فيلم «ڤوي! ڤوي! ڤوي!»: موت المؤلف وولادة القارئ
هذا المقال يحتوي على حرق لأحداث الفيلم
في أحد أشهر النصوص عن النصوص نفسها «موت المؤلف» لرولان بارت يسعى المؤلف لتحرير النص الأدبي من سلطة كاتبه، أن يصبح ملكًا للقارئ لحظة نشره، أن تتعدد قراءاته مما يحوله من نص مغلق إلى نص مفتوح.
يتحدث بارت بشكل رئيسي عن الأدب والكتابة، لكن المقال الأيقوني يتم تطبيقه على كل أنواع الفنون، فيصبح الفيلم السينمائي نصًّا والمقطوعة الموسيقية نصًّا، كتب بارت نصه عام 1967 في وقت تغير أدبي وسينمائي، وقت ازدهرت به ثقافة الشهرة والظهور التلفزيوني والحديث عن الأعمال الفنية، لكننا نعيش الآن في وقت نعلم ما الذي يفكر فيه المؤلف لحظة كتابته لنصه، والمخرج لحظة تصويره لفيلمه، لا إرجاء في التفسير ولا مساحة حقيقية للاشتباك مع الأعمال بعيدًا عن سطوة القائمين عليها، فهل يصلح استخدام نظريات مثل موت المؤلف أو فصله عن العمل في وقتنا الحالي؟
يعرض في دور العرض المصرية حاليًّا فيلم فوي فوي فوي، هو الفيلم الأول لمخرجه ومؤلفه عمر هلال، من بطولة محمد فراج ونيللي كريم وطه دسوقي وبيومي فؤاد ومجموعة متنوعة من الأدوار المساعدة. لم يلقَ الفيلم تسويقًا إعلاميًّا مكثفًا لكنه انتشر بين جمهور السينما بالتناقل الشفهي. منتج الفيلم الرئيسي هي شركة فيلم كلينك التي يترأسها محمد حفظي، وهو أقرب ما تملكه السينما المصرية من إنتاج بديل حاليًّا، ليس مستقلًّا بالمعنى التقليدي لكن يتوقع من إنتاجاته أن تكون بعيدة عن السينما السائدة، خاصة تلك التي تعتمد تركيبات formula معدة مسبقًا للكسب السريع، لاقى الفيلم ردود أفعال إيجابية من رواده ونقاده، وإشادة بكونه نسمة هواء منعشة وسط صناعة راكدة، فهو فيلم يصعب تصنيفه نوعيًّا يقع بين الكوميديا والدراما الاجتماعية وأفلام الاحتيال والسطو.
بعد أيام من عرض الفيلم انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي مقاطع مصورة من مؤتمر صحفي أقيم يوم افتتاح الفيلم في عرضه الخاص، ظهر في المشهد رد المخرج عمر هلال والممثل محمد فراج على سؤال اقتطع من الفيديو، استاء الكثيرون من حدة لهجة مخرج العمل ونجمه مع الجمهور والصحفيين، لكن المثير للاهتمام أن المخرج طرح وجهة نظره في نهاية الفيلم بشكل قاطع، شارحًا إياها وكأنها التفسير الوحيد والحقيقي لأن هذا هو قصده الرئيسي، فهل من الممكن قراءة الفيلم بطريقة مغايرة، وفصله عن آراء مؤلفه بينما يتشابك الاثنان أمامنا؟
الأبطال هم الأشرار
يسرد فيلم فوي فوي فوي قصة تضم عدة شخصيات من خلفيات اجتماعية متقاربة، يجمعهم هدف واحد وهو الهجرة خارج مصر.
تقع الأحداث في ذروة غليان شعبي كبير في العام 2013، يعمل ذلك التوقيت كدلالة مزدوجة المعنى فهي فترة من اليأس المجتمعي كما أنه عام يمكن الفيلم من الانزلاق من تحت أيدي الرقابة الحالية، يتعامل الفيلم مع أفراد من الطبقة التي تمثل الغالبية العظمى من سكان مصر، ويصنع تمثيلات يمكن وصفها بالواقعية خاصة للشباب في سن يتخطى الثلاثين دون وجهة محددة أو خطة مستقبلية نظرًا لصعوبة إيجاد عمل يوفر دخلًا يصلح للترقي الطبقي أو حتى الاستقرار في الطبقة نفسها، كما يصعب مع ذلك الاستقرار العاطفي بالزواج لأن ذلك يتطلب إمكانيات مادية تكاد تكون مستحيلة في الوضع الذي تختبره تلك الشخصيات.
