حكت لي أمي عن حيرتها يوم أحرقت يداي عندما وضعتهما في الحليب الساخن وأنا في عامي الأول. لم تعرف كيف يمكنها أن تقلّني إلى المشفى وأبي ما زال بالعمل، وهي لا يسمح لها بالقيادة ولا أن تستقلّ سيارة أجرة وحدها. ففى المملكة قبل أكثر من 20 عامًا، كانت مثل هذه الأشياء على المرأة من المحرّمات. اختارت أمي أن تلجأ إلى جار لنا لا تعرفه ليقلّنا إلى المشفى، وهي في قرارة نفسها تؤمن أن المملكة بهذا تحمي الديانة، وتذود عنها، وتقي النساء والمجتمع الفتن.

حكت لي أمي تلك الحكاية عند سماعها أخبار المملكة الأخيرة، إذ صارت القيادة للمرأة أمرًا مباحًا، ولم أخبرها حينها أن هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر قد ألغيت، وأنه لم يعد هناك وجود للمطوع، الذى طالما نهرها لتخليها عن غطاء الوجه. كنت لأوقعها في مأزق أكبر مما اعتادت على أن توطّن نفسها عليه، فبداخلها كانت تحاول دومًا أن تجمع بين النقائض، فهذه القوانين التي تسنّها المملكة ونظام العيش بها يحمي الديانة، لكنها مع ذلك لا تقوى على الامتثال إليه، ولا تجد فى نفسها المحبّة للدين قدرة على اتباعها، فرضيت بأن تكون مذنبة في المملكة وتقيّة فى مصر، وهي لا تعدو أن تفعل نفس الفعل بالبلديْن.

المملكة العربية السعودية، الدولة التي تحمى الدين مذ أسست، تتحدث باسمه، وتتحد مؤسساتها السيادية بمؤسساتها الدينية، فلا يخرج قرار سياسي إلا بصفة الفتوى الدينية، ليصير الممنوع قانونًا حرامًا شرعًا، والحرام شرعًا جريمةً قانونية. هكذا سوّقت الدولة الوليدة نفسها منذ البداية، فهي نتاج اتحاد صاحب دعوة إصلاحية دينية (محمد بن عبد الوهاب)، وأمير مدينة الدرعية (محمد بن سعود).

لم تعد هذه الصورة بذات الشرعية والثبات مؤخرًا، وبات طرح السؤال عن العلاقة بين الدين والدولة السعودية حتميًا، ليس فقط السؤال عن كيف صارت هذه العلاقة الآن، ولكن عن كنه هذه العلاقة وحقيقتها من البداية.


في البدء كانت الحركة

يعرض خالد الدخيل في كتابه «الوهابية بين الشرك وتصدع القبيلة» سؤالا نقديًا حادًا للسردية التاريخية الرسمية لقيام الدولة السعودية، وللكتابات التي تناولت تاريخ الدولة السعودية في العموم باعتبارها لا تقدم إلا تفسيرًا دينيًا لظاهرة سياسية بانفصال تام عن مسار تاريخ المنطقة، أو تفسيرًا حداثيًا يفترض أن ظهور الدولة السعودية حدثٌ منفصل عن تطور تاريخى ممتد من قبله أيضًا.

السؤال الرئيسي الذي يطرحه الكتاب هو: هل جاءت الوهابية في مبتدئها كاستجابة للشرك؟ أم كاستجابة للتصدع القبلي؟

يمضي الدخيل في إثبات فرضية أن الحركة الوهابية وما تبعها من قيام للدولة السعودية إنما كان استجابة لتطور سياسي ومجتمعي أصاب المنطقة عبر قرون، دون أن يقلل من قيمة العامل الدينى كعامل مفسر هام لظاهرة الدولة السعودية، لكنّه يرفض أن يكون هو العامل المفسر الوحيد كما ساد في الكتابات التي تناولت تاريخ الدولة والحركة.

هنالك ثلاث فرضيات رئيسة يتبناها الكاتب ويبنى كتابه على إثباتها لينتقل منها لإثبات نظريته، وهى:

أولا: أن محمدًا بن عبد الوهاب كانت له أهداف سياسية من حركته منذ بدايتها، بل وقام بدور سياسي طوال فترة دعوته، وأن الاتفاق الأول المؤسس للدولة ضمّ بنودًا سياسية من البداية.

وثانيًا: أن مفهوم التوحيد الذي قامت عليه الدعوة الوهابية حمل في طيّاته معنى التوحيد السياسي، وأن هذا وإن لم يكن بيّنًا في الكتابات النظرية للحركة إنما أبانت عنه ممارستهم التطبيقية والدراسة الجادة للحالة الدينية بالحواضر النجدية وقت ظهور الدعوة.

