الدوران في فلك وائل حلاق: معتز الخطيب نموذجًا
احتدم الجدل في الآونة الأخيرة بين بعض النخب العربية حول أفكار الدكتور وائل حلاق، تحديدًا في كتابه «الدولة المستحيلة»، وكذلك فيما سبق ممّا كتبه حول الشريعة والفقه الإسلامي، وعن طبيعة السلطة ودور المذاهب الإسلامية في «التشريع» بمعزل عن تلك السلطة. لكن الخطير في الموضوع هو ظاهرة أخرى تنتشر بين بعض الكتاب العرب والمسلمين، وهي أدلجة أفكاره، أو بالأحرى توسّلها للخلوص بنتائج أخرى غير التي أرادها حلاق. ولنتذكر جيدًا أن وائل حلاق، بحسب ظاهر قوله، لا يسعى إلى أن يقول بعدم فرضية الدولة الإسلامية أو الحكم الإسلامي، فهو في الأساس ليس مسلمًا، وإنما يقدم وجهة نظره عن طبيعة الحكم الإسلامي والمؤسسة الفقهية والحداثة.
ولذا كان غريبًا أن نجد من بين الكتاب المسلمين من يتوسل أطروحات وائل حلاق ليصل إلى نتيجة تنفي وجوب قيام دولة إسلامية!، وهو الأمر الذي قام به مؤخرًا الدكتور معتز الخطيب، المتخصص في الدراسات الإسلامية وأستاذ «المنهجية والأخلاق»، فكتب مقالاً بعنوان «هل الدولة الإسلامية مطلب ديني؟»، متوسّلا فيه أفكار وائل حلاق التي لا تسعى أساسًا للإجابة عن هذا السؤال، وسنرى من خلال مناقشة أفكار مقاله ومناقشة بعض أفكار وائل حلاق، كيف أن عنوان المقال في وادٍ، والمضمون في وادٍ آخر تمامًا!
القضية «إقامة الدين» وليس «نصب الإمام»
يرى الدكتور معتز الخطيب في مقاله «أن أطروحة الدولة الإسلامية أطروحة هجينة تستعير صورة الدولة الحديثة وتحتفظ بظل الخلافة في مواءمة شكلانية لا تعي منظومة الدولة ولا منظومة الخلافة». ويزعم أن الإسلاميين حولوا قضية الدولة الإسلامية إلى «عقيدة إيمانية» استنادًا إلى قضية «وجوب نصب الإمام» الفقهية، وأنها في الأساس قضية فقهية اختلف حولها الفقهاء. وأول المغالطات التي يستخدمها الدكتور معتز في مقاله هي جعل قضية «الدولة الإسلامية» مرتبطة عند الإسلاميين بقضية الإمامة وتنصيب الإمام، فهو يلجأ إلى أضعف الأدلة بنظره ليبيّن خطأه، ويخصص جزءًا كبيرًا من المقال في مناقشة قضية الإمامة التاريخية والفقهية هذه، ليصل من خلالها إلى أن قضية الدولة الإسلامية الحديثة هي أدلجة حديثة تحاول المواءمة بين قضايا فقهية قديمة وبين العصر الحديث. ويقول: «الإمامة في الفقه السني الموروث هي من الفروع والفقهيات وليست من الأصول والمعقولات». وهنا نتساءل: هل قضية إقامة الدين في جميع مجالات الحياة (وهي أساس أطروحة الدولة الإسلامية) هي نفس قضية الخلافات الفقهية حول تنصيب الإمام؟ إنّ قضية الإمامة التي قال فيها الجويني والغزالي وغيرهما بأنّها من «الفقهيات» هي وجوب اختيار إمام واحد، وكل ما يتعلق بصفات هذا الإمام وشروطه، فهذه قضايا فقهية، أما قضية الدولة الإسلامية فهي قضية عقدية لأنها تستند إلى أصل الدين وهو التوحيد.
