكس ذلك تمامًا؛ انحياز كامل وصلف مطبق.

الناتو العربي،ظهرت الفكرة لأول مرة للعلن في القمة الإسلامية – الأمريكية، التي استضافتها الرياض مايو/ آيار قبل الماضي، وتبعها حصار قطر. مفارقة دالة على مآل الفكرة، قبل أن تدخل حيز التنفيذ أو تضع لها الدول جداول أعمال.

هذه التقدمة التي أفردنا لها المساحة السابقة هي مدخلنا لمناقشة مؤتمر وارسو، الذي دعت له الولايات المتحدة الأمريكية، وعُقدت جلساته الأربعاء والخميس الماضيين، في العاصمة البولندية.

تأتي أهمية هذا المؤتمر كونه أول اجتماع عربي – إسرائيلي معلن منذ مؤتمر مدريد 1991 (أول اجتماع عربي – إسرائيلي معلن على الإطلاق)، الذي جاء بعد أشهر قليلة من انتهاء حرب الخليج الثانية. وتجدر الإشارة هنا إلى المفارقة حول الظروف التي عُقد فيها مؤتمر مدريد. كان الظرف الدولي مؤاتيًا، حيث الانهيار السوفيتي، الحليف الاستراتيجي التي كانت بعض الدول العربية تلتجئ إليه للحصول على السلاح، والدعم في المحافل الدولية، وعربيًّا كانت حرب الخليج إيذانًا بتفكك الوحدة العربية، وانهيار أقوى جيوشها (الجيش العراقي) الذي كان يُعول عليه في أي مواجهة محتملة مع الاحتلال، كذلك تمدد النفوذ الأمريكي بعد الحرب في المنطقة، لاسيما في الخليج العربي (حلفاء الحرب).

ولأن التاريخ كما قال كارل ماركس، يعيد نفسه مرتين، مرة كمأساة، والثانية كمهزلة، فمؤتمر مدريد كان هو المأساة، وهذا الحالي هو المهزلة.


لماذا وارسو؟

لم يُعرف أن بولندا لها اهتمام كبير بالشرق الأوسط، لماذا إذن تستضيف هذا الاجتماع الذي يُفترض أن يكون مصيريًّا للمنطقة العربية والشرق الأوسط؟

للتعرف على الإجابة نرجع بالذاكرة قليلًا. يوليو/ تموز 2017، الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في زيارة مرتقبة إلى ألمانيا، لحضور قمة العشرين، وقبل أن تهبط طائرته في مطار العاصمة برلين بيومين، حطت في مطار وارسو.

أوروبا التي كانت متهيئة لاستقبال الرئيس ترامب، بعد أقل من عام على فوزه في الانتخابات، وجدته يحط في الدولة الأوروبية الأشد خلافًا مع الكتلة الأوروبية. بولندا التي تحكمها واحدة من أشد حكومات أوروبا يمينية (حكومة القانون والعدالة – اليمينية الكاثوليكية)، ترفض إملاءات الكتلة الأوروبية، ككوتة اللاجئين على سبيل المثال، وتعامل أوروبا كـ «سوبر ماركت»، على حد وصف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

اعتبرت بولندا زيارة ترامب لها كمحطة أوروبية أولى ضمن جولة مهمة اعترافًا بالمسار الذي تنتهجه حكومتها، وتعضيدًا لمواقفها المخالفة للكتلة الأوروبية، ومن هنا بدأت علاقة شبه حميمية بين الرئيس ترامب وحكومة بولندا. على الجانب الآخر اعتبرت ألمانيا الزيارة إهانةً لها، وتذكيرًا – قصده ترامب – بالحقبة النازية، وما مارسته تجاه وارسو. كذلك ترغب بولندا تحت رئاسة أندريا دادا، اليميني الشعبوي، في إنشاء قاعدة أمريكية على الأراضي البولندية، طمعًا في الحماية أمام التوحش الروسي، ويتلهف بعض البولنديين إلى رؤية قاعدة عسكرية أمريكية كاملة في بلادهم، والتي يطلقون عليها من الآن «فورت ترامب» أو قلعة ترامب.

من أجل هذه العلاقة الخاصة بين الرئيس ترامب وحكومة بولندا، كان اختيار وارسوا قرارًا دبلوماسيًّا رائعًا بالنسبة للبولنديين، في إطار من الشعبوية التي تظلل تحركات ترامب.


