في عام 1789 اشتعلت الثورة الفرنسية بشعار جذاب «الحرية والإخاء والمساواة». بعدها بسنوات، وفي 1798 طرقت حملة عسكرية فرنسية أبواب مصر والشام، في أول اختراق عسكري للقلب الإسلامي في العصور الحديثة. وتزعم «مدرسة بونابرت» في كتابة التاريخ أن حملة فرنسا العسكرية لم تطرق أبوابنا إلا لكي تنقلنا من ظلمات العصر العثماني/ الإسلامي إلى أنوار الحداثة الأوروبية، وتُطبِّق علينا شعار ثورتها الجذاب «الحرية، الإخاء، المساواة».

هذه الرؤية ليست إلا محض أسطورة، فالثورة الفرنسية لم تُطبِّق شعارها حتى على مواطنيها الفرنسيين، وفاقد الشيء لا يعطيه.

ثوار باريس لم يثوروا فقط على الملكية والنظام الإقطاعي في فرنسا، ولم يثوروا على تحكم الكنيسة، وإنما ثاروا على الديانة المسيحية، وفارق كبير بين رجال الدين والدين، فكان ذلك بدء الحرب الأهلية الفرنسية، التي اشتعلت في مارس/أذار 1793. ومن أصل 96 ولاية فرنسية جاهرت 70 ولاية بالتمرد والثورة.

عامل حكام باريس المتنورين سكان المدن المتمردة معاملة الأعداء الهمج. عاقبوا «ليون» بالهدم، وإعدام ألفي سجين دون الاستماع إلى أقوالهم. وتخلصًا من بطء المقصلة جرى إطلاق نيران المدافع عليهم [1]، وقتلوا سكان «طولون»، حتى انكمش تعدادهم إلى سبعة آلاف في بضعة أشهر بعد أن كان تسعة وعشرين ألفًا. [2]

مجازر فونديه

في أواخر أكتوبر/تشرين الأول 2020 أدلى الرئيس الفرنسي «إيمانويل ماكرون» بتصريح، ليُبرِّر به هجومه الشرس على المسلمين في فرنسا، والتضييق عليهم، بأن: «العلمانية لم تقتل أحدًا». لن نختبر صحة هذا الزعم في المطلق، وإنما نختبره في حالة العلمانية الفرنسية.

إذا كان ثوار باريس قد قضوا على المدن الفرنسية المتمردة سريعًا، إلا أنهم وقفوا أمام مقاطعة صغيرة، مساحتها 10 آلاف كيلومتر، وتطل من الغرب على المحيط الأطلسي. لم يُطفئ ثوار باريس «ثورة فونديه»، وإنما أبادوا المنطقة بشرًا وحيوانات ونباتات.

«إبادة فونديه» سببها أن سكان المقاطعة متدينون، يرفضون قرارات حكومة باريس، التي يسيطر عليها جمهوريون يرفعون شعار التنوير، والتنوير يعني «تأميم ممتلكات الكنيسة»، وتحويل القساوسة إلى مجرد موظفين يقبضون رواتبهم من الدولة، ويتخلون عن حياة الرهبنة والتبتل لإنجاب أبناء محبين للوطن، ويحلفون يمين الولاء للدستور المناهض لرجال الدين والكنيسة.

صحيح أن شعار الثورة الفرنسية المشهور هو «الحرية والإخاء والمساواة»، إلا أنها أيضًا كانت «ضد المسيحية»، فقد حاربت الملكية والنبلاء، ثم بلغ الغرور بزعمائها أن شنوا «الحرب على الله»، فألغوا المسيحية كديانة لفرنسا، وأوجدوا آلهة للعقل صاروا يعبدونها في كنيسة نوتردام. [3]

سيطر على يعاقبة الثورة الفرنسية [4] فكرة التحول عن الكاثوليكية التقليدية إلى عبادة الثورة نفسها، فغيرت حكومة باريس أسماء الشوارع إلى أسماء غير مسيحية، وباعت آنية الكنائس، وانتزعت أجراسها فلم تترك لها إلا جرسًا واحدًا، وصهرت الباقي لصناعة المدافع من معدنها، واخترعت تقويمًا جديدًا بديلًا عن التقويم الميلادي، تتخذ فيه الشهور أسماء المواسم الطبيعية، كالحصاد وقطف العنب، لتحل عبادة الطبيعة محل المسيحية، وتختفي الأعياد المسيحية وأيام الآحاد [5]. هذه الإجراءات المعادية للمسيحية لم ترُقْ لأهالي فونديه.