يراقب الفيلم الشخصيات ويتورط معها، هم الأبطال وهم الأفراد الذي يسهل التعاطف مع طموحاتهم وحتى مع جرائمهم، يحدث ذلك عن طريق وضع تلك الجرائم وعمليات النصب صغيرها وكبيرها في إطار كوميدي أسلوبي بمونتاج متسارع وروح خفيفة وممتعة تجعل هؤلاء الأبطال مهما أخطئوا عرضة للتعاطف بسبب دهائهم وخفة ظلهم، مثل أفلام السطو الشهيرة أو الأفلام التي تدور حول نصابين محترفين، لكن المثير في فوي فوي فوي أن تلك الأفلام في العالم الهوليوودي تقع في إطار مرتفع طبقيًّا وطموحات ضخمة تجعل من أبطالها أثرياء مثل سلاسل ocean’s على سبيل المثال، لكن في حالة الفيلم فإن الأبطال هم مجموعة من الصعاليك، يمضون أوقاتهم في لعب الكرة والتسكع في شوارع مصر القديمة، ومحاولة رتق علاقات في طور النهاية، أو السعي وراء وظائف ذات نهايات مسدودة، لذلك فإن تحقيقهم لأحلامهم التي تتمثل وتتوقف عند الهرب من بلد لا يُرى به الأفق هو منتهى الرحلة والهدف، ليس ما سوف يحدث بعد ذلك ولا كيفية الحياة على الجانب الآخر.
القراءات المتعددة للنص نفسه
يستطرد بارت في مقاله عن كون مفهوم المؤلف هو مفهوم حداثي وأن الأساطير والحكايات الشعبية لم تمتلك مؤلفًا قط، لم تكن تلك الفكرة حاضرة في العوالم القديمة، لكن مع ربط النصوص بأشخاص معينين أصبح من المحتم على القارئ مقارنة النص بكاتبه أو استكشاف المعنى الواحد الحاسم عن طريق الكاتب نفسه، فإذا كان هذا النص صادرًا من شخص فإن على هذا الشخص تفسيره، لكنه في الوقت نفسه ينفي حتمية ذلك المنهج لصالح تحرر أكبر من التفسيرات النهائية وميل نحو اعتبار الكتابة والإبداع بشكل عام مجموعة من التأثيرات والاقتباسات من الكتابات الأخرى بشكل لا نهائي، مما يعطي النص سيولة تمكن القارئ من إدراج نفسه كجزء من عملية التحليل والتفسير بغض النظر عن نية الكاتب الأصلية.
تتصاعد الأحداث في فيلم فوي فوي فوي بداية من قراءة حسن (محمد فراج) خبرًا عن فريق مصري من المكفوفين مرشح للصعود واللعب في كأس العالم في بولندا، لتنير عقله فكرة أن يحتال على مدرب فريق المكفوفين الجديد (بيومي فؤاد) ويتظاهر بأنه كفيف، حتى يشاركه وأصدقاءه ويشاركه المدرب نفسه في الحيلة ويظهر أن طبيب الفريق متورط كذلك، تتعقد الحبكة مرات بعد مرات، لكن يخرج الفريق المحتال من التعقيدات عن طريق خلق المزيد من التعقيدات والجرائم، حتى ينجحوا فعلًا في الهروب إلى أوروبا، وكلٌّ يذهب في طريقه جريًا في غابة مشجرة في منظر لا يرى تقريبًا على الأراضي المصرية، مما يضفي رومانسية على حدث يمكن أن يكون تراجيديًّا بسهولة.
