وادي الجِنّ «عبقر»: بين أحمد شوقي وشفيق معلوف

«وادي الجن» هو أحد أساطير العرب قبل الإسلام، حيث زعموا أن لكل شاعر شيطانا ينفث في روعه ما يبوح به من قصائد وأشعار، وأن هؤلاء الشياطين يقطنون واديا، أطلقوا عليه «عبقر»، ونسبوا إليه كل إنسي يأتي بأمر خارق عجاب، فيقولون: فلان «عبقري».

وقد قام بتوظيف هذه الأسطورة توظيفا أدبيا في عصرنا الحديث شاعران من أكابر الشعراء. أولهما أمير الشعراء أحمد شوقي رائد الجيل الثاني لمدرسة الإحياء، والآخر شاعر المهجر الجنوبي شفيق معلوف، أحد أبرز شعراء العصبة الأندلسية. وقد وظف أحمد شوقي أسطورة وادي عبقر في المنظر الأول من الفصل الرابع بمسرحيته «مجنون ليلى»، حيث وصل قيس إلى هذا الوادي بعد أن هام على وجهه في الصحراء. أما شفيق معلوف، فقد تناوله في قصيدته المطولة المسماة باسم الوادي «عبقر»، حيث يأتي الشاعرَ شيطانُه ليصطحبه إلى هذا الوادي، فيقص علينا ما شاهده بعينيه وسمعه بأذنيه [1].

ولا ريب أن توظيف الشاعرين لهذه الأسطورة العربية القديمة لم يكن غريبا على مذهبهما الشعري، فشوقي أحد أقطاب مدرسة الإحياء التي اعتزت بتراثها العربي، وعملت على توظيفه وإحيائه من خلال المحاكاة الهادفة إلى الوصول إلى حالة رصينة من التجديد. وشفيق معلوف أحد شعراء العصبة الأندلسية التي دعت إلى تجديد الأدب العربي دون تنكر للتراث أو إهمال له.

وسوف تتناول الموازنة بين عملي الشاعرين ثلاثة عناصر تتعلق بوصف الوادي وسكانه وموقفهم من الإنس، حيث تماس الشاعران في كل من هذه العناصر الثلاثة بعض التماس، كما افترقا حد الاختلاف. بيد أن هذه الموازنة لا تسعى إلى إثبات تأثر المتأخر (معلوف) بالمتقدم (شوقي) ولا قصديته محاكاته أو مخالفته؛ وذلك لأننا لسنا على يقين من مطالعته عمل المتقدم.

صورة وادي الجن

جاء وصف الوادي مختلفا بين العملين، فتبعا لكون مسرحية «مجنون ليلى» تستند في سياقها البيئي إلى التاريخ الواقعي، فإن وصف الوادي أتى على الحقيقة لا على التخييل، فقدم شوقي للمنظر قائلا: «حول ديار لبني ثقيف، في قرية من قرى الجن، حيث اجتمعت طائفة منهم للحفاوة بقيس، وهو يهيم على وجهه ضالا في الفلوات…»[2]، ثم وصف الواديَ على لسان الجن وصفا مختصرا يعبر عن جمال الوادي دون بيان حيثيات هذا الجمال:[3]

أما شفيق معلوف، فقد صور الوادي تصويرا سحريا، فمع بيانه جمال الوادي يوضح بعض تفاصيله الساحرة:[4]

فمع بيانه جمال المكان «ما راقَني مِنْ قَبْلِهِ مَوْضِعُ»، فإنه يفصل بعض مفردات ذلك الجمال، فأرض الوادي ليست قطعة من صحراء شبه الجزيرة العربية، وإنما هي قائمة على «غَمائِم زُرْق»، أما المنازل فهي من جدران مشرقة «جُدرانُها تَسْطَعُ».