المؤرخ البريطاني «مايكل ديفيز» Michael Davies (1936-2004) يصف منطقة فونديه بأنها «الأكثر تقوى في البلاد»، حيث كان لدى فونديه توازن غير عادي بين النبلاء والفلاحين، فالنبلاء بها لم يمارسوا امتيازاتهم الإقطاعية منذ القرن السابع عشر، ومعدلات الجريمة منخفضة، والدعاوى القضائية قليلة، وهو ما ينسبه ديفيز بالكامل إلى «حماس رجال الدين» [6]، بما ينفي ادعاءات باريس بأن فونديه مجرد «فلاحين جهلاء» تلاعب بهم رجال الدين والأرستقراطيون.

وخلال الحرب، حارب النبلاء بجوار الفلاحين. كان النبلاء على استعداد لتلقي الأوامر من قادة فلاحين. لم يكن هذا التحالف من النوع الذي يريده مفكرو عصر التنوير، فهو يتعارض مع أيديولوجيتهم.

أناس بهذا الإيمان الديني، كان طبيعيًّا أن يعترضوا على تأميم ممتلكات الكنيسة، وعلى إجبار القساوسة على أداء يمين الولاء لدستور وضعته جمعية مناهضة للمسيحية. تجاهلت حكومة باريس الإشارات الأولية للعصيان.

في مارس/أذار 1793، أصدرت حكومة باريس قرارين كانا بمثابة عود الثقاب الذي أشعل برميل البارود؛ ففي 6 مارس/أذار، أُغلقت الكنائس التي لا يعمل بها كهنة دستوريون. وفي اليوم التالي، وصل منشور يطلب تجنيد 300 ألف شاب. رفض المؤمنون في فونديه التجنيد وإرسالهم إلى حيث لا يدرون، فالمطلوب منهم أن يموتوا في سبيل قضية لا يؤمنون بها. [7] واتخذ فلاحو فونديه قرارهم، إذا كانوا سيُكرهون على التجنيد، فليكن القضاء على «كفار باريس».

حرب فونديه جرى استبعادها من التاريخ المروي للثورة الفرنسية، فهي تنقض الرواية التقليدية التي تقدم حروب الثورة بأنها حروب خاضتها جماهير الفلاحين المضطهدين ضد الأرستقراطية القاسية والنظام الملكي الفاسد.

لم تُرِد حكومة باريس أن تعترف بأن أهالي فونديه ثاروا عليها بسبب رفض الحاكم الجديد الملحد الاعتراف بحق الأهالي في الحرية الدينية، فالأهالي يريدون «الحرية الدينية» مثلما تريد باريس «الحرية السياسية».

ضراوة المقاومة

لم يكن شعب فونديه فلاحين سذجًا، بل مقاتلين شرسين. حققت جيوش الفانديين والملكيين سلسلة من الانتصارات واستولت على عدد من المدن. كان بإمكانهم الاستيلاء على المدن الكبرى في المنطقة دون صعوبة. أدرك بونابرت نفسه أن الفانديين كان بإمكانهم «التحرك دون عوائق إلى باريس والاستيلاء عليها وإنهاء الثورة»، لكن ثوار فونديه لم يتحركوا ناحية باريس، وإنما عادوا إلى عائلاتهم ومزارعهم. [8]   

يمكن تفسير ضراوة المقاومة التي أبدوها بعدة أسباب: الإيمان الديني، وحب الحرية، والتضامن الشعبي، ومعرفة تضاريس المكان، فالطرق عميقة محاطة بالسياجات تمنع البصر وتساعد على الكمائن، والمساكن موزعة والمزارع معزولة والطرق والتجمعات السكنية نادرة، بجانب أن قواتهم تميزت بالتنظيم العقلاني للقوات بما جعل من الممكن الجمع بين القتال ومواصلة الزراعة.