يقول معتز الخطيب عن المستشار عبد القادر عودة رحمه الله في مقاله: «وعقد عنوانًا سماه: «لله الحكم والأمر» قرر فيه مبدأ الحاكمية – قبل سيد قطب». ونسي أن من قرر هذه الحقيقة قبل سيد قطب وقبل عبد القادر عودة رحمهما الله هو الله عز وجل في كتابه العزيز، وقد جاءت الآيات واضحة في سياق الحديث عن اليهود تحديدًا، الذين بدلوا شرع الله في الزاني وجعلوا الجلد والتحميم على كل زان ليتساوى الوضيع والشريف في ذلك، وألغوا حكم الرجم الذي فرضه الله عليهم، في هذا السياق جاء قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون}؛ أي (بناءً على سياق الآيات): من لم يشرعْ للناس ما شرعه الله لهم ليحكم به في مواضع النزاع فأولئك هم الكافرون. فقبول شرع الله عز وجل ورفض ما سواه هو من أصول ديننا ومن أركان التوحيد، ولا يتعلق لا بعبد القادر عودة ولا بسيد قطب!.
علينا أن نؤكد بأن مضمون مقال الدكتور معتز بعيد كل البعد عن تحرير المسألة التي طرحها في عنوانه، فقد تساءل في العنوان «هل الدولة الإسلامية مطلب ديني؟»، ولكن نجده في المقال يؤكد على أن مسألة الإمامة وصفات الإمام هي مسألة فقهية خلافية، فما علاقة هذا بسؤال العنوان؟، فقد يختلف الفقهاء في صفات الإمام بل وحتى في تعدد الأئمة (كما تحدث الصنعاني والشوكاني)، ولكن هل اختلفوا في أن على السلطة إقامة دين الله في جميع مجالات نشاطها؛ كالسياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية ونظام العقوبات وغير ذلك؟
القضية «إقامة الدين» وليس «من كان يتولى التشريع»
ولعل أكبر مغالطة يطرحها الدكتور معتز في مقاله هي ترديده لكلام الدكتور وائل حلاق. يقول معتز الخطيب: «لأن (الشريعة) كانت نتاجَ تفاعل الجماعة المسلمة مع النص الديني عبر التاريخ، ولم تكن نتاج (سلطة) أو (تشريع قانوني) كما هي الدولة الحديثة، فالتشريع وظيفةٌ كان يقوم بها الفقهاء عبر التاريخ بمعزل عن السلطة السياسية سواءٌ وُجدت أم لم توجد، ولكن الإسلاميين الحركيين أرادوا أن يستصحبوا وظيفة الفقهاء التاريخية ويمزجوها بفكرة الدولة الحديثة (الدولة التي تحكم بالشريعة) ويمارسوا الوظيفتين!».
والناظر في صياغة الدكتور معتز يجد أن المقولة الأولى هي نقاش لموضوع آخر يتعلق بأطروحة وائل حلاق في كتابه «الدولة المستحيلة» وفي أطروحاته السابقة عن الشريعة ومفهومها، فلو سلّمنا له بأن «الشريعة كانت نتاج تفاعل الجماعة المسلمة مع النص الديني عبر التاريخ ولم تكن نتاج سلطة»، فما علاقة هذا التقرير بسؤال العنوان؟، لنتذكر أن الدكتور معتز أراد في العنوان أن يقول: إنّ الدولة الإسلامية ليست مطلبًا دينيًا، ولكنه هنا يقرر أن الشريعة لم تكن تأتي من السلطة وإنما من المجتمع ممثلاً بالفقهاء (وهو كلام غير دقيق)، ونلاحظ هنا أنه لا علاقة ولا ارتباط بين المسألتين، فالمسألة التي يقررها تتناول سؤال: «من الذي كان يقرر تفسير الشريعة»، بينما المسألة في العنوان: «هل إقامة الدين على مستوى السلطة واجب ديني»؟، فحتى لو سلّمنا بأن الشريعة كانت شيئًا يصدر من الفقهاء في المجتمع وتفاعلهم مع النص دون أي دور للسلطة، فهل هذا يعني أن السلطة كانت خارجة عن إطار الدين ولا ترى نفسها ملزَمة بالشرع في السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية والقضاء ومكافحة الجرائم؟ن ومن ثم أليس انضباط السلطة ومن على رأسها بشرع الله وقبولهم له ابتداء واجبًا دينيًا؟. إن المسألة كما ترون بسيطة يسيرة، ولكن الدكتور معتز يخوض في قضايا أخرى يُقحمها في النقاش، فيثبت شيئًا مختلفًا عن سؤال العنوان، وينهي مقاله دون تحرير مسألة: «هل الدولة الإسلامية مطلب ديني». ونريد قبل إكمال الكشف عن مغالطات الدكتور معتز أن نحرر هذه المسألة بشكل ميسر سهل.