سكان الوادي بين إفراد النوع وتعدده

فإذا انتقلنا من وصف الوادي إلى وصف سكانه، فإننا نلاحظ مبدئيا اختلافا بين الشاعرين في نوعية هؤلاء السكان، حيث ظل شوقي ملتزما بما وصلنا عن أسطورة «عبقر» من قصر سكناه على شياطين الشعراء دون زيادة. أما معلوف، فلم يقصره على شياطين الشعراء، وإنما جمع داخل هذا الوادي عددا من الأساطير العربية القديمة المتعلقة بالجن والشياطين، فزعيمة الوادي عَرَّافَة، وحكيماه الكاهنان «شق» و«سطيح» أشهر كُهّان الجاهلية، وبالوادي أصناف مختلفة من الجنيات.

وربما كان سبب هذا الاختلاف هو مجيء الأسطورة لدى شوقي بوصفها مشهدا في أحد فصول المسرحية ذات الصبغة التاريخية، وهو ما يعني أنه لم يكن مستحسنا أن يخرج شوقي عن معتقدات العرب التاريخية فيما يتعلق بساكني الوادي، كما أن إضافة عناصر أخرى ربما ضرت بنية المسرحية، بل إن المشهد كله ـ حقيقة ـ ما أسهم في تطور العمل الدرامي في شيء، اللهم إلا إرشاد «الأموي» شيطان «قيس» له إلى اتجاه ديار «ليلى». أما شفيق معلوف، فقد أقام عمله الشعري المطول كله على أساس هذه الأسطورة لتحقيق أهداف معينة، فكان إثراء عمله بعناصر سكانية متنوعة مجموعة من مختلف الأساطير العربية المتعلقة بالجن والشياطين معينا له على الإطالة وتحقيق أهدافه المنشودة.

فإذا أوغلنا السير داخل النصين، ألفينا الشاعرين يتفقان في تقديم وصف طريف ومرعب، ويختلفان في كيفية تقديمه، فشوقي في بداية المنظر يقدم وصفا مهيبا مخيفا لجن الوادي، وذلك من خلال نشيد ينشدونه:[5] (ص 69 ، 70)

فهو يجعلهم جذوة من جهنم، متجبرين متكبرين كما تكبر إبليس أبوهم يوم خلق الله ـ تعالى ـ آدم ـ عليه السلام ـ ثم يضفي عليهم صفات القوة والرعب «نحن الرُّعودُ القاصِفَهْ/نحن الرِّياحُ العاصِفَهْ/ والظُّلُماتُ الزَّاحِفَةْ».

وحينا آخر يمزج شوقي في وصفه الجن بين التخييل الهزلي والجدي، فيقول على لسان قيس:[6]

فمن التصوير الهزلي الكاريكاتيري المضحك، تصوير خيل الجن المسومة في «نعامة» و«أرنب مسرجة» وأخرى «ملجمة»، و«قنفذ وظبية وشيهمه»[7]. ومن التخييل المرعب تشبيه عيونهم بـ«الدخان في الحطب»، وإخراج اللهب من أفواههم وعيونهم «يخرج من أفواهها ومن عيونها اللهب».

أما شفيق معلوف، فيقدم وصفا هزليا تارة، وجديا مخيفا تارات أخرى، فمن وصفه الهزلي قوله فور وقوع عينيه على الوادي من عل:[8]

فأقزام الجن كالنمل، يمتطون مطايا عجيبة من «يرابيع» و«ديوك» و«عظايات»[9]، وأسلحتهم تتناسب وأحجامهم، فرمحهم (مزراقهم) من مخالب القنفذ «نَشَّابَةُ القُنْفُذِ»، وتروسهم من أظهر السلاحف الصلبة «قَحْفُ السُّلْحُفاةِ». وعلى الرغم من قصر مطاياهم وصغرها، فإن أرجلهم ـ بسبب تقزمهم ـ لا تصل إلى الأرض. وبذلك فإن تصويري شوقي ومعلوف الهزليين يتفقان في مراكب الجن، فقد أبدلت الخيل في كلا التصويرين بصغائر الحيوانات وزواحفها.

