وحيد حامد: موت المؤلف الذي أحب أيامه
بهذه الكلمات المقتطعة من سياقها من نهاية الفيلم المصري الإرهاب والكباب، نبدأ مقالانا اليوم غداة رحيل الكاتب المصري الكبير وحيد حامد، لماذا نختار هذه الكلمات بالتحديد، وما معنى وفاة المؤلف؟ خصوصاً أننا هنا نتحدث عن المؤلف البطل الذي يحفظ اسمه وأسماء أعماله خصومه قبل محبيه. هذا ما نحاول معكم الإجابة عنه بهدوء اليوم.
سينما المؤلف
في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات كتب الناقد الفرنسي أندريه بازان سلسلة مقالات يؤصل من خلالها لفكرة أن المخرج السينمائي هو صاحب العمل، هو من يتحدث بلغة الكاميرا، الصورة، وبالتالي هو أب العمل الذي ينسب له بشكل مكتمل، هو المؤلف، والعمل ما هو إلا تعبير عن رؤيته وأفكاره ومشاعره. هذه النظرية هي ما فتحت عقب ذلك الباب لمخرجي الموجة الفرنسية الجديدة ثم عشرات من المخرجين المؤلفين من أجيال متلاحقة في كل مكان في العالم، من فرنسا إلى إيطاليا، ومن أمريكا إلى إيران، ووسط كل هذا في مصر أيضًا.
أحد من يمكن اعتباره دون شك منتميًا لهذه المدرسة في السينما المصرية حتى لو لم يكن مخرجًا، هو المؤلف وحيد حامد، فالرجل هو المالك المكتمل لأعماله، ما هي إلا معبر عن رؤياه وأفكاره وأحلامه وهواجسه، حامد اشتهر بكتابة سيناريوهاته بشكل مكتمل بما فيها التوجيهات الإخراجية التي تتعلق بمكان الكاميرا، وضعية الممثلين، وطريقة إلقاء الحوار. استكمالًا لذلك فهو بنفسه يختار المخرج في كل أعماله، وذلك ما يعرفه الجميع وبالتحديد بعد تعاونه الأول مع يحيى العلمي في أواخر السبعينيات، كسب حامد بعدها مكانته سريعًا جدًا، وأصبح هو من يختار كافة العناصر الأخرى، بما فيها البطل أيضًا، فيستبدل محمود عبد العزيز بأحمد زكي، ويستبدل زكي بعادل إمام، وهو بتعديلات كهذه يصبح البطل قبل وجوه أبطال حكمت سينما هذا العصر.
أفلام وحيد حامد إذن يحضر من خلالها بصمة المؤلف بشكل واضح للغاية، هذا يدفع النقاد والمحللين والجمهور للبحث بشكل أكبر عن هذا المؤلف شخصيًا، أفكاره وتوجهاته السياسية والاجتماعية، ومواقفه من الأحداث الراهنة والماضية، ومحاولة إعادة تفسير أعماله من خلال كل هذا. نحن في هذا المقال نختلف مع هذا بشكل مكتمل.
موت المؤلف
في أواخر الستينيات وبالتحديد في عام 1967 كتب الناقد الفرنسي رولاند بارت مقالته الشهيرة «موت المؤلف» في هذا المقال انتقد بارت المدرسة النقدية الكلاسيكية التي تربط النص بمؤلفه، وتحاول تفسيره من خلال الأحداث الشخصية والأفكار الشخصية الخاصة بالمؤلف، من خلال كلمات بارت التي ذكرنا جزءًا منها هنا، يحلل الكاتب الفرنسي كيف أن ربط النص بشكل حصري بالمؤلف يحد كثيرًا من تأويله ومن معناه وتأثيره، فالنص يكتسب معنى جديدًا مع كل مرة يعاد قراءته فيها، وهكذا يكتسب العمل الفني معنى جديدًا مع كل قراءة، العبرة هنا إذن بالانطباع الذي يتركه النص أو العمل الفني، بالأسئلة التي يستثيرها في كل مرة يعاد قراءته، مع كل مشاهد جديد، هكذا تصبح أنت شخصيًا المؤلف.
وحيد حامد يحرر جمهور
بمد الخط على استقامته، فلا معنى من الحكم على أعمال وحيد حامد من خلال مقال أو تصريح أو حوار تلفزيوني أجراه الكاتب الراحل في حياته، المعنى الوحيد هو بالأثر الذي تركته هذه الأعمال في جمهورها القديم، وفي كل مرة يشاهد فيها هذه الأعمال جمهور جديد.
أفلام حامد تحمل طابعًا عامًا من حب الحياة، من أبطال حالمين يصطدمون بواقعهم، أبطال منتمين للطبقة الفقيرة والمتوسطة، منهم من يحاول تغيير هذا الواقع ومنهم من يحاول الهرب منه، ومنهم من يساير التيار، الدفاع عن العدالة الاجتماعية مبدأ حاضر دائمًا منذ «الفتى الطائر» وصولًا لـ«بدون ذكر أسماء»، الظلم والفساد والاستبداد ملامح حاضرة بشكل شبه دائم أيضًا لمصر التي يتحدث عنها، والتطرف الديني والعنف الأمني حاضران بشكل دائم أيضًا.