ثالثًا: وهذه الحالة تقودنا إلى الفرضية الثالثة التي يثبتها الدخيل، وهي طبيعة الحالة الدينية بنجد قبل الدعوة، وهل حقًا ساد الشرك كما تدّعي أدبيات الحركة؟

يعتمد الدخيل على تحليل النصوص التاريخية والدينية لإثبات فرضياته الثلاث في النصف الأول من كتابه، ليصل بنا في النصف الثانى منه الذي يعتمد على دراسة تفسيرية لظهور المدن المستقلة بنجد قبل الدعوة وتصدع نظام القبيلة، إلى نتيجة تقول بأن الحركة الوهابية إنما كانت استجابة طبيعية منطقية في إطار صيرورة تطورية تاريخية للمنطقة.


دعوة سياسية من البداية

بعد أن أنهى الشيخ سفراته وجولاته، عاد إلى نجد ليطلب المساعدة المادية لإظهار دعوته وإعلائها. طاف بدعوته على عدد من رؤساء المدن النجدية، حتى وصل إلى مدينة الدرعية والتقى محمدًا بن سعود وأبرم معه الاتفاق الأهم في تاريخ الحركة الذي سيسفر عن قيام الدولة السعودية الأولى. هذه هي الرواية المتفق عليها كنقطة بداية للظهور الوهابي. بقي السؤال عما كان من بنود مشروطة في هذا الاتفاق وعن دلالاتها السياسية.

هنالك برز الخلاف، فللمرحلة مؤرخان رئيسيان هما ابن غانم – تلميذ ابن عبد الوهاب – وابن بشر، المؤرخ المتأخر عن ابن غانم. فابن بشر يورد شرطين قام عليهما الاتفاق، أن يتعاهد الشيخ والأمير على التعاضد وبذل كل القوة لنصرة الدعوة، والثاني ألا يعترض الشيخ على ما يأخذه ابن سعود من ضرائب من أهالي الدرعية ولا يحرّمها. أما ابن غانم فلم يعرض هذا الشرط، وأسقط أيضًا ما روي عن ابن عبد الوهاب مِن وعده لأمراء المدن المناصرة لدعوته بمُلْك الحجاز ونجد جميعًا.

يوضّح الدخيل أن السبب وراء إغفال ابن غانم لهذه الروايات رغم كونه الأقرب من مؤسس الدعوة والشاهد على أحداث قيام الدولة، أن التأريخ للدعوة التزم إظهار طهوريتها ورفع أي شائبة سياسية عنها وحصرها في إطار الدعوة الدينية الخالصة، رغم أن هاتين الروايتين تخبران عن الفكر السياسى للشيخ من بداية دعوته، وطموحه نحو تأسيس دولة مركزية ذات سلطة متسعة.

يتضح ذلك من المسار الذي ارتضاه الشيخ لعلاقة السلطة بالدين، فالشيخ لم يؤسس دولة دينية يحكمها بنفسه، كتلك التي تتبادر إلى الذهن هيئتها كدولة أسستها حركة دينية، وإنما أسّس لدولة إسلامية لها قائد سياسي، لكن يقع منها القائد الروحي والديني موقعًا لا يداني القائد السياسي، بل يرتفع عنه سلطة وتحكمًا.

فمثلا، ظلّ الشيخ متحكمًا في صيرورة الأمور دقيقها وجليلها إبان طور تأسس الدولة وحتى السيطرة على الرياض. وفور استقرّت الأمور، اكتفى بوظيفة التعليم والفتوى مفوِّضًا شئون الحكم للزعامة السياسية، لكن بصورة لم تنفصل فيها السلطتان، وهي السُنّة التي صارت من بعده حاكمًا على العلاقة بين سلطة الدين والسياسة في المملكة. ويثبت الدخيل عبر تحليل الروايات التاريخية عما جرى البعد السياسي في الفتاوى الدينية للشيخ.


المفهوم السياسي للتوحيد

خولف ابن عبد الوهاب في نظرته لشيوع الشرك في نجد أشد مخالفة، وكان من أشد معارضيه أخوه وأبوه، ولم يتحقق للمصادر التاريخية إجماع على أمر بمثل هذه الأهمية، وهذه مفارقة ذات معنى هام، فكيف يكون الشرك وحده مفسرًا لقيام الحركة والدولة ولا تتوافر الكتابات والمصادر على إثباته، بل إن حتى الحالات التي ذكرها ابن عبد الوهاب نفسه دليلا على دعواه كانت معدودة فى نجد.

لا يكذب الدخيل الدعوى بالكلية، لكنه يعيد النظر في وزنها كتفسير لأحداث محورية كتلك، وينظر في مفهوم التوحيد والشرك ذاته عند ابن عبد الوهاب، وما إذا كانت لهما دلالات سياسية ساهمت في تشكيل الأحداث.

والواقع أن الفصل بين الدلالة السياسية للكلمة والدلالة الشرعية لها مرام عصي، لاتحادهما في أصلهما قبل أن يتبناهما ابن عبد الوهاب في أطروحته، فمفهوم التوحيد متسع بل أصل أصيل ومرتكز يمكن لكل أمر مهما كان صغيرًا أن يرتكز عليه، لكنه بهذه الصفة لا يتحقق معه الكفر والشرك إن تخلّف عن أمر من الأمور، فتتباين مراتب التوحيد ومراتب الكفر والشرك.

