وليد سليمان: هي أشياء لا تُشترى
يبدو أن النوم لن يأتي بسهولة اليوم. توشك عقارب الساعة أن تتوقف من تلقاء نفسها رحمة بذلك الرجل الذي لم يغمض له جفن رغم انقضاء ثلثي الليل أو أكثر. يقرر أخيرًا هذا الرجل أن يغادر فراشه متجهًا نحو دولابه الشخصي وكأنه كان يفكر به طوال تلك المدة.يفتح الرجل الدولاب على قمصان عديدة معلقة بجوار بعضها البعض، تتوهج كل القمصان بلون وحيد، وهو اللون الأحمر. ضوء الفجر الذي تسلل داخل الغرفة يمكننا من الرؤية بشكل أوضح، تلك هي قمصان النادي الأهلي بكل النسخ التي عرفتها أجيال مختلفة. يرتدي الرجل القميص الأخير الخاص بالموسم.ها هو يتحرك أمامنا بطل القصة. ضئيل الحجم ذو ملامح طفولية باسمة. أسمر اللون ذو عيون تلمع بنجابة ملحوظة. وعلى ظهر القميص كتب اسمه تحت اسم النادي الأهلي: وليد سليمان. ذلك ما كان يحلم به صغيرًا، أن يقترن اسمه باسم النادي الأهلي.يمد يده داخل الدولاب ويلتقط القميص الأول في الترتيب. قميص صغير الحجم يليق بطفل يزينه ثلاثة أشرطة بيضاء على الكتف، ليذكرنا بتلك النسخة التي أطل علينا بها النادي الأهلي في التسعينيات. من هنا تحديدًا كانت الحكاية.
الفرحة الأولى والانكسار الأول
يرتدي الأطفال أزهى ملابسهم وأجملها أثناء التوجه لالتقاط صورة فوتوغرافية لهم، تلك هي عادات الأطفال، ولم يكن وليد ليختلف عن البقية. وقف وليد طفلًا بابتسامة زهو أمام عدسة الكاميرا ليلتقط صورة تخلد ارتداءه لقميص النادي الأهلي محلي الصنع ذي الثلاث الشرائط البيضاء. تلك هي بداية القصة الحقيقية إذن، أن تلعب لفريق تشجعه فتلك أمنية كل لاعب. أما أن تعشق فريق كرة قدم منذ الطفولة، ثم تقرر أن تلعب كرة قدم من أجله، تلك هي البداية التي تليق بأساطير الأندية وأبطالها.لا زال وليد يتذكر تلك الفرحة الطفولية التي لازمته لأيام. فرحة ارتداء قميص النادي الأهلي لأول مرة. وإن كان المرء لا ينسى فرحته الأولى، فبالطبع لا ينسى انكساره الأول.ترددت على مسامع ذلك الصبي القابع بمدينة بني مزار بالمنيا أنباء تفيد أن النادي الأهلي يقيم اختبارات الناشئين بالصعيد. لم يصدق الصغير أن الأمر اقترب لهذه الدرجة. طوال تلك السنوات الماضية كان يلعب وليد كرة القدم فقط من أجل أن يصل للنادي الأهلي. لن يفوت تلك الفرصة أبدًا، غدًا سيوجد في القوصية بمحافظة أسيوط، حيث تقام الاختبارات، غدًا سيقترب كثيرًا من تحقيق حلمه.حضر الآلاف من كل حدب وصوب في صعيد مصر. إلا أن وليد لم يكن يشغل باله بكل هؤلاء، فلا أحد لديه تلك المهارة ولا أحد يحب الأهلي أكثر منه. تألق وليد بمهاراته الكروية الفطرية حينئذ. وقع عليه الاختيار بجوار اثنين آخرين، ثم بدأت المداولة. فمن الواضح أن النادي الأهلي قرر أن يعود بلاعب واحد فقط.أن تقف في انتظار كلمة تخرج من فم أحدهم فيها حلمك وشغفك وكل ما تسعى إليه هو شعور صعب للغاية، أن تخرج تلك الكلمة فتعصف بحلمك بعيدًا بعد أن كانت يداك تكاد تلتمسه منذ دقائق، فذلك الشعور الأصعب على الإطلاق.لم يحصل وليد سليمان ذلك اليوم إلا على بعض عبارات الإشادة من مسئولي الأهلي، ثم التعقيب بأن كونه ضئيل الحجم وقليل الالتحام حال دون وجوده في النادي الأهلي. قرر المسئولون أن يختاروا لاعبًا آخر، وتركوا وليد وحيدًا مع أحلامه الضائعة. ربما في ذلك اليوم تحديدًا قرر وليد أنه لن يخسر التحامًا مجددًا، وأنه سيلعب للنادي الأهلي بعد أن يتمناه كل مسئولي النادي.
