الروائي «وليد الشرفا»: لذلك دخل الفلسطينيون في التيه
أجريت هذه المقابلة عن بعد مع شخص كنت ألتقي معه بشكل شبه يومي، فـ «وليد الشرفا» هو مدرسي في كلية الإعلام في جامعة بيرزيت والذي ما زلت ألتقي به، ولكن بواسطة التعليم عن بعد، يُدرِّس الشرفا نظريات الإعلام وأدواته في التأثير وكيف تتم صناعة المادة الإعلامية، ليضعك أمام سؤال «كيف يعمل الإعلام؟» وليس «كيف يجب أن يكون الإعلام؟» حيث يقوم بإعطاء الأدوات والأساليب لتحليل الخطاب الإعلامي عبر تفكيك اللغة.
أغلب الأكاديميين الذين نقابلهم يحاولون إقناعنا بأهمية حقولهم المعرفية، مؤكدين على تأثيره المهم في الحياة، ود. وليد الشرفا ليس استثناءً، لكنه يؤكد على ضرورة شيء نستخدمه كلنا بشكل يومي، ألا وهي اللغة والتي تنبع خطورتها من حاجتنا إليها بعد الهواء والماء والطعام. اللغة سلاح خطير فهي قابلة للتأويل وتأخذ أكثر من معنى، فيتعامل معها الشرفا «كما يتعامل الجراح مع أعضاء الإنسان»، مُكتسبًا معرفته بها من خلال حقلين: الأكاديمي، والأدب، الذي يتملك الشرفا فيه صبغة خاصة، حيث يأخذك إلى منحنى غرائبي، ظاهره عبث وباطنه وجود، يخلط الواقع الفلسطيني مع الأساطير والأديان والتاريخ، وهذا ما سنتحدث عنه في المقابلة (أدب الشرفا).
كتب وليد الشرفا أربع روايات، سوف نتحدث عن ثلاث منها، وهي: «القادم من القيامة» والتي تتحدث عن الشهيد والمُغترِب والحائر في أرض الوطن. ورواية «وارث الشواهد» الحائزة على جائزة البوكر والتي تتحدث عن ابن الشهيد وحفيد المهجر (الوحيد) الذي لم يختر له اسمًا، ليخرج هنا صراع وحيد وفريد من نوعه مع الأحياء والأموات والخيالات وشواهد القبور. وأخيرًا رواية «ليتني كنت أعمى» والتي تتحدث عن مقاتليْن فلسطينيين الأول قاتل في بيروت (مصور أصبح أعمى) والثاني قاتل في جنين (أصبح مشلول الحركة) وتدور الأحداث في سيارة الإسعاف.
عن الكتابة والواقع والهلوسات
أنت في الأساس كنت تعمل في المجال الصحفي قبل أن تعود لتجربتك الروائية، فما هو الشيء الذي يقدمه لنا الأدب ولا تستطيع أن تعطينا إياه الصحافة، ما دمت تريد شرح الواقع؟
سؤال جميل، العلاقة تشبه الفرق بين الحلم واليومي، الصحافة هي اليومي، غذاء الفضول الأولي الجمعي، انتظار الأجندة الأداتية، بينما الأدب هو الحلم، هو لحظة الانتظار والقلق التي يشبعها اللا وعي، لذلك يصبح الفرق بينهما بين الإخباري والجمالي، وبالتالي الإعلام ينتج الجريدة والأدب ينتج التخييل.
ما هي مهمة الأديب: تفسير الواقع أم إعادة إنتاجه؟
مهمة الأدب إعادة الإنتاج وبالتالي نقل التفسير إلى توريط القارئ، إن الجمالي يُعزّز الاحتمالي ويحوِّل الأحداث إلى رموز، كل رمز يجعل التاريخ موقفًا يورط المتلقي بلذة الاحتمالات ويخلق له مسارات تأويلية.
ألا تخرج الرؤية الفنية للأدب الواقع عن سياقه؟
إن عملية الاختيار الأدبي التخييلي بالتأكيد تمارس غواية تدمير السياقات وخلق سياقات بديلة ذات بعد وجودي جمالي، وبالتالي النص الأدبي يقلب المعادلة ليؤسس لحلم سياقي.