ينتقده البعض بالعودة لتلك المدرسة القديمة في النقد من خلال تصريحاته أو مقالات رأي بشكل خاص ضد تيار الإسلام السياسي في مصر، يتهمه البعض بأنه صور الإسلاميين بشكل نمطي، وكأنهم لم يروا علي الزناتي وهو يغني يا واش يا واش يا مرجيحة في «طيور الظلام»، لم يشاهدوا معاناة وظلم طه الشاذلي في «عمارة يعقوبيان»، ولم يشاهدوا الأستاذ رشاد وهو يسير جنبًا إلى جنب مع أحمد فتح الباب في نهاية «الإرهاب والكباب» ليحمي بطل الحكاية الذي ألصقت الحكومة به تهمة الإرهاب والجنون، يبتسم كل منهما للآخر ويربت أحمد على كتف رشاد ويتنفس كل منهما الصعداء وهما يسيران في ميدان التحرير.
وبالتأكيد لا يدرك هؤلاء أن كثيرًا من إرهابي داعش قد يكونون متطابقين مع رضا ريشة الإرهابي حديث العهد الذي لا يهتم بالدين قدر اهتمامه بالسطوة والعنف والهيمنة، ولا يعرف هؤلاء أيضًا أن المعالجة الأكثر إنسانية لحسن البنا في تاريخ الفن المصري قد تكون معالجة وحيد حامد في الجماعة في جزئها الأول، الدور الذي تعاطف من خلاله كثيرون مع حسن البنا شخصيًا، وكسب من خلاله الوسيم إياد نصار مكانه كبطل أول في مصر.
بعيداً عن هذا الهراء، أنت من يحكم على المعنى، بعيدًا تمامًا عن شخص المؤلف، النص الذي تركه وحيد حامد هو البطل، والانطباع الذي يتركه هذا النص هو الأهم.
ماذا يترك أحمد سبع الليل في «البريء» من انطباع لديك، الأستاذ فرجاني في «آخر الرجال المحترمين»، عادل عيسى في «الغول»، رضا رشدي في «الدنيا على جناح يمامة»، أحمد فتح الباب في «الإرهاب والكباب»، أحلام حسن بهنسي «بهلول» وعلي الزهار في «اللعب مع الكبار»، يوسف المنسي في «المنسي»، سيد غريب في «اضحك الصورة تطلع حلوة»، الأصدقاء الثلاثة فتحى ومحسن وعلي في «طيور الظلام»، وكوابيس الوزير رأفت رستم في «معالي الوزير».
هنا يظهر المعنى، المعنى الذي تركه فينا وحيد حامد، أنت المؤلف، وبالعودة إلى اقتباس أحمد فتح الباب في نهاية «الإرهاب والكباب»، البطل صاحب المطلب الوحيد بأن تصان كرامته، ألا يوبخ ولا يُهان، فحينما سأله أحد المراسلين التلفزيونيين وهو في طريقه محاطًا بالناس في ختام الفيلم، عما حدث، أجاب البطل بالإيجاب أنه شاهد الإرهابي المعتوه، وبأن ما جاء من أجله قد تم، وهو ما ندرك كجمهور أنه لم يحدث، لكن البطل عليه أن يصرح بهذا كي تستمر حكايته، كي تستمر الأفلام في العرض، وكي تستمر الرقابة في تمرير الأعمال، هو نوع من التحايل والسخرية، التي لم تعد تنطلي على النظام الحالي للأسف، لكن ما يهم على كل حال هو ما يؤمن به هذا البطل، وما ظهر من خلال ما قدمه للناس منذ لحظات في أحداث الفيلم، استمع إلى مطالبهم الإنسانية العادلة، عن التجنيد الإجباري، العدالة، العلاج، والكرامة، حاول أن يفتديهم برقبته، وترك لهم الاختيار. أحمد فتح الباب قال لهم على لسان المؤلف قبل أن يموت «إنتوا أحرار»، وهذا كل ما يهم.
أحب وحيد حامد أيامه كما صرح في كلمته الختامية التاريخية في مهرجان القاهرة السينمائي في ديسمبر 2020، أحب أيامه السينمائية رفقة هذه الشخصيات التي ستظل حية طالما تذكرها الجمهور وأعاد مشاهدتها، وأحببنا هذه الأيام لنفس الأسباب.
مات الرجل على كل حال، عليه الرحمة، ونحن لنا الحق بشكل مكتمل في تأويل نصوصه كما نشاء، نصوصه حية ونحن المؤلفين. وما دامت نصوصًا عامرة بكل ما هو إنساني وجميل، سنظل نحبها. سنظل نتذكر أبطال نشبههم ويتحدثون بصوتنا، خصوصًا بعد أن اختفى كل من نشبههم من على الشاشة، وتم كتم صوتنا تحت تهديد السلاح.