على ناصية الحلم تحديدًا
يكبر وليد كلاعب كرة قدم محترف، من حرس الحدود للجونة ثم بتروجيت. يلمع اسمه كمهارة استثنائية في الدوري الممتاز. يثني عليها الجميع ويثمنها. يصبح الحديث عن انتقاله للنادي الأهلي موسميًّا، لكن دون تنفيذ. لقد أصبح مسئولو النادي يتمنونه كما كان يريد قديمًا فلماذا يستعصي عليه حلمه كلما اقترب منه!لم يستطع أن ينفي وليد سليمان أهلاويته أينما رحل. الكل يعرف أن وليد أهلاوي، يلعب كرة قدم ولا يرى سوى النادي الأهلي كحلم يحققه يومًا ما. تألق وليد سليمان مع فريق بتروجت بشكل ملحوظ بنهاية الموسم ولأول مرة حصل على وعد بانتقاله للنادي الأهلي الذي طلب التعاقد معه. أربع سنوات متتالية يتجدد ذلك الوعد دون أن ينفذ.استطاع وليد أن يفتح عينيه بصعوبة ليجد نفسه ملقى فوق أحد الأسرة داخل مستشفى ما. تتلهف كل الوجوه من حوله للاطمئنان عليه. لم يستطع أن يصرح بما يطمئنهم، فاكتفى بالنظر للمحلول الذي ينفذ بسائل الجلوكوز داخل جسمه. كان آخر ما يذكره وليد أنه قرر التوقف عن الأكل والشرب بعد رفض نادي بتروجيت انتقاله للنادي الأهلي، وذلك للمرة الرابعة على التوالي.بكى من قبل لأيقونة الزمالك فاروق جعفر مدرب بتروجيت حينئذ بعد أن وعده بالانتقال للزمالك مصرحًا بأنه لن يلعب إلا في النادي الأهلي. تردد لأيام على رئيس النادي منتظرًا بالساعات في مكتبه ليخبره أنه يريد أن ينتقل للنادي الأهلي. هل يمشي في الشوارع حاملًا لافتة تقول إنه يريد الانتقال للنادي الأهلي. لو كان يجدي ذلك نفعًا لفعل.
وليد سليمان في أحد لقاءاته التلفزيونية
قرر وليد حينئذ أنه سيقاتل بالصمت لتحقيق حلمة. أربع سنوات يقف على ناصية حلمه، فليقاتل لتحقيقه بكل الطرق مهما بلغت خطورتها. انتهى الأمر بتدخل وزير البترول شخصيًا والمسئول عن نادي بتروجيت بحل وسط، فليلعب موسمًا وحيدًا للنادي البترولي الآخر إنبي ثم ليرحل إلى الأهلي.مضى وليد عقود انتقاله لإنبي دون أن يكون في وعيه، حيث تم تشخيص حالته كانهيار عصبي تام. بدأت علاقة وليد بجماهير الأهلي الفريدة تتكون قبل أن يرتدي قميص الأهلي. فما فعله وليد ليلعب للأهلي عرفته الجماهير. وأدركت أن هذا الرجل يلعب بقلب مشجع. هذا رجل قد تجده بجوارك في مقاعد المشجعين في أي وقت. وليد سليمان يحب الأهلي وجماهير الأهلي أحبت وليد. وفي الموسم الذي يسبق ارتداء وليد لقميص الأهلي هتفت له الجماهير. كان وليد لاعبًا في صفوف إنبي، لكنه رغم ذلك توجه ورد تحية الجماهير. كان عنوان اللقطة ببساطة «لقد اقترب الحلم فاستعد».
