تاريخ بصري للبُراق: دابة النبي من التجريد إلى الأنوثة
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
على الرغم من أن القرآن قد أتى على ذكرها في عجالة، فإن قصة الرحلة الليلية للنبي محمد إلى السماء على ظهر حصان مجنح يدعى البراق، لطالما استحوذت على خيال الفنانين. في هذه المقالة تظهر ياسمين سيل التمثلات العديدة لهذا الجواد الملغز، من النصوص المقدسة المبكرة إلى دلهي المعاصرة، وتستكشف ما قد يخبرنا به هذا الكائن عن طبيعة الإيمان.
أتيت لأنه قيل لك، ولأنه هنا -كما هو معروف- تحدث الأشياء الرائعة ليلًا. تجتاز الشوارع، ومزيج الروائح غير المألوفة -الدواجن، والشمام، ونبتة القطيفة- إلى أن تبلغ جدار قصر «جهاز محل» الذي كان أحمر يومًا. في المكان نوع محزن من الفخامة، لكنك لست هنا لجمال الأطلال. أنت هنا من أجل الـ«هاوز»، الحوض، مياهه الأسطورية الملوثة الآن بالطحالب والمخلفات. في يدك كتيب، لونه بصفرة الزعفران، ملطخ بالطلاسم الهندية، مع رقم هاتف وتعليمات: أن تنادي بين الساعة 6 و8 مساءً، أن تتحدث بوضوح وعلو، أن تقول مرحبًا.
تقول مرحبًا، ولوهلة تدب الحياة في الحصان، وينعكس هيكله الوهاج على الماء. يزداد الحشد حول الحوض. يغني الأطفال في أجهزة الاستقبال: تغدو «مرحبًا» كلمة من عشرة مقاطع. سرعان ما ينشغل الخط بسبب تنافس المتصلين على انتباه المخلوق المتقطع. ليست بالمعجزة التي تصورتها بالضبط، إذ جرى جمع تلك الـ«كايميرا» الكسيحة -جزء منها بينياتا مضيئة، وجزء منها مهر سيرك، مع أجنحة- عند الحداد المحلي وأضيئت بمصابيح ليد صينية الصنع. ومع ذلك، فإنه أمر عجيب: فرسة مجنحة مستقرة على سطح بحيرة، تتوهج بفعل أصوات بشرية.
كان «قل مرحبًا للهاوز» (2010) محاولة من المصمم والمخرج «فيشال راولي» لإحياء خزان المياه المهمل منذ فترة طويلة في ميهراولي، إحدى المدن السبع القديمة التي تشكل ولاية دلهي. اعتمادًا على قصة صعود النبي محمد إلى السماء على ظهر حصان مجنح يدعى البراق، صمم رولي تمثالًا للمخلوق، وزوده بخط هاتف ومجموعة أضواء، وتركه يطفو في منتصف الخزان. يمكن للناس الاتصال والتحدث؛ وأصواتهم ستزيح الستار عن عرض الأوهام (phantasmagoria). في اللقطات الليلية التي تم حفظها على الإنترنت، يومض هيكل البراق بالتزامن مع الأصوات المبهمة غير المرئية. تمت ترجمة العبارات اللاهثة، وكان الفضول واضحًا. لكن ما قد يبدو للغريب مثل هبوط كائن فضائي كان بالفعل بوابة لماضٍ أسطوري: كان للحصان تاريخ هنا.