نقول أولاً: إن هناك فرقًا بين «إقامة الدولة»، أيًا كانت هذه الدولة، وبين «إقامة الدولة للدين». ونحن حين نحرر المسألة الأولى وهي «إقامة الدولة» سنجد بأن معظم العقلاء يتفقون على وجوب إيجاد سلطة على أرض معينة يعيش عليها سكان معينون؛ لأنه – وكما قال الشاعر: لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم. أما مسألة «هل الدولة الإسلامية مطلب ديني» فهي تنتمي إلى القضية الأخرى؛ أي إلى قضية «إقامة هذه الدولة للدين»؛ أي: هل يجب على المسلمين أن يقيموا دينهم على مستوى الدولة والسلطة؟.
ما هي الدولة؟
يخوض الدكتور معتز في قضية اختلاف طبيعة دولة الحداثة المعاصرة عن طبيعة «الحكم الإسلامي» في العصور الإسلامية السالفة، وهو ينقل هذا الكلام عن وائل حلاق في أطروحته عن «الدولة المستحيلة». ولكننا إذا نظرنا للمسألة نظرة فاحصة سنجد أنه يخوض في ما أضافته الحداثة على طبيعة الدولة وتغوّلها في المجتمعات ودورها في التشريع وما شابه من أمور، ولكن هذا الاختلاف لم يغير حقيقة «وجود دولة» أو «وجود سلطة» (إذا أردنا ألا نقع في فخ المصطلحات)؛ أي أن ثمة «هيكلاً» أساسيًا لمفهوم الدولة، لا يمس به اختلاف طبيعة هذه الدولة ومجال سيادتها وطريقة عملها، فالذي اختلف في الحداثة ليس نشوء شيء جديد لم يكن موجودًا في السابق كما يزعم الدكتور حلاق في كتابه ويقول إنّ الدولة هي منتج أوروبي، بل كانت الدولة موجودة، بمعنى: السلطة التي تسيطر سياسيًا وعسكريًا على أرض معينة فيها مجموعة من السكان وتمارس سيادتها فيها في مختلف المستويات: السياسية، القضائية، التشريعية. إن الذي اختلف بين الدولة الحديثة والدولة قديمًا (أو «الحكم الإسلامي» كما يسميه وائل حلاق) هو طريقة إدارة هذه السلطة لسيادتها، واختلاف المساحة التي تتولاها الدولة في مجالات كالقضاء والتشريع. ولنرصد مثلاً الفرق بين دولة الخلافة الراشدة من جهة، والتي كانت ذات طابع قبلي بسيط، وبين الدولة العباسية في أوج ازدهارها من جهة أخرى، ما الذي اختلف؟
كانت دولة الخلافة الراشدة قائمة على نظام بسيط بحيث يمكن فيه للخليفة أن يكون قاضيًا في أحيان ومفتيًا في أحيان أخرى. وكانت الجماعة شيئًا منفصلاً عن السلطة؛ فلم يكن عمر وحده هو القائم على السلطة، بل كان هناك وجهاء من كبار الصحابة ممثلون عن الأمة المسلمة يشيرون عليه ولا يسعه أن يقضي بأمر دون موافقتهم، وكان اختيار الإمام يجري بموافقة هؤلاء الممثلين عن الأمة وبيعتهم، وهم يمثلون مفهوم «الجماعة» المنفصل عن السلطة. فإذا ذهبنا إلى الدولة العباسية في أوج ازدهارها وجدنا أنها استعارت رسوم الإمبراطوريات السابقة لها، وتحديدًا الفارسية، وأنها لم تعد ذات طبيعة قبلية بسيطة، ولم يعد للخليفة دورٌ في القضاء، بل أصبح تخصص الوظائف واضحًا: كالقضاء والحجابة والحسبة والمظالم وما شابه من تقسيمات. بل وحتى المذاهب الفقهية وتراتبيتها بدأت تتحدد. وحدث كذلك إلغاء للشورى، وإحلال لمبدأ التوريث الكسروي الهرقلي (وهو مبدأ مخالف لطبيعة الحكم في الإسلام)، وحدث كذلك اختزال للجماعة في السلطة، فصار الخليفة يمثّل «الجماعة» بخلاف طبيعة الدولة الراشدة.