ودرس المفهوم الديني وفصله عن تمثلاته السياسية في كتابات ابن عبد الوهاب لن يتسع لها كتاب في التاريخ أو الاجتماع، لذا اعتمد الدخيل على تحليل الحوادث التاريخية نفسها لاستنباط المقصد، فما الذي أراده ابن عبد الوهاب بتسمية البلدات المنفصلة عن حكم الدولة السعودية المركزية بعد قيامها بالبلدات المرتدة وهي لم تعدُ أن خرجت خروجًا سياسيًا عن الدولة المركزية ولم يظهر فيها الكفر .


اختراع الدولة

إن سفرات ابن عبد الوهاب إلى الحواضر العربية الخاضعة للدولة العثمانية كالحجاز والعراق أثبتت له أهمية وجود دولة مركزية تستند إليها الدعوة. فالدولة المركزية الموحّدة تقدر على أن تمد أطراف سلطتها لتسيطر على مقاليد الحياة الإجتماعية والدينية والإقتصادية. ونجد ترزح تحت نير الفرقة وتناحر المدن المستقلة منذ قرون، ويستحيل مع هذا الوضع أن تقوم حركة دينية شمولية لتجتاح كل تفصيلات الحياة النجدية. إذًا، الدولة الموحدة ضرورة لقيام الحركة؛ ضرورة قد تصل حد الالتصاق بالدعوة فتكون جزءًا منها، ويصير الخروج عليها خروجًا على الدعوة والدين.

هكذا اختار ابن عبد الوهاب خيارات فقهية، كوجوب الجماعة – الجماعة السياسية لا جماعة الصلاة فحسب – وهكذا صار الخروج على الدولة الجديدة كفرًا. لكن لماذا يطرح خيار الدولة في هذا الوقت تحديدًا، وهو الخيار الذي لم تعرفه نجد في تاريخها من قبل؟ هل هذا اختراع ابن عبد الوهاب؟

الحقيقة أن الدخيل لا يرى الدولة اختراعًا وهابيًا، بل ضرورة اقتضتها صيرورة تاريخ المنطقة منذ قرون سبقت حتى ظهور الإسلام، حين بدأت القبائل تنزح للاستقرار في حركة تاريخية امتدت لقرون طويلة، وصولا إلى الصيغة الأخيرة للاستقرار فى مدن مستقلة متناحرة تقتتل قتال الجاهلية.

في تقلبات حركة الاستقرار تلك، تفتت مفاهيم مركزية في بنية المجتمع والفرد. فالمفهوم القبلى، وسيطرة القبيلة الممتدة المتسعة على أفرادها وضمانها الحماية لهم، مرّ بمراحل من التفتت ليحل محله بالأخير مفهوم الأسرة. ومن أسر عدة تنتمي إلى قبائل مختلفة، تكوّنت المدينة، فصار الانتماء انتماءيْن، انتماء للأسرة وانتماءً للمدينة، وانتماء قبليًا لم ينعدم ولم يحتفظ بصيغته القديمة. كل ذلك إضافة إلى انتماء عربي إسلامي، وكلها انتماءات متعارضة متصارعة. فأبناء المدينة من قبيلة كذا سيحاربون أبناء قبيلتهم من مدن أخرى، وكأنهم شركاء متشاكسون في نفس الرجل؛ فهل لهذا كان مفهوم التوحيد ضرورة سياسية ودينية؟

ما اتفق عليه المؤرخون أن مدن نجد المستقلة كانت تعاني أشد معاناة قبل ظهور الدعوة – معاناة الحرب والإغارة والفقر والجدب والعوز – وإن حاجة هذه المدن لإنهاء معاناتها صادفت حاجة أمرائها للسيطرة على المدن المجاورة وبسط نفوذهم الممتد، كما صادفت حلم ابن عبد الوهاب بتطبيق الشريعة – كما يفهم ذلك الحلم – الذي احتاج إلى تأسيس دولة كان وجودها حتمية تاريخية ظهرت الدعوة أم لم تظهر.


ختامًا

صحيح أنه لا يمكن لكتاب واحد أن يفسر ظاهرة تاريخية كبيرة ومركبة بحجم الظاهرة الوهابية السعودية، لكنّ افتتاح الكتاب لهذا النوع من القراءة للظاهرة، وإن قصر فى بعض مواضعه عن إعطاء تفسيرات محكمة، هو عمل هام خاصة مع التطورات الأخيرة للظاهرة. وإذا كان التفسير في الكتاب يوضع بأثر رجعى، فذلك لا ينفى أهميته وفاعليته لإحداث فهم أعمق للمنطقة. بل إن محاولة الخروج عن سلطة التفسير الديني للتاريخ فى ذاتها محاولة هامة، بحيث يصير من الممكن أن نرى تفسيرات حقيقية للأحداث لا تغفل العامل الديني وقيمته بأن تقدّم نموذجًا ماديًا جافًا، ولا تجعله تاريخًا أسطوريًا غير متسق مع طبائع الأمور.