فاجنر والجيش الروسي: صراع على الدولة
برز اسم «يفغيني بريغوجين»، مؤسس شركة فاغنر العسكرية الخاصة والملقب بطباخ بوتين، بسبب دوره المؤثر في الحرب الأوكرانية؛ إذ تشارك قواته في الصفوف الأمامية للقتال، وتضخم دور الرجل المقرب من بوتين والبالغ من العمر 61 عامًا، وأصبح يطرح نفسه كبطل حربي، في ظل تزايد خطورة دور قواته واعتباره أنّها أكثر فاعلية من الجيش النظامي، تقود عناصر فاجنر الحملة الروسية المستمرة منذ شهور للسيطرة على مدينة باخموت الأوكرانية التي كان عدد سكانها قبل تدميرها 75 ألف نسمة، ويصفها بريغوجين بأنها «مفرمة لحم» بسبب كثرة القتلى في هذه المعركة.
ارتفع شأن بريغوجين خلال الحرب لدرجة جعلته محل اعتماد الرئيس فلاديمير بوتين، وفي حالة تنافس وندية مع قادة الجيش، ولاحقتهم اتهاماته بالفشل والتقصير والخيانة، ومع ظهور إجهاد القدرات العسكرية للجيش تزايد شعور زعيم فاجنر بالزهو وبات يكيل الشتائم والتهم لوزير الدفاع ورئيس الأركان الروسيين، ويسخر من تقارير وزارة الدفاع حين تزعم أن قواتها تحرز نجاحات في المعركة، ويتهمهم بالفرار من الزحف وأن قواتهم في حالة انهيار.
في المقابل، يبدو أن الجيش رد على بريغوجين بشكل عملي عن طريق منع الذخيرة عن قواته لتذكيره بأن المؤسسة العسكرية هي التي تتحكم في المنح والمنع، الأمر الذي قابله بريغوجين بعناد أكبر وصعّد من انتقاداته وشكواه، وهدد علنًا بسحب قواته من معركة باخموت في ذكرى احتفالات عيد النصر الروسي الموافق 9 مايو/أيار.
اقرأ أيضًا: فاجنر في أوكرانيا: سلاح بوتين الذي يزعج الجيش الروسي
تكشف وثائق مسربة أن مسؤولي وزارة الدفاع ناقشوا فيما بينهم كيفية الرد على انتقادات بريغوجين لأدائهم ومطالبته بمزيد من الموارد، وتتحدث الوثائق أيضًا عن صراع على السلطة بين الجانبين.
مؤخرًا دعا رئيس فاجنر إلى السماح للمواطنين بانتقاد القادة العسكريين علنًا، ومنحهم حرية التعبير في هذا المجال وتحصين الجنود فقط من النقد، وذلك بعد قرار البرلمان (الدوما) بتشديد العقوبات على من يسيؤون إلى سمعة القوات المقاتلة في أوكرانيا، مع العلم أن القانون يمنع انتقاد المرتزقة أيضًا، وليس الجيش النظامي فقط، في سابقة من نوعها.
ويواصل بريغوجين منذ عدة أشهر توجيه اتهاماته إلى هيئة الأركان الروسية بعدم إمداد مقاتليه بكمية كافية من الذخائر بهدف منعهم من تحقيق انتصار في باخموت يعجز عنه الجيش النظامي، لكنه عاد مؤخرًا وأعلن في تسجيل صوتي نشره مكتبه الإعلامي أن الجيش تعهد بمنحه كل الذخيرة والأسلحة التي يحتاجها في معارك باخموت.
اقرأ أيضًا: محرقة الحرب الأوكرانية: لماذا باخموت؟
وجاءت هذه التصريحات بعد ساعات من نشر فيديو لقوات الرئيس الشيشاني رمضان قديروف يفيد بوصولها إلى جبهة باخموت، إذ أعلن بريغوجين أنه سيترك الجبهة إلى قديروف، وأكد الأخير استعداده لذلك وأرسل رجاله إلى هناك لتسلم المواقع القتالية، تمهيدًا للانسحاب الذي لم يتم بل واصل عناصر فاجنر القتال في باخموت.