إن هذا الرصد للاختلاف بين دولة الخلافة الراشدة من جهة، وبين الدولة العباسية من جهة أخرى، يطلعنا على خلافات جذرية عميقة جرت على السلطة والدولة والمجتمع في التاريخ الإسلامي. ولكننا نتساءل: هل غيرت هذه الاختلافات الجذرية من حقيقة تسمية دولة الخلافة الراشدة أو الدولة العباسية بـ «الدولة»؟، كلا، بل هي دولة من حيث كونها سلطة تفرض سيادتها على أرض معيّنة فيها مجموعة من السكان، وإن الاختلافات – رغم جذريتها – لم تغير كونها دولة. وكذلك فإن النقلة التي حدثت بفعل التطور البشري في القرون الأخيرة، وتحديدًا في القرنين الأخيرين، لم تكن بدعًا من الأمر، ولم تغير فكرة الدولة، بل غيرت طبيعة هذه الدولة وكيفية إدارتها للمجتمع والمساحات المختلفة التي تمارس السيادة فيها. فهل يجوز لقائل أن يقول: إن مطلب إقامة الدين في مجالات سيادة الدولة هو مطلب أيديولوجي زائف وليس من الدين لأن طبيعة الدولة اختلفت؟!، هذا تمامًا هو ما يقوله الدكتور معتز في مقاله!.
لماذا الدولة «الإسلامية»؟
إذا اتفقنا أن الدولة قائمة، سواء في العصر الراشدي أو العباسي أو العثماني أو العصر الحديث، فإن مطلب إقامة الدولة الإسلامية يعني ببساطة أن تصبح نشاطات هذه الدولة مأطورة بالشرع ومنقادة له، ولهذا كنت دائمًا أفضل الحديث عن «استلام السلطة» وجعلها مأطورة بالشرع على قدر الإمكان، وليس عن «إقامة دولة»؛ لأن الدولة قائمة بالفعل، فالجيش قائم (وهو ليس مجرد الأفراد بل معداته ومقراته وأسلحته وغير ذلك)، ومؤسسات الحكم قائمة؛ كمؤسسات القضاء والداخلية والأمن وسائر مفاصل الحكم. وإنما المراد أن يتولى هذه المؤسسات السيادية من يخشى الله ورسوله ويمثّل الأمة، ومن يسعى بقدر المستطاع إلى إقامة دين الله. وهذا هو ملخص قضية «الدولة الإسلامية» التي يزعم الدكتور معتز أنها أيديولوجيًا حديثة وأنها إقحام للتاريخ ومحاولة لمواءمته مع معايير الدولة الحديثة، وما شابه من ادعاءات لا أساس لها من الصحة.
