الواقع الافتراضي: الضجة والمشكلات والآفاق (1-2)
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
أنا جالس في الظلام. الغرفة مظلمة للغاية، باستثناء بقعة ضوء دائرية على الحائط المقابل لي. تظهر أصوات لامرأة وطفلة صغيرة، بينما تُلقى دمى ظل بواسطة أيادي خفية تستعرض قصصًا في دائرة الضوء. وفي مكان ما فوقي هناك انفجار مشؤوم ومنخفض.
تصاب الفتاة بالخوف. وتحاول المرأة، والدتها، أن تهدئها. تخبرها بأن الصوت يرجع فقط لعملاق يتجول في المدينة فوقنا – نفس العملاق الذي أطاح بخطوط الكهرباء دون قصد وأغرقنا بالظلام.
تعود الأضواء، وأستطيع أخيرًا أنا أرى أين أنا: في قبو، محاط بأجزاء عادية من الحياة اليومية – صناديق، علب طلاء، كراسي، لعب قديمة. تكمن بالقرب مني نسخة من مجلة «تايم»، عنوانها «هل هذه حرب؟» وتاريخها مارس/آذار 2017م. أسمع المزيد من الانفجارات من المدينة في الأعلى.
تسترعي الأم والطفلة انتباهي مجددًا – فقد انضم إليهما رجل. وهو والد الطفلة على نحو محتمل. إنهم يبدون كعائلة أمريكية بيضاء كلاسيكية من الطبقة المتوسطة – لكن يبدو واضحًا أن هناك شيء غير صحيح. لقد عاد للتو من على سطح الأرض، يبدو متأثرًا بفعل ما شاهده. البالغان يحتضان بعضهما البعض، يحاولان إبقاء طفلتيهما، ونفسيهما، هادئين. من مكان ما على مبعد يأتي صوت صفارة إنذار الغارات الجوية المألوف الذي تقشعر له الأبدان، مع اقتراب أصوات الانفجارات. تصبح شديدة لدرجة تصم الآذان، وأنظر لأعلى في الوقت المناسب تمامًا لأرى السقف ينهار فوقي، قبل أن أغرق في الظلام مجددًا…
أسحب جهاز الواقع الافتراضي عن وجهي. أجد نفسي لجزء من الثانية غير متأكد من مكان وجودي، قبل أن تتكيف عيناي على الضوء وأتذكر أنني جالس في استوديو في مبنى مشروع «نيو إنك» بشارع بووري بنيويورك. لقد جربت للتو «العملاق»، وهي قصة قصيرة بالواقع الافتراضي.
رغم حقيقة أن الأغلبية العظمى من الناس ما زالوا لم يستخدمونه مطلقًا، لكن يبدو من المستحيل تجنب الحديث عن الواقع الافتراضي هذا العام. تخبرنا المقالات الجديدة، مراقبو الاتجاهات، ومبشرو التكنولوجيا باستمرار بأن عام 2016م هو عام وصول هذه التكنولوجيا أخيرًا. تطلق كل من سامسونج، إتش تي سي وسوني نموذج أجهزة الواقع الافتراضي الخاص بها. وكذلك فيسبوك وجوجل. سوف يُحدث الواقع الافتراضي ثورة في مشاهدة الأفلام ولعب الألعاب، حسبما قيل لنا. لن تكون وسائل التواصل الاجتماعي كالسابق أبدًا. سوف تتحقق جميع أحلامك – في الوقت المناسب سوف تتمكن من إعادة أي تجربة إنسانية يمكنك تصورها، أو خوض مغامرات من أفلام هوليوود، وكل ذلك من أريكتك المريحة.
إنها ضجة لا يمكن وقفها وهي التي، بالنسبة لي شخصيًا، توجت ب«فيرجنز 2016» – وهو مؤتمر ليوم واحد في نيويورك تبلغ قيمة تذكرته 700 دولار بهدف جمع فنانيين، تكنولوجيين ومستثمرين لمناقشة إمكانيات الواقع الافتراضي. لقد كان يوم محادثاتٍ مثيرٍ للاهتمام – كان أكثر عمقًا، حسمًا وصدقًا مما توقعت – ما جعلني مهتمًا بالأشخاص على المسرح ووراء الأجهزة أكثر من التكنولوجيا نفسها. من هؤلاء الأشخاص الذين يستثمرون أموالهم، إبداعهم ومهنهم في هذه التكنولوجيا الجديدة؟ وكيف يعتزمون الاستفادة من مستقبل الواقع الافتراضي، توجيه الضجة المثارة حوله، وتجنب القيود الحالية؟
أصول افتراضية
يقول شعار قصة «العملاق»: «تجربة واقع افتراضي مستوحاة من أحداث حقيقية»، حيث تعتمد على ذكريات طفولة واحدة من مبتكريه، إنها ميليتشا زيك، 34 عامًا، التي احتمت مع عائلتها من غارات قصف الناتو في صربيا التي مزقتها الحرب في التسعينيات. توضح زيك لي أن قرار وضع «العملاق» في ما يبدو كنيويورك المعاصرة قد اتخذ لتعزيز التجربة العاطفة لتلك القصة.