مكَّنت هذه العوامل مقاتلي فونديه من هزيمة الجيوش الجمهورية التي سُيرت إليهم، وهي الجيوش التي أجبرت تحالف ملوك أوروبا على الاستسلام. ولضراوة مقاومة فونديه انتزعت إعجاب المعاصرين والعلماء اللاحقين، وأثنى بونابرت على سكانها واعتبرهم «شعب العمالقة». [9]

دواء فونديه: الإبادة

أمام داء عصيان فونديه وهزيمتها للجيوش الجمهورية، لم تجد حكومة باريس التنويرية دواءً إلا «إبادة المنطقة» بأكملها. تلاشى مفهوم الوحدة القومية وحل محله مفهوم «إبادة الأعداء». تختلف الروايات في تقديرهم، الناقمون على حكومة باريس يرفعون العدد إلى 600 ألف شخص، وآخرون يرون أن العدد لم يتجاوز 200 ألف. [10]

ونلاحظ أن الرقم 600 ألف ورد في رسالة بعث بها الجنرال هوش Hoche إلى وزير الداخلية في باريس يفتخر فيها بأن «ستمائة ألف فرنسي لقوا حتفهم في فونديه» [11]. هوش هذا هو أحد الجنرالات السفاحين الذين أوكلت إليهم باريس مهمة «إبادة فونديه». والحق أن إحصاء القتلى كان أمرًا متعسرًا، فالقتل جرى بغير محاكمات، ودُفنت الجثث في مواقع القتل بغير تسجيل.

ليسوا من بني البشر

تعاملت العلمانية الفرنسية الملحدة مع السكان المتمردين عليها وكأنهم ليسوا فرنسيين، بل ليسوا من بني البشر. قتلت جيوش العلمانية الفرنسية جميع الرجال والنساء الذين وقعوا في أسرها. احتلت الريف الذي هجره معظم السكان، ذبحت الذين بقوا ولم يرغبوا في المغادرة، تخلَّت عن أي شكل من أشكال المحاكمة، وتبع ذلك إعدامات جماعية.

كتب جنرال فرنسي بدم بارد:

طلبت أن يقدم لي الصيادين 20 رأسًا من اللصوص كل يوم، من أجل التسلية! حتى الآن تم إعطائي الهدية، لكن اللعبة بدأت تصبح نادرة للغاية. سأضطر قريبًا بسبب الندرة إلى تقليل العدد المتفق عليه.

قُبض على الفانديين الذين بحوزتهم سلاح، ليُرحلوا إلى عواصم المقاطعات، حيث يُحجزون في سجون تُسمى «غرف انتظار الموت»، ليجري بعدها إعدامهم على الفور دون محاكمة. ولأن المقصلة بطيئة، ولأن إطلاق الرصاص يستغرق وقتًا ويستهلك رصاصًا، فقد جرى استخدام وسائل أكثر سرعة، منها تكديس أعداد من المتمردين في سفن كبيرة أو قوارب صيد قديمة يتم سحبها إلى منتصف النهر ثم إغراقها، ومن يحاول الهرب يقتله بالسيف الجلادون الذين يراقبون المشهد من سفنهم الخفيفة. [12] وجرى كذلك إغراق الأمهات مع أطفالهن.

في 1793 حكمت اللجنة الثورية في «نانت» بإغراق ثلاثمائة طفل بدعوى أن «الحية تلد الحية». [13] وابتكر الجمهوريون ما أسموه «زواج الجمهوريين»، حيث يربطون شابًّا وفتاة معًا عراة ثم يلقون بهما في الماء. [14]

عملية الأعمدة الجهنمية

قرر الجمهوريون تحويل فونديه إلى «مقبرة فرنسا»، أو «تحويل فونديه إلى صحراء بعد أخذ كل ما تحتويه»، باستخدام ما أطلقوا عليه «الأعمدة الجهنمية»، أي أعمدة النيران التي تلتهم كل شيء. قتلت الجيوش الجمهورية كل رجل وامرأة. حرقت الغابات والأشجار. خربت المطاحن. أتلفت المحاصيل. استولت على الماشية. صادرت الممتلكات. تم إجراء «تدمير شامل» للمقاطعة المتمردة. [15]

وفقًا لتقرير ضابط يدعى «جانيت»، فقد أشعل جنود الأفران، ثم ألقوا فيها نساءً وأطفالاً، وحينما اعترض ضابط على تلك الطريقة المأساوية للموت، أجابوا ساخرين بأن هذه هي الطريقة التي أرادت بها الجمهورية خبز عيشها، ومع عدم وجود نساء فانديات، قبض الجنود على زوجات الوطنيين ممن يدينون بالولاء للجمهورية. قتل جنرالات جمهوريون سكان بعض المدن رغم أنها تضم جمهوريين، بدعوى وجوب «التضحية بالجميع». [16]

عبَّر رئيس مقاطعة فونديه عن دهشته «جنودنا الذين يدعون أنفسهم جمهوريين ينغمسون في الفسق والخراب وكل الفظائع التي يعجز عنها حتى أكلة لحوم البشر».

