حرب بدون رصاص: لماذا يجب أن تذهب الرياضة وجمهورها للجحيم؟
في عام 1985 نشر «نعوم تشومسكي» أستاذ اللغويات الأمريكي مقالًا أصبح علامة في علم الاجتماع، وهو: حدود الأفكار التي يمكن التفكير فيها «Bounds of thinkable thought».
ناقش تشومسكي في هذا المقال ما حدث في حرب فيتنام وكيفية تعامل الإعلام معه. دخل الجيش الأمريكي فيتنام في الستينيات وارتكب عددًا لا بأس به من المذابح وخرج في النهاية مهزومًا بعد أن فقد عددًا ضخمًا من الجنود وقدرًا هائلًا من الأموال.
حدثت صدمة عنيفة بالطبع للمجتمع الأمريكي حين انهزمت أمريكا في أول معركة في تاريخها، وانتقد الإعلام ما حدث بشتى الطرق، ووجه الانتقادات للمسئولين السياسيين والعسكريين بأنهم دخلوا ميدان معركة لم يألفوه كغابات فيتنام، وأنهم لم يدرسوا أو يخططوا للحرب بشكل صحيح.
بدا الأمر في قمة الديمقراطية وحرية التعبير التي تسمح بانتقاد المسئولين، والخطط العسكرية.
النقطة التي لاحظها تشومسكي هي أنهم لم يتطرقوا لسؤال لماذا دخلنا فيتنام من الأساس؟ انتقد الجميع التجهيزات العسكرية والاستراتيجية، ولكن أحدًا لم يشكك في نوايا أمريكا للحرب أو ينتقد ذهابها لفيتنام.
الفكرة التي استنتجها تشومسكي من الأمر هي أن لكل مجتمع حدودًا للتفكير لا يمكن أن يخرج عنها، يدور في داخلها وينزع إلى حوافها لكنه لا يتعداها. من الممكن أن يخرج عنها قلة من المفكرين ولكن من الصعب أن يخرج عنها المجتمع ككل.
وحين ننظر إلى كرة القدم والرياضة عمومًا، ستجد أن فكرة تشومسكي تنطبق تمامًا.
بينما تظن أن مجتمع كرة القدم أكبر مما يجب، وليس مجتمعًا مغلقًا يعتنق نفس الأفكار، فهو ليس كذلك، ويشترك مشجعو كرة القدم حول العالم في أغلب الأفكار، وفكرة تناقشها أنت وزميلك في مقهى بالقاهرة قد ناقشها قبلكم زميلان في شوارع لندن، وقد تختلفان في طريقة النقاش، لكن المشترك أن حدود التفكير التي تصلون إليها واحدة، تمامًا كحدود المجتمع الأمريكي الذي لا يسأل عن نوايا قادته.
خرافة الرياضة العظيمة
إذا سألناك عن الرياضة ودورها في المجتمع أو عن دورها في وقف الصراعات بين الشعوب أو طلبنا منك أن تصنفها بين خير وشر، ما أول ما يتبادر إلى ذهنك؟
تحضر الرياضة دائمًا كممثل للخير والسلام، وكشيء شريف طاهر نقي، يحل الصراعات السياسية ويجمع الناس لا يفرقهم، وأول ما يتبادر إلى ذهنك هي المشاهد التي أكدت فيها الرياضة ذلك، لكنك بقصد أو بدون تتجاهل كل ما دون ذلك.
هذا مجال ينتشر فيه التعصب والإهانة والعنصرية وتناول المنشطات والأمراض النفسية، وتلعب دورًا في تلميع السفاحين وتبييض صورة الأنظمة الديكتاتورية، وتدخلها أموال مشبوهة في كل وقت، ويحكمها الفساد منذ يومها الأول، فمن أين يأتي مفهوم الشرف هنا؟
في 1969 كانت مباراة كرة قدم بين السلفادور وهندوراس بداية لحرب بين البلدين، وتشاحن الشعبان المصري والجزائري لسنوات بسبب المباراة الفاصلة في 2009.
في 1993 وفي مباراة للتنس بهامبورج بألمانيا تسلل مشجع للملعب وطعن اللاعبة اليوغسلافية مونيكا سيليش في ظهرها، والسبب؟ أنه يشجع الألمانية شتيفي جراف وأراد أن يمنحها فرصة اعتلاء التصنيف العالمي بينما تعالج سيليش من طعنته، هذه الطعنة استغرقت سنتين من العلاج وأنهت مسيرة البطلة اليوغسلافية تقريبًا.
أضف إلى ذلك تاريخًا طويلًا من حوادث العنف بين المشجعين تركت آلاف القتلى، وتاريخًا سيئًا من الاستغلال السياسي عبر هتلر وموسوليني وفرانكو وستالين، ولم ينقطع حتى الآن، فلماذا تتجاهل كل ذلك حين تفكر في الرياضة؟
هذه «خرافة الرياضة العظيمة» كما يسميها «جاي كوكلاي» أستاذ علم الاجتماع بجامعة كولورادو الأمريكية، والذي كان يتعجب من ربط الناس الدائم للرياضة بالصفات الجيدة، وافتراضهم أن كل هذه الجرائم والتصرفات مسئولية أصحابها فقط، دون أن يطعنوا في الرياضة نفسها.
بالطبع، لا نقصد نحن ولا كوكلاي أن عليك التوقف عن متابعة الرياضة، لكن لا تضف إليها هالة غير حقيقية وتفترض فيها عكس ما أثبتته منذ نشأتها.
