الفضيلة ذخيرة للشماتة: طارق رمضان نموذجًا
كتب الأستاذ محمد مختار الشنقيطي مقالة فرشت النطع الفكري لطارق رمضان، ودقت عنقه بسيف الفضيلة، وأهالت عليه وعلى مسيرته تراب قبر افتراضي، في عالم إنترنتي لا يعفو ولا يصفح.
ورغم أن تراث الإسلاميين حافل بمقالات وقصص ومواقف من مرققات القلوب، والحث على رؤية الخير في كل شيء، والنظر للنصف الملآن من الكأس، بل لمثقال الذرة من الخير يصنعه أحدهم، إلا أن تناول تلك الآثار على ما يبدو لا يتجاوز عند أكثرنا التفكُّه بها تراثًا – كما لو كانت حكايا وأساطير – وتبقى قسوة القلب أسلوبًا غالبًا، في معاملة بني قومي بعضهم بعضًا. ويتم استخدام الفضيلة غطاء جويًّا لزحف جحافل قوات الشماتة، للإجهاز على الخصم الذي هو أخ شقيق، حتى وهو يخوض معركة جائرة ظالمة ضد عدوه وعدونا. هب أن طارق رمضان انحرف وارتكب ما عليه إثمه وإصره، فهل يبيح لنا هذا طعنه من الخلف، وإكمال ما بدأه عتاة الصهاينة والإسلاموفوبيا في فرنسا؟ أين تذهب قصص الغانية التي سقت الكلب اللاهث من خفها، وقصة توبة عبدالله بن المبارك، وقصة ذي الكفل، وقصص آلاف الصالحين الذين خلطوا عملًا صالحًا وآخر سيئًا ولم تنغلق عليهم أبواب التوبة والرحمة؟ وهل درسنا تلك العظات في حصص الدين، بحيث لزم أن نتلمس تلك الروحانية في حياتنا واختياراتنا وحكمنا على الأشياء، أم أنها كانت مقاطع غير ملزمة أكاديميًا وتعليميًا، في درس الدراما في المسرح المدرسي؟
لا شك أن المسلم يكون مخطئًا في ميزان التشريع الإسلامي إن أقام علاقات جنسية خارج الزواج، ولن نلاحي الشرع في هذه أو في غيرها، لكننا حقًا لا ندري بعد ملابسات إقرار طارق رمضان بما فعل، والأصل في الإسلام أن يتثبت المسلم من أدق تفاصيل ما يمكن أن يضر بسمعة أخيه في هذا الموطن، فلعل له تأويلًا يستبطن أن ما أتاه في تلك العلاقات كان زواجًا بإيجاب وقبول. وحتى لو كان تأويله فاسدًا قولًا واحدًا، بل هب أنه مقارف إثمًا لا محل في حرمته لاجتهاد أو تأويل، فهل يجيز هذا شرعًا نبذ الرجل جملة واتهامه بازدواجية الشخصية والنفاق؟ ألم يخطر في بال الأستاذ الشنقيطي أن الناس تتناقض، وأنها قد تقصر هممها عن بلوغ القيم السامية التي تنادي بها وتأمل؟ هل يعجز عقل الأستاذ عن تخيل صورة إنسان صالح يئن ضميره تحت وطأة الاستسلام لذنب قبيح يقارفه، دون أن تقر نفس ذلك العاصي بذلك الذنب وترضى؟
لم يشتهر طارق رمضان كداعية بالمعنى الدارج للكلمة، كأن يتكلم في الأخلاق وفضائل الأعمال، أو في أبواب الفقه المختلفة، وتركز عمله خارج المعاهد والجامعات في التنظير للتوحيد ضد الإلحاد، والدفاع عن المسلمين والمظلومين والمستضعفين من كل ملة ونحلة، ضد عتاة الاستبداد الفكري، والمستعمرين دولًا وشركات متغولة، وضد كارهي الإسلام، وكارهي العرب والمسلمين والملونين وفقراء العالم. فأي بند في الشريعة يحرم على المسلم أن ينصر دينه في باب إن قصر في باب آخر؟ بل ألم نتغن طويلًا بالقول المنسوب للشافعي:
أم أن هذا التغني مقصور على الاحتفال التراثي الذي لا يغير في واقعنا، ولا في تعاطينا مع تعقيدات الحياة، وهي تلف إخواننا في الدين أو في الإنسانية؟
كان على الأستاذ الشنقيطي أن ينتبه إلى عين ما ثبته هو بقلمه، وخطته يداه، في معرض ذكره أسباب تأخيره نشر مقالته المقصلية (بالقاف) من حيث قال: «إني لم أجدْ من المروءة أن أنشر إدانة أخلاقية لشخص سجين، خصوصًا أن سَجْنه لم يكن له داعٍ ولا مسوِّغ قانوني مقنع قبل اكتمال إجراءات التقاضي في قضيته». إن كل ما صاحب هذه القضية، ولا زال، من تعسف في الإجراءات وضخ إعلامي مركز، وما ظهر من ارتبطات صهيونية إسلاموفوبية لصناعها، لهو دليل واضح بين على حجم الانحياز والتدبير المسبق ضد طارق رمضان، وما يمثله كرمز للمنافحة عن قضايانا العادلة، وما كان ينبغي تجاهل ذلك في حمأة الحماس الطوباوي للانتصار للعفاف والفضيلة، حتى لو أعان طارق رمضان على نفسه بأخطاء ارتكبها. ناهيك عن أن سياق هذا الانتصار يفضي لمساعدة الصهاينة، وأصوليي العلمانية في تحقيق أهدافهم، أدركنا ذلك أم لم ندرك.
وإذا كان الميزان الذري الحساس للأخلاق عند بعضنا يحول بينه وبين إمكانية استعادة التفاهم مع أخ ضال آثم له سوابق في الخير، فربما يسعنا التعامل معه كسياسي مؤازر ومنتمٍ لمعسكرنا، فنساعده على الخروج من مأزقه بأقل الخسائر، ونحاول تعظيم مكاسبنا من صوته وقلمه، وعلمه وعمله، في معاركنا المشتركة التي لطالما كان رأس الحربة في ميدانها الفكري، وفارسها الهمام. أنا أكيد أننا بالبحث الدقيق والمتأني، سنجد في عالمنا الإسلامي الفاضل، الذي يلفه الورع والتقى من رأسه إلى أخمص قدميه، فلا جريمة ولا فساد ولا إثم ولا انحراف شخصيًا كان أم مؤسسيًا – سنجد في هذا المنتدى الضخم كرسيًا واحدًا يسع طارق رمضان رغم ما مر به من وحل، وليكن طارق رمضان قوينا الفاجر الذي قوته للمسلمين وإثمه عليه، إذا حيل بيننا وبين تمثل «ولا تنسوا الفضل بينكم».