«سبب قرارنا بأن نطبقها على عائلة أمريكية هو أنه عادة عندما نقرأ عن النزاعات، لا يحدث الأمر أبدًا للغربيين. يعتقد الغربيون دائمًا أنه «لا يمكن أن يحدث ذلك لنا أبدًا». وبالتالي، يصعب التماهي مع الضحايا، لكن إن بدا أحدهم مثلك، وارتدى ملابسك وتحدث على طريقتك، يمكنك أن تتماهى معه بشكل أفضل. كنا نأمل أنه ربما يشعر الناس بالأمر بشكل أكبر إن بدا كانعكاسٍ لعائلاتهم».
بالنسبة لزيك، تعد هذه واحدة من إمكانيات الواقع الافتراضي الواعدة – القدرة على إلقاء الجمهور في موقفٍ وإجبارهم على التفاعل عاطفيًا، بطرق يصعب على صناعة الأفلام أو الصحافة تنفذها.
إنها غاية ذات قيمة، لكنني لست متأكد من مدى اقتناعي بها. فبينما قصة العملاق بالتأكيد مقنعة، فريدة ومصنوعة بمهارة. لم أشعر بالارتباط العاطفي بشكل خاص بالعائلة. بل شعرت إلى حد كبير بأنني كنت جالسًا على كرسي فقط، مشاهدًا ما يحدث لهم في الركن الآخر من القبو؛ لم يشعروا بوجودي، وكأنني لا أزال الجمهور الخفي الذي يشاهد مسرحية، بدلًا من أن أكون منغمسًا في العمل نفسه. لكن ربما أنتمي إلى الأقلية – فزيك وشريكها، ينسلو بورتر قد عادا للتو من مهرجان كان للأفلام، حيث أحدث «العملاق» تأثيرًا كبيرًا وسط صناع الأفلام التقليديين. «لقد شاهدوه وقالوا، «رائع، لقد نجحتما في تحقيق (كثافة عاطفية) في خمس دقائق يستغرق تحقيقها عادة منا 20 دقيقة»».
عمل بورتر على مشروعات واقع افتراضي قبل العملاق، لكن بالنسبة لزيك – التي تأتي من خلفية تقليدية في صناعة الأفلام – كانت تلك تجربتها الأولى في العمل بالوسط. «كل شيء مختلف»، حسبما تقول بشأن هذا التحول. «انس كل ما تعرفه عن الأفلام وتعلم الواقع الافتراضي من الصفر». صُنع الفيلم بشكل مشابه لكيفية جمع أفلام هوليوود الغنية بالمؤثرات الخاصة – حيث تم تصور الممثلين أمام شاشة خضراء، ثم صُمم القبو الافتراضي على الكمبيوتر، وتم تحريكه باستخدام محرك لألعاب الفيديو. إنها عملية مكثفة، أن تجمع كل شيء في إطار واحد. «يوم تصوير واحد، وأربعة أشهر في مرحلة ما بعد الإنتاج»، حسبما أخبرتني.
يشارك كلاهما حاليًا في «نيو إنك»، وهو مشروع يديره متحف نيويورك الجديد والذي يساعد الفنانين المشتغلين بالتكنولوجيا على تحويل أفكارهم إلى أعمال. يأملون بعد ذلك أن يبنوا حياة مهنية في الواقع الافتراضي. يبدو الأمر خطرًا بشكل محتمل بالنسبة لي، وأسألهم إذا ما كانوا قلقين حول عدم انتشار الواقع الافتراضي. لا يعتقد بورتر أن هذا مرجح، وهو مقتنع بأن الواقع الافتراضي سوف يكون ناجحًا على المدى البعيد. «أنا لست قلقًا لأنني أعرف أنه قادم… قد لا يحدث ذلك بالمعدل الذي يضخمه البعض، لكنني لا أعتقد أننا كفنانين نضخم الأمر بأنفسنا. بل نحاول فقط صنعه».
بينما أنهي مقابلتي يصل زوجان من كبار السن، وهما على نحو محتمل من داعمي المتحف الجديد، إلى الاستديو كجزء من جولتهما بمشروع «نيو إنك»، ويبدو عليهما الثراء والتأنق على طريقة مانهاتن النمطية، يتم تقديمهما إلى زيك وبورتر قبل أن تستخدم السيدة الأجهزة لتجربة «العملاق» بنفسها.