هل كانت الشريعة بمعزل عن السلطة تاريخيًا؟
لنعد الآن إلى مناقشة المغالطة الأهم التي طرحها الدكتور معتز، والتي وللأسف لم تكن من بنيّات أفكاره، بل استعارها كما هي من كلام الدكتور حلاق، والذي يبدو أنه مفتون جدًا به إلى درجة أنه خصص حتى الآن خمسة مقالات للدوران في فلك أفكار حلاق!. يقول الدكتور معتز في كلام نقلناه سابقًا: «فالتشريع وظيفةٌ كان يقوم بها الفقهاء عبر التاريخ بمعزل عن السلطة السياسية سواءٌ وُجدت أم لم توجد». وهو كلام متهافت تكفي نظرة إلى التاريخ لنقضه، ولا أعني هنا الحديث عن السجل الطويل لتدخّل السلطة بالتشريع، كما فعل الظاهر بيبرس حين ألغى الاحتكار الشافعي للقضاء ووزعه على المذاهب الأربعة في مصر (وهذا المثال وغيره هو نقد قوي يوجه إلى أطروحة حلاق الذي يتخيل أن الفقهاء كانوا بمعزل عن السلطة)، بل أعني أن الفقه الإسلامي تناول في كثير من مساحاته قضايا تتعلق بالسلطة، بل لا يمكن وجودها إلا بوجود السلطة. فلم يكن الفقهاء يملكون سلطة التنفيذ حتى يكون بالإمكان القول إن الفقهاء هم من كانوا يُنتجون التشريع بتفاعلهم مع النص بمعزل عن السلطة، فالشريعة المقصودة هنا والمرتبطة بسؤال العنوان (هل الدولة الإسلامية مطلب ديني) هي ليست مجرد «التنظير»، وإنما أيضًا «التطبيق»، فالمقصود من الشريعة هو إقامتها وليس مجرد معرفتها، وسنرى الآن كيف أنه لم يكن بالإمكان إقامة الشريعة كاملة إلا من خلال وجود سلطة.
لو افترضنا أن الشريعة هي مجرد أحكام العبادات والمعاملات الفردية في الأموال والأحوال الشخصية، لكان بالإمكان الزعم بأن الفقهاء كانوا يتولون وحدهم قضية الشريعة، ولكن – ولسوء حظ حلاق ومعتز الخطيب – أن الشريعة امتدت لمساحات أكبر من مجرد العبادات والمعاملات الفردية. ولنلقِ الآن نظرة إلى بعض ما تم تأليفه في «الشريعة» في مساحات لم يكن بالإمكان قيامها وتطبيقها بل ولا حتى التنظير فيها كما ينبغي إلا بوجود السلطة والدولة!.
من الشريعة: أحكام الأموال والاقتصاد
ألّف الفقهاء في فترة التجرية الإسلامية كتبا في موضوع «الأموال»، ولعل أشهر هذه الكتب كتاب «الخراج» لأبي يوسف القاضي (182 ه) تلميذ أبي حنيفة، وكتاب «الأموال» لأبي عبيد القاسم بن سلام (224 هـ). ولنتذكر جيدًا أن أبا يوسف القاضي افتتح كتابه (الخراج) بالنص التالي: «إن أمير المؤمنين أيده الله تعالى سألني أن أضع له كتابًا جامعًا يعمل به في جباية الخراج والعشور والصدقات والجوالي، وغير ذلك مما يجب عليه النظر فيه والعمل به، وإنما أراد بذلك رفع الظلم عن رعيته والصلاح لأمرهم». وهذا النص وحده كافٍ لهدم أسطورة انعزال الفقهاء عن السلطة فيما يشبه «الفقاعة» (كما عبّر عن ذلك أحد أساتذتي في الجامعة) عبر التاريخ الإسلامي، بل كان هناك تفاعل بين السلطة السياسية والفقهاء بمستويات مختلفة، والأهم من ذلك أن النص نفسه يؤكد على أن طبيعة الشريعة ليست مجرد التنظير، فلو افترضنا أن أبا يوسف كتب كتابه هذا من نفسه دون طلب من السلطة، فهل سيتولى هو أيضًا تنفيذ ما فيه من أحكام فقهية؟!. لقد كتب الفقهاء في «الأموال»؛ لأنهم أدركوا أن في الكتاب والسنة أحكامًا تتعلق بضبط قضايا الأموال والاقتصاد، ومن يطالع كتب «الأموال» سيجد أنه من المستحيل إقامة الدين كاملاً دون أن تقوم السلطة بدورها إزاء ذلك.