وعلى جانب آخر، يكثر معلوف من تصوير سكان عبقر من جن وغيرهم تصويرا مخيفا. أول ما يلاقينا فيه تصويره لشيطانه، وهو تصوير يكاد يتطابق أوله مع تصوير شوقي السابق:[10]

فقد اتفقت جن شوقي وشيطان معلوف في خروج اللهب من أفواههم، وزاد شوقي بخروجها من عيونهم كذلك، وزاد معلوف في تطاير شرر اللهب من فم الشيطان يمنة ويسرة. وأما عيون جن شوقي فسوداء مظلمة كالدخان في الحطب «سود دقاق في العيون كالدخان في الحطب»، مع خروج اللهب منها ـ كما سبق أن ذكرنا ـ في حين أن عيون شيطان معلوف ذات محجر غائر مخيف، كأنها «كوة يُطِلُّ منها الزمنُ الغابرُ»، وهو تشبيه غير محدود الدلالات، تدل صفة الغبرة فيه على ماض أليم مخيف يعيد على الإنسان آلامه وأحزانه.

وإذا كان معلوف قد اعتمد في وصف شيطانه على مخزونه المعرفي الإنساني المتراكم من الكتب السماوية، فإنه قد اعتمد على خياله كلية في وصف عَرَّافَة عبقر كبيرة وادي الجن والمتحكمة فيه. وإذا كانت العرافة بهذا المقام، فإنه كان لزاما على الشاعر أن يكثف في كل دقائق شكلها ما يبث الخوف والرعب في النفوس، فيصفها قائلا:[11]

ففي هذه الصورة، قدم لنا معلوف صورة كاملة لعرافة عبقر تتضافر جزئياتها لأداء الدلالة المطلوبة ولِبَثّ الشعور المناسب، فحزامها «ثعبان»، وشعرها «دخان»، ومقلتاها «شرر يلتظي»، فهي بالكامل كأنها قطعة من «سقر جهنم».

موقف سكان الوادي تجاه الإنس

بعد أن تبينت لنا صورة الوادي وسكانه لدى الشاعرين، فإنه يبقى أن ننظر إلى موقف هؤلاء السكان من جنس الإنسان عند سماعهم بقدومه أو فور التقائهم به. وهو الموقف الذي يمثل إحدى الثمرات الكبرى لمنظر وادي عبقر في «مجنون ليلى» ولقصيدة «عبقر» كاملة، حيث يلجأ الشاعران من خلال الموقف العدائي لسكان الوادي من الإنس أن يبوحا برؤيتهما تجاه خطايا البشر وآثامهم بطريقة غير مباشرة، يتجنبان من خلالها الاصطدام المباشر بالمجتمع من حولهم أو بالإنسانية عامة.

فقد أدار شوقي حديثا بين عدد من شياطين الوادي حين علموا من «الأموي» -ـ شيطان قيس – بقدوم الشاعر إلى الوادي. وكان أبرز ما في هذا الحوار اعتراض عدد منهم على مقدمه أو الترحيب به، حيث يرد الشيطان «هبيد» وصاحبه «عضرفوت» وآخرون من جنسهم على «الأموي» و«عاصف» اللذين أثنيا على قيس، فيكون هذا الحوار:[12]

ومن البين أن شوقي يجسد من خلال هذا الحوار تاريخ الصراع بين الإنس والجن، منذ آدم ـ عليه السلام ـ حيث يشير الشياطين إلى الأصل «الحمأ المسنون» الذي خلق منه آدم ـ عليه السلام ـ وهو الأصل الذي بنى عليه إبليس موقفه من آدم. ثم ينتقل شوقي بعد ذلك لموقف الجن من بني آدم عامة، فيقول أحدهم [13]: (ص 72)

وفي هذا الموقف يبرئ الجنُّ أنفسَهم مما يتهمهم به الإنس من آثام وشرور، حيث يرون أن الإنس هم أصل هذه الآثام وأرباب تلك الشرور، حتى صاروا ـ وهم الجن ـ يخشون الإنس من كثرة أذاهم، فاجتنبوهم واعتزلوهم إيثارا للسلامة منهم «وخفنا من أذاهم فاحتجبنا فما عصم الحجاب ولا الخفاء / وكم متعوذ بالله منا تعوذ الأرض منه والسماء».

