ذاكرة الجدار – قصة قصيرة
(1)
قطيعٌ من الغزلان الصفراء الذهبية، بديعة المظهر، بعيون واسعة غير مُبصرة كفاية، لا يعدو بصرها موضع قدمها، أو يزيد قليلًا.
غزلان عمياء، تهيم على وجهها في الوديان، فلا يرشدها إلى ضالتها من الكلأ والماء سوى سؤال غيرها من الحيوانات والتي ليست من بني جنسها، فمرةً تدلها، ومرة تهزأ بها، ومرة…
ذات يوم وُلِدَت غزالة مبصرة على عكس سائر القطيع، مرّت الأيام، كبرت الغزالة، صارت دليل القطيع إلى المراعي الشهية والماء العذب، تأخذهم بعيدًا عن سكك الذئاب.
كان الأمر أفضل كثيرًا بالنسبة لحال القطيع، فما عادت تهيم، وأصبح لديها منْ يدلها على ضالتها. ثم بدأت تنتقل الأنظار ومعها الزعامة والأسماع إلى تلك الغزالة حديثة السن.
تورّمت أنوف بعض القادة القدامى، فقال أكبرهم بحدة:
– بات الوضع مُشينًا جدًا، بنت عامين تتزعم شيوخ القطيع وقادته. هذا ما كان ينقصنا!
أجابه آخر:
– قدّمها بصرها… فما رأي العميان؟
صرخ الأول بوجهه:
– نفقأ لها ما قدّمها إذن.
اجتمع رأي مؤجل يتحيّن فرصة للهجوم.
وذات يومٍ بدا للغزالة المبصرة ذئب ينتوي من بعيد مهاجمة القطيع، صاحت بكل ما تملكه حنجرتها من قدرة على التحذير. لكن صوتًا أخذ يشق الفضاء ولأول مرة:
– لا تسمعوها؛ إنها تريد أن تبعدكم عن هذا العشب الشهي.
– لا تسمعوا لتلك المخادعة.
علت في صفوف القطيع همهمة توحي بانصياع الكثير منهم لأوامر القائد القديم الذي هو أكثر دراية كما يعتقدون.
بدأت الغزالة المُخلِصة لذويها تدفع الغزلان بجسدها وتدور حولهم صارخة أن:
– ارحلوا… سيأكلكم الذئب… ارحلوا.
– لا ترحلوا… اعتمدوا على حواسكم القديمة. أنتم قادرون على ذلك… هل تسمعون؟ لا ذئب، لا شيء إلا رغبتها في السيطرة والتسلط، لا شيء إلا أن ثمة دجالًا هنا.
اقترب الذئب أكثر. بدأت تهاجمه وتنادي رفاقها أن ارحلوا.
تمكّن الذئب من الغزالة البصيرة، ونجا العميان بعد أن حرّكهم صراخ قتيل داهمه غريمه.
نجا العميان.
(2)
كان جدي يُكرر هذه القصة لنا، ولكني لم أكن يومًا مُستمتعًا بتلك القصة. لم تترك عندي أبدًا ما كانت تتركه عند بقية الأطفال رفاق السنة العاشرة؛ ربما لأني كنت صغيرًا عندئذ! ربما لأني لم أكن أحب لتلك الغزالة البصيرة أن تموت! ربما التكرار! لكن في كل مرةٍ يحكي فيها جدي تلك القصة ألمح في وجهه مرارة وعناء كأنه كان يحب تلك الغزالة مثلي، أو أكثر… حتمًا أكثر بكثير.
لم يكن يريد لها أن تموت. لا أدري. لابد أنه كان لديه سبب قوي لهذا الشعور الذي ليس جيدًا على أية حال.
لكني لا أفهم هذا الشعور الذي أعيشه أنا الآن في هذه اللحظات. ما كل هذا الحزن، القلق؟ أقبع هنا منذ ستة عشر شهرًا تقريبًا، لم أرَ الشمس منذ أن جيء بي. لا أعلم أن هناك يومًا قد مضى إلا من خلال نعير أحدهم يدعى «الشاويش معاطي» أو هكذا ينادونه. لا أعلم حتى إن كان هذا اسمه أم اسم مستعار… لا يهم.
المهم أنه «معاطي» الذي نحتت الغلظة ملامحه، طباعه كوجهه، وكذلك كفه الخشنة التي كلما هوتْ على أحدهم سمعتَ صرخاتٍ واستغاثاتٍ لكن أحدًا لا يجيب ولا يغيث.
في ذاك المكان الضيق بالقدر الذي لا يوفر لقاطنه إلا رفاهية القرفصاء بدلًا من الوضع الطبيعي «الوقوف». ولا يَسمح لعينيك أن ترى سوى ظلمته التي يكاد يحتضر فيها شعاع خافت يأتي من فتحة عالية أعلى الباب أطول من جسدك إذا حاول أن يصل، وأطول من طموحك -الآخذ في التلاشي– في الحرية.
ليس عليك إلا أن تحك سواد الحائط الذي يحصر روحَك الحرة بأي قطعة حجرية أو ربما تحاول أن تفعلها بأظافرك، فتكون تلك هي السلوى الوحيدة لك، كمن أتوا لهذا المكان قبلك.
قضيت وقتًا طويلًا في تفحص كل ما تم نقشه على الجدران. ربما يُقدَّر هذا الوقت بحوالي ثلاثمائة وتسعين أو أربعمائة صرخة من «معاطي» الموجود باستمرار في هذا المكان. يبدو أن هناك أكثر من «معاطي» يختلفون في أشكالهم لكن لهم نفس النعير الصباحي. ونفس الأكف الغليظة، والطباع الأغلظ.
تفحصت معاناة النقوش المرسومة على الجدار الأصم الذي لا يشعر بما يحمله، أو بمن حمّله هذه النقوش اليائسة.
بدأت في اليوم العاشر بعد الأربعمائة أستنّ بسنّة منْ كان قبلي هنا. أحاول أن أنقش على الجدار كل ما أشعر به، وأدوّن أيامي التي يبدو وأنها ستظفر بها برودة هذا المكان الضيق التي لا يقطعها إلا نزهة لا تعدو ثلاث دقائق إلى الحمام. نزهة غير يومية. تمر فيها معصوب العينين لا تشعر فيها بأي تغيير إلا أنك تستنشق بعض الهواء المغاير نسبيًا لهواء تلك الزنزانة الصدِئ. إضافة إلى بعض أصوات الأنين والكثير من أصوات حكّ السكان جدران زنازينهم الصماء الجامدة.
لم تكن تلك الرحلة إلا مُسكِّنًا تفرضه محاولة التأمل والإنصات ثم تعود إلى حيث جئت، ليفترسك شقاء السؤال الذي يكاد رأسك يتشقق به وبغيره. وتبدأ في صلاتك اليومية «حك سواد الجدار».
في ظل كل هذه المعاناة: كيف يتملكني الآن تذكر قصة جدي التي كنت قد سئمت تكراره لها دون مقدرة مني على الفهم؟
لكني الآن أشعر أني أعي كل كلمة فيها. أعرف اليوم معنى تلك المرارة في وجه جدي. أشعر جدًا بتلك الغزالة التي أنفقت ما لديها من فرص للحياة كي يحيا العميان. أشعر اليوم أني أشعر، ولكن لا أشعر أني سأظل على هذه الحال.