ويكشف تسريب نُشر محتواه في «واشنطن بوست» ويرجع تاريخه إلى أواخر يناير/كانون الثاني الماضي، أن بريغوجين عرض على الأوكرانيين إفشاء معلومات عن مواقع الجيش الروسي، مقابل سحب الأوكرانيين جنودهم من المنطقة المحيطة بباخموت، وذلك بعد مقتل الآلاف من قواته في المعركة، وحث أوكرانيا على توجيه ضربات أشد ضد الجيش الروسي النظامي في شبه جزيرة القرم.
اقرأ أيضًا: رمضان قديروف: مستبد عابد
ووفقًا لوثائق استخباراتية أمريكية، نفذت مديرية المخابرات العسكرية الأوكرانية اتصالات سرية أثناء الحرب مع بريغوزين، وأكدت مصادر أوكرانية أن بريغوجين تحدث عدة مرات إلى مديرية المخابرات الأوكرانية، ومدد العرض بشأن باخموت أكثر من مرة، لكن كييف رفضته لأنها لا تثق فيه واعتقدت أن الأمر قد يكون خدعة.
وبعد تسرب تلك الأنباء، تعرضت للتكذيب من قبل رئيس فاجنر، فرفض الاتهامات بالتخابر مع كييف، ورجح أن يكون أشخاص من النخبة الروسية وراء تلك الاتهامات، وقال إن خصومه في روسيا يحاولون إلصاق أكبر قدر ممكن من القذارة بشخصه.
ويرى الدكتور عمرو الديب، الأستاذ المساعد في معهد العلاقات الدولية والتاريخ العالمي بجامعة لوباتشيفسكي الروسية ومدير مركز خبراء رياليست، أن القادة الميدانيين كثيرًا ما يكونون على خلاف مع القادة العسكريين الذين يجلسون في المكاتب، فالخلافات بين وزارة الدفاع الروسية وشركة فاجنر المتعاقدة مع الحكومة هو صراع على الزعامة وتبادل إلصاق الهزائم بين الطرفين، ومثل تلك الخلافات بين القادة العسكريين أمور طبيعية جدًا.
وأضاف مدير مركز خبراء رياليست في تصريحاته لـ«إضاءات» أن هذه الأمور تحدث في كل الدول وفي كل الجيوش على مر التاريخ، كما حدث في مصر مثلًا في حرب 1967 وحرب أكتوبر، لكنها أخذت اليوم حيزًا إعلاميًا كبيرًا بسبب انتشار وسائل التواصل ووسائل الإعلام التي أظهرت طبيعة هذه الخلافات، كما وقع تضخيم كبير من جانب الإعلام الغربي ومحاولات لاستغلال تلك الخلافات لتقسيم الجبهة الروسية، والزعم أن بريغوجين يتواصل مع المخابرات الأوكرانية، وهذا غير صحيح.
وتابع أن وسائل الإعلام الغربية تركز على الخلافات بين الجيش الروسي وكل من بريغوجين والرئيس الشيشاني، رمضان قديروف الذي يدعمه، على الرغم من أن الخلافات تتم تحت سقف واحد وقيادة واحدة وبالتالي فإن هذه النزاعات تبقى تحت التحكم، لكن القيادة الروسية ترى أن هذه التوترات يجب حلها سريعًا حتى لا تتفاقم مع مرور الوقت.
وبحسب ألكسندر هوفمان، المستشار الروسي في الاتصالات والسياسات الاستراتيجية، فإن وزير الدفاع سيرجي شويغو، يحظى بدعم الرئيس فلاديمير بوتين، على الرغم من انتقاد بعض قوات الأمن له، وكذلك شخصيات بارزة مثل بريغوجين أو الرئيس الشيشاني، والتشكيك في الأساليب التي استخدمتها وزارة الدفاع خلال فترة الحرب الأوكرانية، خصوصًا ما يتعلق بمأساة ماكيفكا ليلة رأس السنة التي قتل فيها عدد كبير من جنود الجيش بقصف أوكراني استغل أخطاء وقع فيها الجيش الروسي، أو تأخر وزارة الدفاع ليومين قبل الإعلان عن نجاح فاجنر في احتلال مدينة سوليدار مما كشف عمق الخلاف بين الطرفين.