بني الهاوز في القرن الثالث عشر، بعد أن حلم «شمس الدين إلتتمش» -أحد سلاطين مماليك الهند المبكرين بدلهي- بأن النبي محمد زاره ممتطيًا جواده المجنح. في هذا الحلم، وجه النبي الملك إلى ينبوع ماء يتفجر من حيث ضربت البراق بحافرها الأرض. وعند الاستيقاظ، حسبما تقول القصة، أسرع إلتتمش إلى تلك البقعة، حيث اكتشف علامة حافر محفورة في الأرض. كانت الأحلام جزءًا مهمًّا من عدة الحكم في العصور الوسطى. إذ يمكن للرؤى الميمونة أن تثبت العرش المتزعزع. علاوة على ذلك، ثمة حديث ذائع ينص على أن رؤية النبي في المنام تساوي رؤيته في الحقيقة. إن الحلم بالنبي -بعبارة أخرى: الشهود المباشر لأقواله وأفعاله، التي تشكل معًا أساس الشريعة الإسلامية- يضعك في وضع متميز للغاية بحق. أبدى إلتتمش امتنانه لهذا الشرف بالشكر المستحق: أقام حوض مياه، الهاوز الشمسي، للاحتفال بالمكان المقدس. وظل الحوض لقرون مكانًا للعبادة المحلية. نُسبت الخصائص السحرية إلى مياهه، ووصف الرحالة العظيم ابن بطوطة في القرن الرابع عشر كيف تنقل القوارب الصغيرة الحجاج إلى قبة من الحجر الرملي الأحمر في مركزه.
إن قصة الخزان وتلك الهالة المنتمية إلى العالم الآخر صدى لأسطورة أصل أخرى: قصة هيبوكرين، أو نافورة الحصان، التي انبثقت من أثر حافر بيغاسوس، وتذكر في الأساطير اليونانية كمنبع للإلهام الشعري. على عكس بيغاسوس، الذي خرج مكتملًا من دم ميدوسا، نما مفهوم البراق بشكل تدريجي، وكان تطوره أكثر غرابة والتواءً. إنها تظهر على المنمنمات الفارسية والشاحنات الباكستانية، والموسميات الزنجبارية والطائرات الليبية واللوحات الزجاجية السنغالية وعلب الثقاب الهندية. لكن على الرغم من تجسداتها العديدة، أو ربما بسببها، يظل جوهرها عصيًّا على المنال. لا يوجد براق أصلي، ولا نهائي، بل بالأحرى طرس (palimpsest) عصي من خليط عقائد، وفنون قديمة، ونزوات فنية مجردة.
ترجع لفظة البراق إلى الجذر العربي ب-ر-ق، ويعني تألق أو لمع، ويستحضر اسمها سرعة البرق التي حملت بها النبي من مكة إلى القدس ومن هناك إلى السماء، وهي واقعة تعرف باسم المعراج، أو «الصعود». يلمح القرآن إلى هذه الرحلة -في آيتين مبهمتين تستفتحان سورة كاملة («الإسراء»)- لكن دون ذكر للمركبة. نظرًا إلى غياب البراق في النص المقدس، لم يولها اللاهوتيون اهتمامًا كبيرًا، وحصروها في أدوار شرفية خاصة بالطيران ليلًا: ظهرت لأول مرة في القرن الثامن، في أولى السير النبوية، على أنها «دابة مجنحة»، «بيضاء، دون البغل وفوق الحمار». ليست البراق مخلوقًا نابعًا من النص المقدس بل من المعتقدات التقليدية، وقد كانت في هذه الكتابات المبكرة ما تزال شيئًا غامضًا غير مكتمل، ذا هيئة غير معلومة على وجه اليقين، ناهيك عن جنسه. وستستغرق البراق قرونًا كي تكتسب وجهًا بشريًّا: فقد مر نحو خمسمائة عام قبل أن يكتب المؤرخ الثعلبي أن البراق «خده كخد الإنسان»، وهو تشبيه أطلق العنان لتحولاتها (metamorphosis) التي لم/لن تكتمل.