ومن الشريعة: أحكام السيّر والعلاقات الدولية
وألّف الفقهاء أيضًا في مجال آخر اسمه «السّيَر»، وهو شبيه اليوم بمجال «العلاقات الدولية»، فكتب الإمام محمد بن الحسن الشيباني (189 ه) كتابه «السير الكبير»، ووضع فيه أحكام الحرب والسلم وعلاقة الأمة الإسلامية بالأمم الأخرى؛ لإدراكه بأن الكتاب والسنة قد جاءا بأحكام شرعية ثابتة تتعلق بهذه المجالات. فهل كان بإمكان الشيباني ومعه ألف فقيه أن يقيموا هذه الأحكام بمعزل عن السلطة، أم إنها من أوجب واجبات السلطة ومجال نفوذها؟، وهل تغيّر الأمر بعد مرور أكثر من 1200 عام على كتابة هذا الكتاب؟.
ومن الشريعة: أحكام العقوبات
وألّف الفقهاء في أحكام الجنايات والعقوبات، وهو ما سيجده المرء في معظم كتب الفقه الشاملة، لإدراكهم بأن الكتاب والسنة قد جاءا بأحكام تتعلق بالجنايات والعقوبات، كحكم قطّاع الطرق على سبيل المثال. فهل كان تنظير الفقهاء وحده في هذه الأمور يكفي لتولي مهمة التشريع، إم إن هذا التشريع لا قيمة له دون سلطة تنفذه؟، فكيف يمكن القضاء على الجريمة دون أن تقوم السلطة بواجبها؟. إن ما أغفله الدكتور معتز أن الاجتهاد والتأليف في أحكام الشريعة من قبل الفقهاء لم يكن منعزلاً عن ممارسات السلطة، فكثير من تلك الأحكام كما رأينا منوطة أساسًا بوجود سلطة. والإسلاميون لم يصوغوا «فقهًا جديدًا» كما يزعم الدكتور معتز مضيفًا أن «الفقه الموروث لم يكن يساعدهم على الفهم الذي أرادوه». كما أن الفقهاء لم يتولوا وحدهم مهمة «تعبيد الناس لله ومد سلطان الشريعة على الناس بالدعوة» كما يقول الدكتور معتز في مقاله، فهذه المقولة تدل على غموض طبيعة الشريعة والتاريخ الإسلامي لدى الخطيب، وقد بينا من خلال أمثلة الأموال والسير والعقوبات كيف أن الفقهاء وحدهم لم يكونوا قادرين على مد سلطان الشريعة فيها، بينما مارست السلطة دورًا أساسيًا في ذلك، حتى لو كانت تنحرف في تطبيقها، ولكن دورها كان أساسيًا وجوهريًا في إقامة الشريعة في هذه المجالات وغيرها.
إن هذه المجالات وحدها (الأموال، السيَر، العقوبات) كافية للإدراك بأن ثمة دورًا شرعيًا دينيًا تتولاه السلطة، ولا يمكن أن يقوم به الأفراد ولا الفقهاء وحدهم. ومن ثم تصبح الإجابة على سؤال الدكتور معتز الخطيب في عنوانه سهلة، فهو يتساءل: «هل الدولة الإسلامية مطلب ديني؟»، نعم هي مطلب ديني واضح؛ فالكثير من أحكام الشرع لا يمكن أن تقام إلا بتولي السلطة والدولة، سواء كانت هذه الدولة دولة حديثة متغوّلة على المجتمع، تُدار بالبيروقراطية، لها حدود قومية، تمارس مهمة التشريع (كما يصفها حلاق بدقة)، أو كانت دولة قبلية يمكنُ للحاكم فيها أن يقضي ويمارس الفقه ويقاتل على رأس الجيش. فهذه الفروق بين طبيعة الدولتين، والتي أتعب وائل حلاق نفسه لإثباتها، لا تؤثر على سؤال العنوان: «هل إقامة الدولة الإسلامية مطلب ديني؟»، ونحن إذا أردنا صياغة ذلك بشكل أدق قلنا: إن إقامة الدولة للدين، كما يُقيم الأفراد دينهم، واجبٌ ديني، لا يشك في ذلك مسلم عاقل؛ فالله سبحانه الذي أمرنا بإقامة الصلاة هو الذي أمرنا بإقامة الدين وألا نتفرق فيه. والذي كتب علينا الصيام كأفراد هو الذي كتب علينا القصاص في القتلى، وهو أمر لا يمكن أن يمارسه الأفراد إلا بوجود سلطة.