هكذا أسقط شوقي بعضا من هذا الحوار على الواقع إسقاطا غير مباشر، حيث نحا باللائمة على الإنس فيما يأتون به من آثام وشرور في العالم من خلال عرضه التاريخي الدرامي. ولذلك الهدف نفسه أتى حديث العرافة لـ«معلوف» في «عبقر»، لكن مغزاه الإسقاطي على الواقع يبيبن بصورة أوضح. فحين دخل الشاعر على العرافة، قالت له:[14]

فالشاعر يؤسس من خلال هذا الحديث لرمز، حيث نجد أنه يجعل هذه العرافة ــ على الرغم مما وصفها به من قوة وجبروت وشر وبشاعة منظر ــ عندما تراه تحدثه بوصفه نموذجا للإنسان وما صارت تراه فيه من شرور وآثام تعكس رؤية الشاعر نفسه لواقع الإنسانية، وترفع عنه حرج أن يواجه هو بنفسه الإنسانية برأيه، فأتى الشاعر برأيه على لسان العرافة، وجعل من نفسه نموذجا للإنسانية مرتكبة الآثام، فإذا بالإنسان يَذْعَر ـ من كثرة شروره ـ الجان، ويُخْشَى على الثعبان من سمه المحشور بصدره.

خلاصة

تبين لنا أن كلا الشاعرين شوقي ومعلوف قد وظفا الأسطورة العربية «وادي عبقر»، وأن كليهما اشتركا في وصف ذلك الوادي وتصوير سكانه وبيان موقفهم من بني آدم. بيد أنهما خلال عرضهما هذه العناصر الثلاثة اشتركا في أفكار وسمات واختلفا في مثيلاتهما. فقد أوجز شوقي في وصف الوادي، واكتفى خلال هذا الإيجاز بجعله قطعة من صحراء شبه الجزيرة العربية، في حين أضفى عليه معلوف من سحر التخييل ما أضفاه فيما يتعلق بأرض الوادي وبناياته. وكذلك قصر شوقي الوادي على شياطين الشعراء ملتزما بالأسطورة محافظا على بنيته الدرامية الأساسية، في حين حشد بداخله معلوف كل الأساطير المتعلقة بالجن والشياطين، لكنهما اتفقا في ضم أوصافهما بين سمات الطرافة والتخويف وفي كثير من عناصرهما، وإن كان معلوف قد تجاوز في تخييله ما وصل إليه شوقي، خاصة فيما يتعلق بوصف العرافة. أما موقف سكان الوادي من الإنس، فقد اتحد هدفا الشاعرين فيهما، حيث لجأ الاثنان إلى طرح وجهة نظرهما تجاه أفعال الإنسانية الحمقاء من خلال موقف سكان الوادي من العنصر الإنسي المتمثل في قيس بالمسرحية والشاعر ذاته في القصيدة.

[1] صدرت الطبعة الأولى من مسرحية «مجنون ليلى» عام (1931م) دون أن يطرأ عليها أي تعديل فيما بعد، في حين صدرت الطبعة الأولى من «عبقر» عام (1936م) مكونة من ستة أناشيد، ثم أصدر المؤلف طبعتها الثانية عام (1948م)، وضاعف عدد أناشيدها، فصارت اثني عشر نشيدا. وقد التزَمْتُ في هذا المقال بالطبعة الأولى؛ وذلك لتحقيق دقة الموازنة حين تكون الفترة الزمنية الفاصلة بين العملين قصيرة، ويكون الفارق الكمي بينهما قليلا. أما توثيق مسرحية «مجنون ليلى»، فقد اعتمدت فيه على طبعة مكتبة مصر الصادرة عام (1989م).[2] مجنون ليلى 69 .[3] السابق. الصفحة نفسها.[4] عبقر 33 [5] مجنون ليلى 69 ، 70 .[6] مجنون ليلى 75 ، 76 .[7] الشهيمة: حيوان من القوارض من فصيلة القنافذ.[8] عبقر 37 ، 38 .[9] العظايات: هي دويبة من الزواحف ذوات الأربع، تعرف في مصر بـ«لسحلية» وفي سواحل الشام بـ«السَّقَّاية».[10] عبقر 30 .[11] عبقر 41 ، 42 .[12] مجنون ليلى 72 .[13] السابق. الصفحة نفسها.[14] عبقر 45 ، 46 .