وليد في الأهلي: أكثر من مجرد نجم
تألق وليد كثيرًا رفقة النادي الأهلي بعد ذلك، لكن ما يربطه بجماهير الأهلي أكثر من مجرد أداء جيد وانتصارات متتالية.من الصعب للغاية أن تكون في وضع مقارنة مع جيل حقق طفرة مع النادي الأهلي، فوليد سليمان لعب للأهلي في وقت حساس للغاية، حيث كانت نجوم الأهلي تأفل ولا تجد الجماهير من تهتدي به في ظلام ما بعد تريكة وبركات. تطورت الأمور كثيرًا بعد ذلك بين نجاح وإخفاق. إلا أن الأمر أخذ منحنى مغايرًا تمامًا هذا الموسم. موسم كان اختبار الانتماء خلاله حقيقيًا ونتيجته معلنة للجميع. أصبحت علاقة وليد بجماهير الأهلي علاقة خاصة تمامًا.وجدت جماهير الأهلي ضالتها أخيرًا في وليد سليمان. نحن هنا لا نتحدث عن ألقاب وبطولات. بل عن قيمة في منتهى الأهمية. أن تشعر جماهير الأهلي أن الأهلي كبير، وأنه ما زال هناك أحد مستعد للتضحية من أجل اسم النادي الأهلي. لقد اهتزت الأمور بعنف في الفترة الأخيرة. فهناك من كان قاب قوسين أو أدنى من الرحيل لفريق الغريم من أجل الأموال. ثم ظهور تركي آل الشيخ باختبار المال الذي لم ينجح به إلا القليل لتبقى جمل مثل عشق كيان الأهلي على المحك تمامًا.
تدين جماهير الأهلي لوليد سليمان بالكثير إزاء تلك المسألة. وجد وليد سليمان نفسه فجأة وحيدًا على قمة آمال جماهير النادي الأهلي. فتلك الوجوه التي تزامله لا يعول عليها الجماهير شيئًا. رحل عبد الله السعيد لتأمين مستقبله. تردد فتحي في ذلك فأصبح ثمة شرخ بينه وبين الجماهير لا يلتئم. اعتاد حسام عاشور أن يستند على من حوله لا أن يستند عليه أحد.وحده وليد سليمان كان قادرًا أن يحمل جثة الأهلي ويعيدها للحياة دون أن يعترض. قرر وليد التجديد للنادي الأهلي دون أن يضع شرطًا. ولو وضع لوجد من يصطاد في الماء العكر على سبيل العناد على الأقل. أصبح وليد الذي يقارب على نهاية عمره الكروي هو أكثر من يركض داخل الملعب. يصرخ في الحكام ثم يلتحم مع المدافعين، ثم يقوم ليركض مرة أخرى. لا يرتدي شارة القيادة ولكنك لا تراه سوى قائد الأهلي الوحيد هذا الموسم. وصل وليد سليمان بالنادي الأهلي لنهائي أفريقيا وحيدًا. ربما تبدو تلك الجملة أسطورية لكنها حقيقة، كانت جماهير الأهلي تتمنى بطولة أفريقيا لأنها تتمنى أن يكلل وليد هذا المجهود الجبار ببطولة كبرى تسجل باسمه. لم يتحقق حلم وليد وجماهير الأهلي في الفوز ببطولة أفريقيا. تمامًا كعادته يقترب من حلمه فلا يدركه بسهولة.كان جالسًا على مقاعد البدلاء حينما قرر المدرب المؤقت محمد يوسف أن يشركه في الشوط الثاني أمام فريق الجونة. حيث يتأخر الأهلي بهدف ويتجرد من ثقة كل جماهيره. نزل وليد إلى أرض الملعب بجوار بعض الأسماء التي ارتدت قميص الأهلي في غفلة من الزمن والإدارة. قرر وليد أن ينفخ من روحه لعل وعسى أن يحيى جثة الأهلي الهامدة. انتهت المباراة بفوز الأهلي بهدفين، واحد من صناعته والآخر بمكافأة من الله من ركنية ركلها مباشرة في المرمى.عاد وليد سليمان إلى المنزل لكنه لم يستطع النوم ذلك اليوم أبدًا. إنه يشعر أن هذا الدولاب الذي يحتوي على قمصان النادي الأهلي ينادي عليه. يريد أن يخبره شيئًا ما. يتجه وليد نحو الدولاب ليرتدي قميص الموسم الحالي ويمسك في يديه قميص الأهلي الذي ارتداه طفلًا. الرسالة واضحة إذن، هكذا كانت البداية فلتكن النهاية بنفس الشغف.