ولعلي أختم بتعريف دقيق للدولة الإسلامية للشيخ عبد المجيد الشاذلي رحمه الله، فهو تعريف يخرجنا من متاهات التعقيد والخلافات بين الإسلاميين أنفسهم، وهي المساحة الغائمة التي اعتمد عليها معتز الخطيب في مقاله ليبرر عدم وجود مفهوم واضح للدولة الإسلامية، فنقول إن الدولة الإسلامية هي التي يتوفر فيها كحد أدنى: الاجتماع على الإسلام والانتساب إلى الشرع. فهي تحقق أولاً واجب الاجتماع والولاء الإسلامي الذي تضافرت نصوص القرآن والسنة على وجوبه ومركزيته في الدين، وهو شأن جماعي لا فردي، وتُحقّق ثانيًا الانتساب إلى الشرع من حيث كونها تقبل شرع الله وتقيمه في مجالات نشاطها وسيادتها (في الأموال والدماء والأعراض)، وتنتسب إلى المنظومة التشريعية الإسلامية المتمثلة بأدوات «أصول الفقه»، فتقدمها على ما سواها، ولا تأخذ بالمنظومة التشريعية والقانونية العلمانية المغايرة تمامًا للمنظومة الإسلامية. وإن أي دولة، أيًا كان شكلها، وأيًا كان حجمها وطريقة إدارتها وشعبها ودرجة تقدمها، وأيًا كانت اختياراتها الفقهية؛ لو استوفتْ هذين الشرطين (الاجتماع على الإسلام والانتساب إلى الشرع) كانت دولة إسلامية. ونحن كمسلمين لا نتقيّد بالمصطلحات؛ فلو أسميناها دولة إسلامية أو دولة تنضبط بشرع الله أو دولة تقيم دين الله فالمقصود واحد.
يقول الله عزّ وجلّ في كتابه: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ ۗ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} (الحجّ: 41). وهذه الآية حاسمة في قضية: «هل الدولة الإسلامية مطلب ديني؟»، فالحديث فيها عن «تمكين» يقوم بدور محوري في إقامة الدين، والآية تفيد العموم وغير مختصة بمن نزلت فيهم، فهي سارية في عهدنا هذا وحتى تقوم الساعة، وصيغة «التمكين» المعاصرة هي امتلاك زمام السلطة والسيطرة على مفاصل الدولة، والقاعدة أن «ما لا يتم الواجب به فهو واجب»، وكونها «دولة حديثة» أو تحمل بعض خصائص الحداثة التي تتنافى مع طبيعة الحكم الإسلامي لا ينفي أن التمكين واجب لتعلق واجب إقامة الدين به، وكيف يكون تمكينًا بدون امتلاك زمام الدولة؟! وإذا كان متعذرًا وجود دولة تتخلص من شكل الدولة الحديثة تمامًا وما فيه من مثالب وأمور تخالف الحكم الإسلامي المثالي، فإن القاعدة التي يعرفها الدكتور معتز هي أن «الميسور لا يسقط بالمعسور»، والمسلمون مأمورون بإقامة دينهم في كل حال على قدر الاستطاعة، لا أن يقيموا المثال أو لا يقيموا من دينهم شيئًا!، هذا إذا افترضنا أن شكل «الحكم الإسلامي» التاريخي الذي تحدث عنه حلاق هو شكل نهائي وقالَب مُصْمَت لإقامة الدين في الإسلام، فالأمر بخلاف ذلك.