تمتاز كتابتك بخلط الواقع بالهلوسات (خاصة في رواية وارث شواهد)، لماذا تلجأ لهذا الأسلوب؟
لحظة التخييل الأدبي تفرض نفسها، لذلك ألجأ إلى الحلم والهلوسة لأن تناقضات الواقع والمأساة الفلسطينية تعيد محاكمة التاريخ على كل الأصعدة من الأسطوري إلى الأخلاقي، الهلوسة وحدها تستجيب للمأساة الفلسطينية وتناقضاتها داخليًا وخارجيًا.
أين تظهر الهلوسة في الواقع الفلسطيني، عند فقدان شيء عزيز (النكبة، الاستشهاد…) أم عند البطل اليائس، أم عند العدو ليبني حكايةً تبرر وجوده؟
تظهر الهلوسة باليُتم الفلسطيني والصدمة المركبة التي عايشها عن المكان ونزعه قسريًا منه، واليُتم الموازي بالفداء. لأن قناعة الفداء تفحر الذكريات وبالتالي قسوة الذكريات مزّقت الطاقة المنطقية للاستيعاب، وهذه الصدمات تدفع إلى الاحتجاج بالصراخ تصل للهلوسة كنتيجة قصوى للصدمة، لذلك نلجأ للهلوسة.
الأديب يتأثر بالمرحلة التاريخية، ما هي المراحل التي كتبت عنها في رواياتك الثلاث؟
أنجزت ثلاثية العودة الفلسطينية، عبر الانتفاضة والسلطة والثورة.
أنت تعمل عملاً أكاديميًا، تحديدًا في الجانب النظري في تدريس الإعلام ونظرياته، هل تعتبر هذا العمل مكملاً لرؤيتك الأدبية أم أن الأدب هو خلوتك الخاصة؟
الأدب هو حالتي الخاصة، نعم.
هل للأدب حدود أم يجب عليه أن يتجاوزها بعيدًا عن قدسية الأفكار ليحاور النفس وما يختلج بداخلها؟
الحدود القصوى للأدب هي التخييل والجمال والقدرة على توارد وتوليد الخيالات والقدرة على التوريط القارئ بنص، ونقل الأحداث إلى قضايا دون الوقوع في فخ الخطابة والتلقين، فحالة الأدب هي الأفكار، والأدب الذي يشتغل بالتبشير ينتهي بأيديولوجيا.
عن مواضيع الروايات
عنوَن عدد من الصحافيين رواياتك الثلاثة (القادم من القيامة، ووارث الشواهد، وليتني كنت أعمى) بعنوان «تراجيديا العودة»، فهل رواياتك هي عبارة عن ثلاثية تشرح فيها موضوعًا واحدًا أم أن لكل منهم حكاية خاصة؟
كما قلت مسبقًا تراجيديا العودة محاكمة شعورية لحالة الخيبة الفلسطينية وانكسار الممكن والأيديولوجي لصالح الخيبة والانكسار، تشريح تفاصيل الخيبة أهم من الترقيع الأيديولوجي. الروايات الثلاث عرَّت الخيبة دون ترتيب ورهان أيديولوجي، في الهزيمة: البطل هو كاشف العورات وليس المرقع السياسي والأيديولوجي.
(الأفكار التي جاءت لتحرر الإنسان، فعلت فعلاً عكسيًا مع الفلسطينيين)، كانت هذه الفكرة أحد أهم المحاور في رواية وارث الشواهد، فكيف «قتلت» جميع الأيديولوجيات الفلسطينيين من وجهة نظرك؟
نعم لقد دفع الفلسطينيون ثمن روايات الرب والآلهة، وأجمعت الأيديولوجيات الأسطورية والعلمية على ظلمهم، لقد توّحد الملحدون والرأسماليون في الدفاع عن رب اليهودي، لذلك قتلت الأسطورة والعلم الفلسطينيين، وحولت الأسطورة إلى عرق.