أرسل النقيب «دوبوي» من كتيبة «الحرية» رسالتين إلى شقيقته في يناير/كانون الثاني 1794:

يعبر جنودنا صحارى فونديه الكئيبة. في كل مكان نذهب إليه يرافقنا النار والموت. لا يتم احترام العمر ولا الجنس ولا أي شيء. بالأمس أحرقت قواتنا قرية. قتل متطوع ثلاث نساء بيديه العاريتين. أمر مروع لكن سلامة الجمهورية تتطلبه بشكل عاجل. يا لها من حرب. كل شخص نراه نرديه قتيلًا بالنار. في كل مكان تتناثر الجثث على الأرض. في كل مكان جلبت النيران دمارها.

وتُقدِّم الشهادة التالية تفاصيل مروعة:

كانت هناك فتيات بائسات، عاريات تمامًا، متدليات من أغضان الأشجار، وأيديهن مقيدة خلف ظهورهن بعد تعرضهن للاغتصاب. بعد رحيل الجنود الزُرق (أي جنود الجمهورية) ومن حسن الحظ أن أنقذهن بعض المارة من هذا العذاب المخزي. في مكان آخر، وفي فعل بربري، ربما لم يسبق له مثيل، سحق الجنود الزرق النساء الحوامل في معاصر النبيذ. اغتصب الجنود فتاة من «لاشابيل» ثم علَّقوها على شجرة بلوط. ثم شقوا جسدها بالسيف وقطعوه إلى جزأين. [17]

في Clisson وفي الخامس من أبريل/نيسان 1794 أحرق الجنود 150 امرأة لاستخراج الدهون منهن. شهد أحدهم:

لقد حفرنا في الأرض لوضع أوانٍ تلتقط ما يسقط. وضعنا قضبانًا حديدية ووضعنا النساء فوقها ثم فوقهما كانت النيران. لقد أُرسلت عشرة براميل إلى مدينة «نانت». [18]

بعد سنوات، يتَّبع جنود فرنسا الأسلوب الهمجي نفسه في حملتهم العسكرية على مصر والشام، ثم في البلاد التي ابتليت بالاحتلال الفرنسي في شمال المغرب العربي وفي أفريقيا جنوب الصحراء.

يعترف أحد قادة الحملة الفرنسية على مصر:

إن المعارك مع البدو والفلاحين خلال زحف الفرنسيين من الإسكندرية إلى القاهرة جلبت دمارًا يفوق معارك فونديه. [19]
المراجع
  1. ليلي عنان، الحملة الفرنسية: تنوير أم تزوير؟ (القاهرة: كتاب الهلال، العدد 567، مارس 1998)، ص 57.
  2. جوستاف لوبون، روح الثورات والثورة الفرنسية، ترجمة محمد عادل زعيتر، الطبعة الثانية (القاهرة: المطبعة العصرية بالفجالة، 1934)، ص 117.
  3. جوستاف لوبون، روح الثورات، ص 103.
  4. اليعاقبة: وصف يُطلق على الجناح المتطرف الداعي للعنف والإرهاب.
  5. نورمن هاميسن، التاريخ الاجتماعي للثورة الفرنسية، ترجمة فؤاد أندراوس، مراجعة الدكتور محمد أنيس (القاهرة: دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، بدون تاريخ) ص 203: 211.
  6. Nayeli Riano, Unearthed History: The War of The Vendée, 23 April 2019.
  7. Reynald Secher, a French Genocide: the vendee, translated by George Holoc, University of Notre Dame press, 1986, P: 73.
  8. Nayeli Riano, Unearthed History: The War of The Vendée.
  9. Reynald Secher, P: 97.
  10. ليلي عنان: ص 59-60. نورمن هاميسن، التاريخ الاجتماعي للثورة الفرنسية، ص 176-177.
  11. Reynald Secher, P: 199.
  12. Reynald Secher, p: 112.
  13. لويس بروال، الإجرام السياسي، ترجمة حسن الجداوي، دراسة تحليلية علىّ فهد الزميع، الطبعة الثانية (الكويت: دار نهوض للدراسات والنشر، 2018) ص 84.
  14. Reynald Secher, p: 112.
  15. Ibid, P: 116.
  16. Ibid, P: 122.
  17. Ibid, P: 132.
  18. Ibid, P: 134.
  19. خوان كول، مصر تحت حكم بونابرت، ترجمة مصطفي رياض، الطبعة الأولي (القاهرة: المركز القومي للترجمة، 2013) ص 120-121.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.