ازدهرت الأدبيات التي تدور حول معراج النبي محمد إلى درجة هائلة، لكن ذلك لم يحدث إلا بعد تحررها من المحيط النصوصي وانزلاقها في بحار الشعر والفولكلور. حوت كل سيرة نبوية فصلًا خاصًّا بهذا الموضوع، وقد تفكر العلماء والمتصوفة في معناه إلى ما لا نهاية. انتشرت القصة وأعيد تأويلها بين الثقافات الإسلامية الفرعية، وكذلك بين خصومه: هناك نسخ باللغة الماليزية والأوزبكية والفرنسية القديمة، بالبوقسية والقشتالية، ونسخة مضيئة بشكل لافت في الجغتائية، وهي من أشكال التركية الوسطى (الكراخانية) التي سميت تيمنًا باسم ثاني أبناء جنكيز خان. لم تستقر القصة قط على شكل نهائي، حالها كحال البراق نفسها. كانت تتغير مع كل حكي. في بعض الروايات، لا يقف الثنائي عند القدس بل يخوضون في السماوات السبع حيث يأتي النبي في ذروة رحلتهما وجهًا لوجه مع الله. هناك قد يقابل الديك السماوي، أو ملاكًا متعدد الرءوس، وأحيانًا يزور والدته ووالده في النار. في حالات أخرى، يصعد النبي إلى السماء على سلم لامع، بعد أن يربط البراق بجدار عند سفح جبل الهيكل. (حتى يومنا هذا يُعرف المكان باسم حائط البراق عند المسلمين والجدار الغربي أو حائط المبكى عند اليهود).
لم تولد البراق امرأة، بل أصبحت واحدة، لكن توقيت ذلك غير معروف بالتحديد. في وقت ما أعطتها عبقرية مجهولة الهوية عرفًا براقًا وحنجرة مرصعة بالجواهر، ومن بعدها لم ينظر الفنانون إلى الوراء قط. في مظاهرها المتعددة، الكلاسيكية والحديثة، تصور البراق كأنثى صريحة، مزينة مرة بذيل طاوس، ومرة بمعطف من جلد النمر، مع تاج مرصع بالأحجار الكريمة وأجنحة ملونة زاهية على الدوام تقريبًا. لقد غدت البراق عنصرًا أساسيًّا في الفن البصري الإسلامي، واستولت على الخيال الجمعي، حتى بلغ تأثيرها الكُتاب أيضًا. بحلول القرن السادس عشر، كتب المؤرخ الفارسي «خواند مير» أن البراق لديها:
لا تعرف اللغة الفارسية المذكر والمؤنث، ما يجبر الكتاب -مثل «خواند مير»- على مواصلة وصف البراق بعبارات محايدة، حتى مع اكتسابها اللمعان والتألق الأنثوي. قد لا يكون من قبيل المصادفة أن نجد البراق هي الأكثر جمالًا في أعمال فناني المنمنمات الفارسيين، كما لو كانوا يعبرون بشكل مفرط عن أنوثة لن تسمح لهم لغتهم بالتعبير عنها؛ كما لو كان الانضباط الجنسي («الرمادية») المفروضة من قبل وسيط معين أتاحت فرصة لجماليات التطرف الجنسي في وسيط آخر.
إذا كانت هيئة البراق المبكرة، تذكرنا ببيغاسوس، الحصان المجنح عديم الهوية الجنسية من العصور الكلاسيكية القديمة، فإن زخرفها الجديد جعلها أقرب إلى تلكما الهجينتين المؤنثتين الأخريين: أبي الهول وكايميرا. لخص غوستاف فلوبير جاذبية هذه المخلوقات المركبة، والأنثوية بشكل واضح في الوقت نفسه، متسائلًا: «من لم يجد الكايميرا ساحرة؛ من لم يحب وجه الأسد ذلك، وأجنحة النسر التي تضرب الريح، وعجيزتها اللامعة الخضراء؟» ومع اكتساب تلك الجاذبية، اكتسبت البراق أيضًا غموضًا مقلقًا. فبعد كل شيء، وعلى عكس تلك الكائنات الأسطورية الأخرى، تظل البراق كائنًا «تعبديًّا»، هي من الناحية اللاهوتية أقرب إلى ملائكة الطبقة الأولى منها إلى حيوان مفترس متعدد الرءوس. إنها، وجوديًّا، لا تنفصل عن محمد -فهي موجودة فقط لحمله في رحلته- ما يجعل مظهرها المؤنث أكثر ترويعًا. من الناحية البصرية كانا يتطوران في اتجاهين معاكسين: كلما اكتسبت البراق زخرفة باروكية، بدا أن شخصية محمد تتراجع إلى مزيد من الرمزية. ومع تصدر جسدها في المشاهد، أخذ جسده يتعرى من الزينة ويزداد تجردًا.