من هنا يمكن تعديد القراءات، فالخلاف الرئيسي الواقع في المؤتمر الصحفي للفيلم يدور حول إذا ما كانت نهاية الفيلم سعيدة أم حزينة، وهل تعد «تشجيعًا» على الهروب خارج البلاد بطرق غير مشروعة، ليأتي الرد من مخرج الفيلم وكاتبه أنها بالقطع ليست نهاية سعيدة، وما هو السعيد في أن يعمل أحدهم في غسل الصحون أو في تمثيل الأفلام الإباحية أو لعب الطبلة في ملهى ليلي، يرى الصحفي السائل أن رسالة الفيلم هي تشجيع هذا النوع من التصرفات، بينما يرى عمر هلال أن الرسالة هي «أن العشب ليس أكثر اخضرارًا على الجانب الآخر»، هنا تقع الجدلية الرئيسية وهي افتراض وجود رسالة حاسمة وحقيقية ومعنى واحد للفيلم.
سلطة القارئ والكاتب
في المؤتمر الصحفي نفسه، يتحدث المخرج عمر هلال عن تجربته الشخصية بالعمل في إيطاليا، وطبيعة الأعمال التي يتولاها العرب والأفارقة هناك، والمعاملة الفوقية والعنصرية التي يتعرضون لها، وهو ما لا شك في حقيقته، لكن في إطار الأعمال الخيالية يمكن لنهاية فيلم مثل فوي فوي فوي أن تُقرأ على العديد من المستويات، فنهاية البطل الرئيسي الذي يتصدر الملصقات والتي يستنكرها الممثل القائم بها والمخرج باعتبار أنه عمل في وظيفة مهينة، هي نهاية متعددة الأوجه يمكن تفسيرها باعتبارها نجاحًا فهو أكمل دائرة مغلقة من رحلته في بداية الفيلم، من إغراء سيدات كبيرات السن للحصول على فرصة للسفر حتى التكسب من وراء تلك المهارة في بلد أوروبي يمكن له الترقي به، أو لا، الاحتمالات مفتوحة على مصراعيها، نحن رأينا بدايتها فقط، كما أن نهاية مثل تلك تضم تراجيديا ممتزجة بكوميديا، وهو ما يتسق مع أسلوب الفيلم بالكامل، بجانب كونها تتضمن نقدًا اجتماعيًّا ومؤسسيًّا لأوضاع اللاجئين خارج البلاد وأوضاعهم في بلادهم الأصلية.
يكمل هلال في رده أنه أراد أن يظهر فريقًا فائزًا مصريًّا من المكفوفين الحقيقيين لكي يخبرنا أن ليس كل المصريين مخادعين، وأن هناك مصريين صادقين، وهو على الرغم من حسن نيته ليست قراءته القراءة الوحيدة كذلك، فهؤلاء «النصابون» أصبحوا كذلك بسبب تراكم ضخم من الظروف والعوار المؤسسي واستهلكوا كل الطرق التي تؤدي إلى الترقي بشكل مشروع وصادق، فوجودهم في نفسه هو مرآة لوجود غيرهم، كما أن مشاهدة الفيلم دون وجود تلك الرسائل مفسرة تفصيليًّا بعده هي عملية مختلفة تمامًا، لأن الفيلم نفسه كنص مستقل لا يحكم على هؤلاء المحتالين بل يتفهمهم ويستوعبهم لا يشجع أو يدين أخطاءهم، بل يراقبهم ويأخذنا في رحلتهم دون أحكام مسبقة، لذلك حينما نصل إلى مشهد النهاية لا يفسد الفيلم ذلك بإضفاء درس واضح ومستفاد من تجربتهم، بل يضع نهاية متناسقة مع أهدافهم وطبائع شخصياتهم وتوقعاتنا عنهم.
فيلم فوي فوي فوي هو واحد من الأفلام المصرية القليلة في السنوات الفائتة الذي يمثل شخصيات معيشة بالكامل، ويستخدم الوسيط الفيلمي لتوثيق مناطق يمكن ألا نراها مجددًا، كما أنه لا يعمل في اتجاه بروباجندا محددة أو رسالة مسبقة، لذلك فإنه يمكن الاستمتاع به بطرائق عدة، سواء حسب نية صناعه أو حسب قراءة المتلقي الخاصة به، أو كما يقول بارت في نهاية مقاله فإن ثمن ولادة القارئ هي الموت المجازي للمؤلف.