كما أن أطرافًا مقربة من الجانبين أكدت أن هناك توجيهات من جهات رسمية بالتعتيم على نجاحات فاجنر وتلميع الجيش بدلًا من ذلك بعد تكرار إهانات بريغوجين للقادة العسكريين، وعدم إمكانية التنبؤ بأفعاله، وزيادة مطامحه السياسية.
دولة فاجنر
تسود الخشية والقلق داخل روسيا من تزايد سطوة فاجنر، ليس من جانب الجيش فقط بل فئات المجتمع المختلفة، بالنظر إلى أصل هذه القوات التي يتم تجنيد عناصرها من أصحاب السوابق الجنائية من داخل السجون، فبحسب شهادات عناصر فاجنر، فإن إدارات السجون تجمع النزلاء لمقابلة بريغوجين ويتم إيقافهم في صفوف أمامه، حيث يطوف على السجون بمروحية خاصة ويقول للمساجين إنه مفوض من جهات عليا، وأن كل من يلتحق بقواته يحصل على عفو ويتم تبييض الصحيفة الجنائية له مقابل القتال لستة أشهر فقط، ويحصلون على راتب شهري مرتفع، وامتيازات للأبناء مثل الدراسة على نفقة الحكومة، وشطب الديون عن أسرهم.
ولتحفيز السجناء يتم إخبارهم أن مهمتهم ستكون في الخط الثاني لكنهم يفاجؤون بالزج بهم في الصفوف الأولى، ومن يهرب منهم يتعرض للإعدام بتهمة الفرار من الخدمة العسكرية، ويتم التنبيه عليهم بألا يسلموا أنفسهم أحياء بل ينتحروا لمنع وقوعهم في الأسر، ولا يتم إسعاف مصابيهم بل يواصلون زحفهم، وفي المساء يأخذون من تبقى على قيد الحياة، ويُحتسب الوقت الذي يقضونه في المستشفى من ضمن الستة أشهر المتفق عليها، ويُطلق سراحهم بعد ذلك.
اقرأ أيضًا: مقاتلو «فاجنر»: أداة روسيا لاختراق أوكرانيا
وبعد نجاح تجربة تجنيد المعتقلين، بدأ بريغوجين في إرسال السجينات النساء إلى ساحات القتال شرق أوكرانيا أيضًا مع تزايد الحاجة لأكبر عدد من الأشخاص هناك.
وأصبحت عودة مقاتلي فاجنر إلى مدنهم الأصلية بعد مشاركتهم في القتال تثير مخاوف السكان المحليين بسبب عنفهم وارتكابهم للجرائم، فمن ضمنهم قتلة ولصوص ومن يصفون أنفسهم بـ«عبدة شيطان»، وعاد بعضهم إلى القتل والإسراف في شرب الكحوليات وإنفاق أموالهم بإسراف على الدعارة.
ووفقًا لزعيم فاجنر، فقد تم بالفعل إطلاق سراح أكثر من خمسة آلاف من أصحاب السوابق الجنائية، ويخشى السكان من انتقام الدولة إن انتقدوا تصرفاتهم بسبب القانون الذي يعتبر نقدهم جريمة جنائية.
وبذلك تتحول فاجنر شيئًا فشيئًا إلى دولة داخل الدولة، ويدين عناصر المجموع لبريغوجين بالولاء والامتنان لأنه حولهم من مُدانين معاقَبين منبوذين إلى أشخاص فوق القانون، وأعطاهم هيبة واحترامًا واعتبرهم كأبطال حرب على حد وصفه لهم في أحد اللقاءات، مع الإشارة إلى أن بريغوجين نفسه كان أحد نزلاء السجون لعشر سنوات لاتهامه بالسرقة.