بين الوهم والحقيقة

جاءت فكرة المؤتمر في البداية كمحاولة من ترامب للضغط على إيران، وجمع شمل أعدائها في كيان واحد جنبًا إلى جنب مع الولايات المتحدة الأمريكية، لكن الطموحات تجاوزت الممكنات، لاسيما وأن هذا الهدف ليس محلًا للإجماع الغربي، فالدول الأوروبية سبق أن أعربت عن استيائها من انسحاب ترامب من الاتفاق النووي.

هذا الانقسام بدأ بالظهور مبكرًا، في المراحل التحضرية للمؤتمر، مع تأكد حضور عدد قليل جدًّا من الشخصيات البارزة، وغياب العدد الأكبر. هذه الصدمة خففت من حدة الخطاب الأمريكي إزاء المؤتمر،وجعلت الأهداف فقط تتركز حول بعض القضايا العامة مثل تحديات الأوضاع الإنسانية، وأوضاع اللاجئين، والحد من انتشار الصواريخ، وتهديدات القرن الحادي والعشرين مثل القرصنة الإلكترونية والإرهاب.

حضر إلى وارسو، مايك بومبيو، وزير الخارجية الأمريكي ونظيره البريطاني، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إلى جانب وفود دبلوماسية عربية رفيعة المستوى عن كل من السعودية والإمارات والبحرين والكويت وعُمان واليمن والأردن والمغرب و قطر*، بينما غابت روسيا وتركيا والمفوضية الأوروبية وبالطبع إيران، وحضرت تمثيلات ضعيفة عن الدول الأوروبية، وبعض الدول العربية المهمة كمصر وتونس. اللافت في المؤتمر أن جاريد كوشنر، مبتعث ترامب إلى الشرق الأوسط، والمقرب من نتنياهو، كان مقررًا له إلقاء كلمة في المؤتمر، برغم حضور وزير خارجية بلاده.

كوشنر، الذي أُسند إليه ملف الشرق الأوسط، واضِع خريطة السلام المعروفة إعلاميًّا بصفقة القرن، والتي لم تعرف تفاصيلها إلى الآن، كان حاضرًا وله كلمة خاصة، ما جعل المتابعين يعتبرون أن قضية السلام العربي الإسرائيلي محل اهتمام المؤتمر، والإدارة الأمريكية، لكن غياب السلطة الفلسطينية عن المؤتمر لا يشي بهذا الذي ذهبوا إليه.

يبقى الهدف الأبرز هو ذلك الذي عبر عنه بنيامين نتنياهو، في أنه يأمل في حشد الشركاء الإقليميين والدوليين لتقويض المشاريع الإيرانية في المنطقة، وكان قد غرد من وراسو، على تويتر، بأن ثمة مساعي لشن حرب على إيران.أحدثت تغريدته ضجة كبيرة، ما دفعه لحذفها، واستبدال تغريدة أخف حدة بها. تتماشى طموحات ترامب مع طموحات نتنياهو وابن سلمان ورابعهم ابن زايد، لكن في الوقت الذي انعقد فيه مؤتمر وارسو كانت إيران في اجتماع مع روسيا وتركيا في سوتشي، لبحث الوضع السوري، لا تعبأ بهم، ولا تبدي ارتيابًا مما يخططون.

كثيرون شككوا في نجاح المساعي الأمريكية، فبينما يشاطر الأوروبيون أمريكا خوفها من الأنشطة النووية الإيرانية، لا يتفقون معها حول آليات الردع، ولن يكونوا جزءًا في أي حرب قادمة تجاه إيران، وإذا ما كانت الولايات المتحدة تعوِّل على الجيوش العربية، فإن السعودية والإمارات في اليمن منذ ما يزيد عن ثلاث سنوات لا تكادان تحققان انتصارًا على مليشيات تدعمها إيران، ومصر أكبر الجيوش العربية لا تولي اهتمامًا لأي صدام عسكري خارج أراضيها، ولم تحضر المؤتمر بتمثيل قوي، فمن إذن يمكنه فتح جبهة حرب أمام إيران؟

يبدو المؤتمر دعائيًّا أكثر منه تنسيقيًّا، وهو أقرب إلى المهرجان منه إلى المؤتمر، وأغلب الحاضرين إليه لا يملكون إلا الأحلام، أو خطب ود ترامب.


* أضفنا قطر للدول المشاركة بتمثيل قوي (بتاريخ 17 فبراير)، لحضور وزير خارجيتها محمد بن عبدالرحمن.