هذه قصة مليئة بالأجساد، وهو أمر محرج. يعكس الاحتكاك بين النبي التاريخي ومطيته الخيالية، بين المقدس والمادي، انقسامًا مشابهًا داخل البراق نفسها: لقد اعتبرت حصان أحلام -أسطوري، لا جنساني، رمزي- ومخلوق من لحم. والبراق كحيوان، لا سيما في تجسده ذي الطابع الجنساني، يثير بدوره أسئلة شائكة حول جسد النبي نفسه. تخطى الفنانون هذه المشكلة بشكل عام، أو قل راوغوها بإبداع؛ تميل الرسوم المبكرة للنبي إلى إظهاره بحجاب، ورُمز جسده مؤخرًا بسحابة بيضاء أو وردة أو لهب.
هل عرج بجسد النبي إلى السماء أم روحه فقط؟ بالنسبة إلى جميع أولئك الذين تناولوا معنى الرحلة الليلية، شكل هذا سؤالًا مركزيًّا. كان أحد الحلول تجنب مشكلة الأجسام تمامًا. رأى ابن سينا الفارسي المتفنن أن المعراج كانت رحلة فكرية داخلية بحتة. في الواقع، لم يكن ابن سينا مهتمًا بصعود النبي محمد بقدر اهتمامه بالترقي المحتمل لأي شخص منخرط في التفكير المجرد، إذ استخدم القصة كسردية شعبية لإقناع مجتمع قليل الاطلاع إلى حد كبير بالسعي في تحصيل الفلسفة. بالنسبة إلى ابن سينا، كانت قصة الصعود وسيلة مفيدة لتبديد المخاوف بشأن التقاليد الفكرية الأجنبية: من خلال تقديم هذه الأسئلة بعبارات مألوفة لجمهوره المسلم -وعن طريق إعادة صياغة صعود النبي كرحلة روحية يجب على المرء محاكاتها- بيَّن ابن سينا أن دراسة الفلسفة لم تكن متوافقة مع التعاليم الإسلامية التقليدية فحسب، بل نشاط محوري للمؤمن الورع.
يبدو هذا في غاية الجودة والعقلانية، لكن إذا محيت الأجساد من القصة -إذا كانت الرحلة الليلية مجرد رحلة ذهنية، حالمة ساكنة- فما التصرف الواجب حيال البراق، التي هي ذات لون محض وهيئة محضة، التي لا ترمز إلى شيء خلف وجودها الطاغي؟ لم يجب ابن سينا. أنكرت الطبيعة المادية لرحلة النبي في سطر واحد («من المعروف أنه لم يذهب بجسده، لأن الجسد عاجز عن اجتياز مسافة طويلة في لحظة واحدة»)، لكن ليس من السهولة التفكير في الخيول المجنحة بتلك المثالية. البراق شيء مادي لا محالة. لقد نُزع عن النبي ذلك التجريد، حين امتطى ظهرها، وصار عالقًا ومشتبكًا مع جسم الدابة مثل ليدا وذكر البجعة في قصيدة ييتس: «وكيف يمكن للجسد، الذي وُضع في قلب ذلك الصخب الأبيض، ألا يشعر بالقلب الغريب ينبض حيث يكمن».