ولا تناقش هذا مع مشجع آخر لا في القاهرة ولا في لندن، لأنه سيعتبر ذلك مزاحًا، هذا أحد حدود التفكير التي لا يتعداها جمهور الرياضة.
الكرة للجمهور
يتقاضى اللاعبون الملايين، والمدربون أيضًا، يستخدم السياسيون الرياضة لأغراضهم، وإدارات الأندية لها أهدافها الخاصة، لكن ماذا عن الجمهور؟ هذا العنصر الوحيد الذي لا يستفيد أي شيء من اللعبة برغم أنه يمولها من جيبه.
ولذلك فهو الطرف الوحيد الذي يمكنه السخرية وتوجيه الإهانات والشتائم الجنسية والعنصرية، والوقوف في المدرجات لسباب الجميع، وملاحقة اللاعبين عبر مواقع التواصل لتحويل حياتهم إلى جحيم.
وكرياضي، يمكنهم أن يسبوا والدتك أو يهينوا عائلتك، أو يحولوا أسرتك لنكتة يضحكون عليها متى أرادوا، لكن لا يمكنك أن ترد عليهم أو تنتقد تصرفهم، هم الطرف المحصن الوحيد في المعادلة.
لماذا؟ هذا هو الطرف الأقل عقلًا والأكثر همجية والأشد عنفًا والأكثر عددًا والأهم تأثيرًا، وفي أي جمهور قل عدده أو كثر سيكون هناك الآلاف من البشر السيئين، وتصرفات هؤلاء ستطغى على الجميع لأنهم الأعلى صوتًا، وفي كل مرة يخرج هذا التجمع بأسوأ تصرف ممكن.
وينخرط الجميع بعد ذلك ليكرر نفس التصرف، في شكل من أشكال «الضبط الاجتماعي» وهي آلية لضبط سلوك الأفراد داخل المجتمع الواحد، سلوكيات مشتركة يفعلها الجميع تعزز من التآلف بين أفراده، سواء كانت تلك الأفعال مناسبة من الناحية المنطقية أو الأخلاقية، لا يفكر المعظم في الغاية من هذا الفعل بقدر تفكيرهم بأن الفعل يحدث لأنه يحدث.
قد لا ترغب أنت في شتم لاعب معين، أو السخرية من آخر، لكن سلطة الجموع ورغبتك في الانتماء للجماعة الكبرى هي ما تدفعك لتجاري هذه التصرفات، ومع الوقت تفعل ذلك دون أن تفكر في تماشيه مع أخلاقك ومبادئك.
لماذا يسب الجمهور اللاعبين؟ لماذا يسخر المشجعون من اللاعبين؟ ولماذا لا يمكن أن يرد اللاعب على الجمهور؟ هذه أشياء تحدث لأنها تحدث.
قفشه الوديع
في مباراة السوبر الأفريقي الأخيرة وبعد فوز الأهلي بركلات الترجيح، توجه قفشه لأحد لاعبي الرجاء المغربي ليواسيه بعد أن أضاع ركلة الجزاء، دقائق وانتهى الأمر وتسلم اللاعبون الميداليات وعادوا لمنازلهم.
لكن الجمهور لم يعجبه ذلك، وخرج بعضهم لينتقد قفشه، ويتهمه بالميوعة وإضاعة حق الفريق، فقط لأنه واسى لاعب الخصم.
هؤلاء مجموعة من المشجعين يجهلون موقع الرياضة من حياتهم وقيمتها في الحياة، وقرروا أن مصلحة فريقهم أيًّا كانت أهم من العلاقات الإنسانية بين اللاعبين.
وقفشه قد وصله هذا بالطبع وقد ينفذ ما طلبوه في المرة القادمة حتى لا يغضبهم، رغم أن هذه أحد الآراء التي سار فيها القطيع بأبطأ سرعة ممكنة.
مع الوقت ستكتشف أنه لا نهاية لذلك، وكل رأي منحط ستجد رأيًا أكثر انحطاطًا منه، ويحدث هذا لأنه يحدث، دون أن يفكر أحد في كسر حدود التفكير ليخبر الجميع أنهم مخطئون.
بلا مقابل
هل تعلم أن بطل الدوري المصري لا يحصل على أي أموال؟ وبطل الكأس يحصل على مليون جنيه مصري فقط، ماذا عن بطل دوري أبطال أفريقيا؟ يحصل على 2.5 مليون دولار .
هل تعلم كم تكلَّف استقدام بيرسي تاو من إنجلترا للأهلي؟ مليونا يورو، و3.5 مليون يورو أخرى سيتقاضاها كراتب في مدة تعاقده، معلول جدد تعاقده براتب قريب.
هل أدركت ما نقصد؟ الأهلي ليس الوحيد، بيراميدز الذي يدفع مئات الملايين كرواتب لنجومه، والزمالك كذلك.
الأهلي استقدم بواليا وبادجي وأزارو وباكاماني وجيرالدوا مقابل ملايين الدولارات، ثم تخلَّى عنهم ولم يسأل أحد من أين أتت تلك الأموال؟ ولماذا أُهدرت بهذا الشكل؟
صحيح أن كرة القدم ليست مشروعًا، ويجب لها ألا تدر ربحًا، لكن هناك منطقًا ينبغي أن يحكم الأمر، لكن اتفق الجمهور على ألا يسأل، دعنا ننتظر الصفقة القادمة والملايين التالية المهدرة ولا نتخطى حدود التفكير التي اتفق المجتمع عليها.