إن كان الفلسطينيون يمثلون أتباع الأنبياء ضد من ظلموهم، فمن يمثل القيادة الفلسطينية الحالية كتناص تاريخي؟
القادة الفلسطينيون في زمن الثورة كانوا جميعًا أنبياء في فعلهم وكانوا فداء لخذلان العالم والعدو والصديق، الآن لا يوجد قيادات، يوجد إدارات وخبراء (جهاز بيروقراطي) وعلاقات عامة ومفتون باسم الدين.
هل الفلسطينيون ضحايا للفهم «الخاطئ» للديانات السماوية، رغم أنهم جزء منها؛ فهم عرب ساميون مسلمون ومسيحيون؟
الفلسطينيون ضحايا إعادة إنتاج نسخة ربانية من التاريخ. الفلسطينيون أساسًا تثقّفوا مسيحيًا وإسلاميًا، وقسم منهم كان يهودي الثقافة، ولا يوجد فهم غير خاطئ للدين.
كانت رسالة الدكتوراه الخاصة بك تتحدث عن إدوارد سعيد، فأين نجد سعيد في أدب الشرفا؟
سعيد هو الأيقونة الفكرية لفلسطين وهو المدافع الجذري عن أحقيتها، وهو الوجه العلمي الند في نزع الشرعية عن الأسطورة الصهيونية، بالتأكيد يمثل سعيد مرجعًا مهمًا لكل ما اشتغل.
في روايتي «القادم من القيامة» و«وارث الشواهد» أعطيت الأبطال صفات بدلاً من الأسماء، لماذا؟ وما الذي استجد في «ليتني كنت أعمى»؟
في (ليتني كنت أعمى) كانت الخيبة صارخة، هي خيبة تجاوز نقد السياسي لأوسلو، إنها خيبة عصفت بالجميع وشارك الكل بها، لذلك حضرت الأسماء.
ما العلاقة بين «علي الطوق» أحد أبطال رواية «ليتني كنت أعمى» والشهيد «علي أبو طوق» أحد قيادات كتيبة جبل الجرمق (الكتيبة الطلابية)؟
علي الطوق ربما يمارس إحياء لـ علي أبو طوق، لكنه ليس تجسيدًا تاريخيًا له، فلا تشابه بين الشخصيتين، لكنه علامة على نقاء الحلم في استعادة فلسطين.
نابلس دائمًا حاضرة في رواياتك، هل تعزو هذا لسبب شخصي أم لأهمية المدينة؟
نعم إنه سبب شخصي، فنابلس المكان الذي ينشر سحرًا فلسطينيًا خاصًا، ظل محافظًا على عذريته رغم عمليات التدمير، إنها الطفولة والمغامرة والجمال والفداء، إنه مكان فلسطيني مذهل.
يقول مارشال ماكلوهان: «الوسيلة هي الرسالة». أن تتعامل مع النص في كتابة الروايات وعن الكتابة عنها مثلما كتبت عن الشعر في رواية (القادم من القيامة) وكتبت عن النصوص المقدسة في رواية (وارث الشواهد)، ولكنك كتبت عن الصورة في (ليتني كنت أعمى)، لماذا؟ وما أهمية كل منهما في إنتاج الحالة الثقافية؟
جميل وفخور بهذا السؤال، أدوات المعرفة تجتاحنا دون أن نعرف ونحتاجها دون أن نفكر، تجتاحنا دون وعي، ونحتاجها دون تفكير، في الأدب تكون الحالة هي المعرفة.
يقول ميشيل فوكو: «إن المرحلة التاريخية تنتهي بانقطاع الخطاب الذي كانت تتبناه جهة ما»، وهذا ما حدث عام 1993، لماذا لم ينقطع الخطاب الفلسطيني قبل أوسلو من القادة والشهداء عند وليد الشرفا؟
لم يحدث انقطاع لأن الاحتلال لم يرحل، ولأن عملية التصدي له تواصلت، كان هناك نوع من التكفير عن أوسلو تجسدت من خلال التصدي المسلح له في الأرض المحتلة، لذلك فإن منظمة التحرير رغم كل ما يعتريها تظل الأفق الذهني الثقافي لفلسطين، ولكن بعد أوسلو تراجع القادة لصالح خبراء العلاقات العامة والإدارة، وبعد الانقسام دخلت لعبة الإفتاء، لذلك دخلنا في التيه.