عندما ينتهي العرض تسحب الأجهزة عن رأسها، وترمش بعينيها بينما تعيد التكيف مع إضاءة الاستديو اللامعة. سألتها عن رأيها. «لم أشاهد من قبل عرضًا ثلاثيّ الأبعاد كهذا»، حسبما علقت مع اتساع عينيها، «لم أجرب الواقع الافتراضي من قبل. لقد كان واقعيًا جدًا عندما انهار السقف، وحدث الانفجار الأسود. لا تعلم من أين تبدأ ولا أين تنتهي. كانت البيئة واقعية جدًا. إنك هناك بالفعل. المكان ضيق بشكل ما، لكنهم يشعرون بالخوف من الأماكن الضيقة، حسبما أظن، لأنهم عالقون. الأمر أكثر واقعية بكثير مقارنة بصالة السينما. تدور الأحداث حولك وتكون فيها حقًا. يا إلهي».
يتهلل وجهي زيك وبورتر بسعادة؛ فهذه تحديدًا هي الاستجابة التي يأملان سماعها.
أقف في ما يبدو أنه بهو مبنى كبير، ربما مركز مؤتمرات. يحيط بي بناء من الزجاج والفولاذ. بينما أنظر حولي سريعًا أرى عدد قليل من الأشخاص، جميعهم يرتدون تيشيرتات جوجل، ويبتعدون عني.
ثم أرى طوفانًا مفاجئً من البشر، مئات الأشخاص يتدفقون من ممر، يحيطون بي. وجوه تمعن النظر بوجهي. الهواتف الذكية مرفوعة وتلتقط صورًا. دون النظر إلى السقف أو إلى الأرضية، يستحيل تجنب نظرات التحديق الفضولية. المكان ضيق – يثير الخوف وينعش بشكل غريب، كالشعور الذي يجب أن ينتابك عندما تكون مشهورًا، ويتزاحم عليك المعجبين.
اسحب أجهزة الواقع الافتراضي عن وجهي. أجد نفسي لجزء من الثانية غير متأكد من مكان وجودي، قبل أن تتكيف عيناي على الضوء وأتذكر أنني في غرفة اجتماعات عصرية ضئيلة في مكاتب «يوتيوب نيويورك» التابعة لجوجل. لقد اختبرت للتو مشاهد على «جامب»، أداة جوجل للتصوير بزاوية 360 درجة.
تحتوي «جامب» على 16 كاميرا تسجل جميع الزوايا بشكل متزامن، قبل دمجها جميعًا. أشاهدها عبر أجهزة مصنوعة من الورق المقوى المطوي، وتتوفر الشاشة عن طريق هاتف ذكي قياسي موضوع في المقدمة. تطلق عليها جوجل، ببساطة، «الورق المقوى» (كاردبورد). ربما رأيتها بالفعل، وجربتها. وحتى إن لم تفعل، رأيت على الأرجح مقاطع فيديو 360 درجة المنتشرة على يوتيوب وفيسبوك، حيث يمكنك تغيير زاوية ما تنظر إليه عبر إمالة هاتفك الذكي. هناك الآلاف من هذه المقاطع بالفعل، والتي تشمل كل شيء من الأحداث الرياضية إلى ألعاب الفيديو، ركوب قطار الملاهي وحتى مقاطع الـ«بوب».
على سبيل المثال، يمكنك مشاهدة فيلم مصور بزاوية 360 درجة بواسطة «بي بي سي فيوتشر» داخل منجم «بيتكوين».
«إن كان الواقع الافتراضي متعلق بالتجربة، الذكريات والأحلام… فإن فكرة الوسط بشكل ما ليست منطقية»، حسبما تعلق جيسكا بريلهارت، المخرجة الرئيسية للواقع الافتراضي بجوجل، التي لديها شغف واضح بصناعة أفلام الواقع الافتراضي. لقد أرتني هذا المقطع لأنها تقول إنه يوضح ما تعتقد أن الواقع الافتراضي يفعله – أي، يلتقط لحظات ومشاعر بطرق صريحة وغير معدلة.
يبدو واضحًا أن استراتيجية جوجل بالنسبة لتقنية 360 هي اتباع ما نجح بشكل جيد جدًا معها على «يوتيوب»: أي وضع إمكانية صنع محتوى جاذب للانتباه بين يدي المستخدم.
«إن استطعت تصوير مدينة ماتشو بيتشو، أو مجموعة من مهندسي جوجل، أي منهما سأختار؟ سوف يختار معظم الناس تصوير ماتشو بيتشو، لكن الأمر المفهوم بشكل أكبر هو احتمالية صنع ذكرى».
لا تتعلق آفاق الواقع الافتراضي، حسبما ترى بريلهارت، بنقلنا إلى مكان آخر فقط – بل وبربطنا بالأمور التي تهمنا بشكل أكبر.