أحس الآخرون بذلك أيضًا. كان الشاعر العثماني «فياسي» مهووسًا بالطابع المادي للرحلة الليلية التي اعتبرها الحدث الأبرز في سيرة محمد. بناء على ذلك؛ جاءت مساهمته في هذا النوع الأدبي بعنوان «حياة الشخص الذي عرج». يتخذ عمل فايسي الأكثر شهرة، هاب نامه، أو كتاب الأحلام، شكل محادثة أحلام بين السلطان أحمد الأول والإسكندر الأكبر، ليدل على إيمان بالاتصال الجوهري بين عالم الأحلام والحياة الواقعية. اتصال مماثل يسود رواية فايسي عن الرحلة الليلية، التي تؤكد الطبيعة المادية للمعراج وللعالم المتسامي الذي سافر إليه النبي. يقع في المركز من دعواه وصف مفصل للبراق وسدرة المنتهى، التي تحدد حافة السماء والحد الذي لا يمكن لشيء تجاوزه. للشجرة عدد لا نهائي من الفروع، لكل منها عدد لا نهائي من الأوراق، وعلى كل ورقة يجلس ملاك ضخم بقضيب من نور. يدعوها نص صوفي «شجرة لا توصف»، نمت من «محيط من المسك لا يمكن تصوره». ما هي أنواع الأشياء التي يتم تقديمها بتفاصيل رائعة ولكنها تظل «بلا وصف»، والتي يتم استحضارها بشكل حسي ولا تزال «لا يمكن تصورها»؟ ربما يكون الدليل على طبيعة البراق يكمن في هذه المفارقة.
ليس ثمة غرابة في عدم إمكانية التوفيق بين وجهتي نظر ابن سينا وفايسي، حول إمكانية اعتبار البراق تجريدًا خالصًا وجسدًا خالصًا؛ فإثارة الفرقة أمر من طبيعتها. أحدثت قصة المعراج في صورتها الأولى نوعًا من التشيع: اعتبر أولئك الذين صدقوا عروج محمد مصدقين برسالته النبوية، في حين اعتبر الذين جحدوها كافرين بالإسلام نفسه. أعيد إحياء مشكلة الإيمان هذه مؤخرًا في مناظرة مؤرشفة على يوتيوب بعنوان «ريتشارد دوكينز مقابل حصان محمد البراق». دعا اتحاد أكسفورد دوكينز، عالم الأحياء التطوري، إلى تشارك المنصة مع الصحفي مهدي حسن، كنوع من تمثلات العلم ضد الدين المثيرة للجدل. في وقت ما في الفيديو، يهتف دوكينز مرتين في عدم تصديق: «أتؤمن بأن محمدًا طار إلى السماء على حصان مجنح!» أطلق الحشد صيحات تهكمية، اهتز حسن، وبلغت المناظرة طريقًا مسدودًا. إن مجرد ذكر البراق -بغرائبيتها ولا معقوليتها الصارخة- كان على ما يبدو كافيًا لإنهاء النقاش، وإظهار حسن «المؤمن» في صورة الرجعي، أو الساذج، أو المخادع.
كانت مشاهدة المناظرة تجربة غير مريحة. إذ بدا من الغريب انتقاء الرحلة الليلية -مكنى عنها بالبراق- من بين جميع المعتقدات الدينية كي تلقى معاملة خاصة على هذه الشاكلة. يبدو أن البراق، طبقًا لاسمها، قد غدت نقطة جذب في الحملة الصليبية الإلحادية، أي غدت موضع تندر من لا منطقية الإسلام والدين بشكل عام. ومع ذلك، إلا أنه بطرح السؤال من منظور «الإيمان» حصرًا، يكون كل من المتحدثين قد تجاهل الطرق العديدة التي قد يتفاعل بها المؤمنون وغير المؤمنين مع موضوع مثل البراق (بالمعنى الحرفي للموضوع، أي «شيء معروض للعقل»)، ليس فقط كمادة للإيمان بل ككناية أو أسطورة أو مفارقة أو رمز أو مجاز بصري.
