الرئيس السيسي في الخرطوم: ما الجديد؟
تغيرت التوازنات في القرن الأفريقي (الكبير) منذ اتفاقية الصلح الأخيرة ما بين إريتريا و إثيوبيا، وهي الاتفاقية التي تمت برعاية سعودية إماراتية مهددة مصالح كثير من الدول التي كانت تستفيد من الصراع اقتصاديًا أو جيو-ستراتيجيًا.
ربما تكون جيبوتي هي الخاسر الأكبر من هذا الاتفاق، فقد دخلت الموانئ الإريترية لمنافستها على حصتها من النقل من وإلى إثيوبيا، ما سيجبر جيبوتي على تخفيض خدماتها لإقناع الحكومة الإثيوبية بالاستمرار في استخدام موانئها؛ هذا فضلاً عن أن إريتريا هي دولة معادية لجيبوتي، وتقوم بعمليات خطيرة تهدد أمنها القومي، بدءًا من احتلالها منطقة دميرة، مرورًا باضطهادها وتهجيرها قومية «العفر»، المكوّن الرئيسي في جيبوتي، ما سيؤدي إلى تغيير ديموغرافي في إريتريا يقوّض مصالح جيبوتي فيها.
جيبوتي هي الخاسر الأكبر، لكنها ليست الخاسر الوحيد. لقد مثّلت رعاية الرياض وأبو ظبي لهذا الاتفاق تهديدًا صريحًا للأمن القومي المصري والسوداني. حتى وإن أنكرت هاتان الدولتان علنًا، فلا يمكن تغطية ضوء الشمس بغربال. أديس أبابا تهدد الأمن المصري بطموحاتها المائية، وأسمرة تهدد الخرطوم بطموحاتها الأمنية.
هذا فضلاً عن الصومال المتضرّرة أيضًا من الاتفاق، وهي التي تعتقد أنه يرفع العقوبات الاقتصادية عن أسمرة التي تدعم المجموعات الإرهابية على أرضها، وأن أحد أهداف الرياض وأبو ظبي هو الانتقام من مقديشو بسبب مواقفها من الأزمة الخليجية ورفض الحكومة الصومالية الاتحادية قطع العلاقات مع قطر، وتوثيق الصومال علاقاتها مع تركيا.
إذن، الرياض وأبو ظبي، وبحسابات صبيانية، وضعتا كل الدول العربية «الشقيقة» في مأزق بتدخلهما في شأن لا يعنيهما، ورعايتهما لاتفاق سينال الجميع ضرر منه، وذلك في وساطة سعودية إماراتية تشبه إلى حد كبير وساطة سلطنة عمان لصالح إيران مع الغرب؛ هذه الوساطة التي أفرزت اتفاقًا نوويًا مع إيران يفصل بين المسائل النووية الفنية والتدخلات الإيرانية التي تهدد دول الشرق الأوسط.
تغيرت الحسابات لحكام الخرطوم وكذلك للقاهرة، لم يعد هناك وقت للصراع كما كان قبل اتفاق أديس أبابا وأسمرة، المصالح الأمنية التي تجمع بين القاهرة والخرطوم أكبر من مناكفات الإعلام حول حلايب والأهرامات.
الخرطوم تتحرك من أجل شلّ يد أسمرة بمحاولة تصنيف حركات المعارضة السودانية المسلحة كجماعات إرهابية، قبل أن تقوم الأمم المتحدة برفع العقوبات عن أفورقي الذي لن يتوانى عن دعم هذه الحركات انتقامًا من الخرطوم التي تفرض عليه حصارًا وغلقًا للحدود منذ عام، وذلك عندما فتح قاعدة ساوا الحدودية كمركز لتدريب المعارضة السودانية على يد خبراء مصريين.
القاهرة كذلك في ورطتها المستمرة حول سد النهضة، عجزت عن إيقاف العمل به بالعمليات المخابراتية. كذلك أحرق السعوديون والإماراتيون كارت أسمرة الرابح بالاتفاق الأخير، واضطرت مصر أخيرًا إلى العودة إلى حليفها القديم وشقيقها الأزلي السودان.
هذه الظروف هي التي جاءت بالرئيس السيسي إلى الخرطوم، ولا شيء أهم منها مع احترامنا لآراء الخبراء الأمنيين والاقتصاديين الذين يضعون أسبابًا أخرى للتقارب السوداني المصري.
نعم، كان من جملة مكاسب القاهرة اتفاق يلغي بموجبه الرئيس السوداني أي حظر على المنتوجات الزراعية والفواكه القادمة من مصر، بينما تتعهد فيه وزارة التعاون المصرية باستيراد اللحوم الحمراء من السودان. لكن قرارات مثل هذه كان يمكن حسمها في زيارة لوزراء التجارة أو الزراعة بين البلدين، لا في زيارة على مستوى رئاسة الجمهورية.
كشف موقع أفريكان إنتلجنس المقرب من الاستخبارات الفرنسية قبل أيام معلومة هامة، وهي أن الرئيس السيسي نجح في الضغط على الحكومة السودانية والحزب الحاكم لإضعاف تحالفهما مع حزب المؤتمر الشعبي الإسلامي الذي أسسه د. حسن الترابي، الزعيم السوداني الراحل. وقد تجلى هذا الأمر في تشكيلة الحكومة الأخيرة التي أعلنها الوزير الأول السوداني معتز موسى، وهي التي شهدت دمجًا للحقائب، بما فيها حقائب حزب المؤتمر الشعبي، وقد تقلصت بموجب ذلك حصة المؤتمر الشعبي من الوزارات.
وأعتقد أن الذي سرب هذا الخبر للاستخبارات الفرنسية أو لموقع أفريكان إنتلجنس هو مصدر مصري، كونه ينطوي على مبالغة في تصوير التحالف ما بين حزب البشير والمؤتمر الشعبي، فضلاً عن إرجاع الفضل في تفكيك هذا الحلف إلى الضغط المصري. أما الأسباب التي جعلت الحزبين يتحالفان متعلقة بالوضع الداخلي السوداني، وهي ما زالت قائمة، والعلاقات بينهما مستمرة، والسبب في تقليص الحكومة لعدد الوزارات لا يعود لنصيحة السيسي، بل إلى تردي الأوضاع الاقتصادية في السودان ومحاولة التقشف وتخفيف النفقات الحكومية.
أدركت مصر أن من الخطأ التخلي عن السودان بعد التقارب الأخير بين الخرطوم وأنقرة، واندفاع الأخيرة للحصول على قطعة نفوذ في منطقة جزيرة سواكن الأثرية في البحر الأحمر. وبعد طول ردح على الإعلام، ظهر العقلاء ليوجهوا القيادة لإعادة النظر في سياستها نحو جارها الجنوبي، خصوصًا أن خطواته هي رد فعل لتحركات القاهرة في أسمرة وجوبا.