البراق نتاج زواج مختلط. عثر عليه لأول مرة في القرن التاسع عشر قبل الميلاد، كان الآشوريون هم من التقطوا فكرة الخيول المجنحة، لتشق بعدها الطريق عبر اليونان وآسيا الصغرى، وتصل في نهاية المطاف إلى كل مكان في أوراسيا: الإتروسكان، والفرس، والكلت، والفنلنديون، والكوريون، والبنغاليون، والتتار، كل منهم يتباهى بنسخة من الأسطورة. غالبًا ما تكون هذه الخيول قادرة على السفر بسرعة خارقة؛ في بعض الأحيان يكون لديها رأس إنسان؛ ويمكن أيضًا ربطها بالعواصف والبرق. هكذا يتضح أن البراق، بعيدًا عن كونها استثناءً ثقافيًّا مستهجنًا شجبه دوكينز، هي في الواقع نسخة من إحدى أقدم الأساطير وأكثرها انتشارًا في تاريخنا، وجسدها المتلألئ وعاء للعديد من الأساطير والاستعارات والمخاوف الأخلاقية التي ورثها الإسلام.
كان العالم مزيجًا من العناصر الحقيقية والأسطورية حتى وقت -إلى حد ما- قريب؛ لا يمكن وضع حد واضح قبل ظهور علم الأحياء المقارن الحديث. مع ذلك، لم يلغ العلم المنطقة البينية التي تسكنها شخصية مثل البراق: نحن بحاجة إلى مثل هذه العناصر الحدية لربط عوالم تبدو متباينة من الخبرة التجريبية والروحية. يشكل وجودها في الثقافة المعاصرة جسرًا بين المعرفة والمعتقد، بين التصنيف العقلاني للعالم والقوة الأسطورية للأسطورة. تجد هذه الفكرة تمظهراتها الأقوى والأكثر حرفية في صناعة النقل الإسلامية، حيث تتكرر شخصية البراق، التي تجمع على نحو نافع بين التقوى والسرعة، كنوع من القديس الشفيع. لقد منحت اسمها لشركات الطيران من ليبيا إلى إندونيسيا، لشركات الحافلات، لسفن الشحن ولدراجات الأجرة النارية، لمعسكر الفضاء، لكلية الهندسة، ولأول طائرة بدون طيار في باكستان. ربما يفسر انسياب البراق كعنصر جمالي ولغوي مرونتها في الاستخدام التجاري: فهي لا تترأس الأجنحة والعجلات فحسب، بل تستخدم أيضًا لبيع البلاستيك وبوليفينيل الكلوريد والمعادن الثقيلة وزيت الديزل والطعام الهندي والأدوات الجراحية.
كلما درستها أكثر، وكلما تعمقت في البحث، أصبحت هوية البراق أكثر صعوبة. في مقالها الألمعي «الكايميرا ذاتها»، تحلل جينيفرا بومبياني الآثار الرمزية لهذه المخلوقات المركبة. تجسد الكايميرا ذات الرءوس المتعددة الاتحاد الاعتباطي لتجارب لا تعد ولا تحصى، فهي توليفة من أشياء متباينة. «فتلك التي كانت، في الأساطير، مجرد ظهور عنيف، بغير صوت أو تاريخ، قد غدت، في الأيام الأولى للفلسفة الحديثة، الموجود العقلي (ens rationis)، مخلوق اللغة، مجاز المجاز». بصفتها هجينة، تقوم البراق بما يقوم به المجاز: تجعل المستحيل مرئيًّا. إن جملة «أخيل أسد» خاطئة من المنظور الحرفي؛ لا يمكنك فهمها، لكن ها هي على الصفحة. في جملة «أ هو ب»، تلعب البراق نفس دور العماد/الرابطة (copula) «هو»، مستهزئة بصفاقة من قانون عدم التناقض، مازجة ما لا ينبغي مزجه. تقول بومبياني: «بما أنها غير موجودة، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو: ما هي الكايميرا». وهو ما يعتمد، كما قد يقول البعض، على ما تعنيه كلمة «هي/هو».