أنثى العذراء: لماذا يلجأ الناس للخرافة؟
في المقال السابق تحدثنا عن مدى اتساع ادعاءات المنجمين وأبراجهم، وتلك الحالة من الضبابية هي صفة أساسية لكل العلوم الزائفة، يصاحب ذلك الاتساع درجة واسعة من قبول كل الاحتمالات الممكنة منها حتى المتعارضة معا، يشبه ذلك القول الشهير المنسوب إلى الفيزيائي فولفجانج باولي «إنها ليست حتى خاطئة Not even wrong» حينما عرضت عليه ورقة بحثية أغضبته بمدى اتساعها وقبولها لكل التجارب بحيث لا تصبح خطأ مهما حدث. دعنا الآن ننتقل إلى حديث مختلف عن المعوّقات المفاهيمية التي تواجه إدعاءات التنجيم، والعلوم الزائفة في العموم.
تفتقر افتراضات المنجمين –حتى بشكل نظري بعيدًا عن التجريب– للتماسك، حتى إن المنجمين المشاهير أنفسهم لا يتفقون فيم بينهم على آلية واضحة لتلك الفرضيات، ووصل كل من دين وكيلي من خلال 25 دراسة إلى أن درجة الإتفاق بين المنجمين تصل فقط إلى .1، بينما في العلوم الاجتماعية مثلا تعد الدرجة .8 غير مقبولة، سوف نجد ذلك الاضطراب واضحًا في تاريخ التنجيم أيضًا.
في الحقيقة هناك نقطة أخرى تدعو للتأمل، والضحك أيضًا، وهي أن معارف المنجمين الفلكية أضعف بكثير مما قد نعتقد، ذلك ببساطة لأن التحديد الدقيق لارتباط لحظة ميلادك مع تموضع الكرة السماوية بالأعلى يحتاج للكثير من الجهد وراء حساب حركة سماء الليل، وفهم الهندسة الكروية المتعلقة بذلك، والتي تغير من موضع الشمس باستمرار في الكرة السماوية.
إن سذاجة القول الشهير أن الشمس تنتهي بالضبط في نفس الموضع بعد دورة كاملة للأرض وحده كفيل بهدم ذلك كله، وذلك لأن هناك بالفعل اختلافا في موضع الكرة الأرضية بين نفس اللحظة من نفس الدقيقة من نفس الساعة من نفس اليوم والشهر في سنتين متتاليتين بمقدار حوالي 30 ألف كيلومتر، لذلك لو كان المنجم يقوم بحساباتك – وأنت في الرابعة والعشرين من عمرك مثلا – فسوف يقوم بعمل خطأ بسيط في الحساب مقداره 720 ألف كيلومتر من دورة الأرض حول الشمس !
برجك الحقيقي
لذلك السبب، دعنا هنا نضيف نقطة أخرى مثيرة جدًا للاهتمام، وهي أن برجك الذي تعرفه ليس في الحقيقة صحيحًا، ذلك لأن الأبراج السماوية لم تتغير في كتب التنجيم منذ حوالي 2500 سنة، حيث لم تأخذ تلك الكتب في الاعتبار ما نسمّيه المبادرة المحورية Precession وتعني التغير البطيء جدًا والمستمر لاتجاه محور الجسم الفلكي، كما بالصورة، وتكمل الأرض دورة من هذا النوع مرة كل 26 ألف سنة.
تتسبب تلك الظاهرة في تغير القطب الشمالي السماوي للأرض، الآن مثلا نجم الجدي Polaris هو النجم القطبي، النجم الذي يشير إليه محول الأرض بالأعلى، لكن حول العام 3000 قبل الميلاد كان نجم يدعى الثعبان من كوكبة التنين هو النجم القطبي، بعد 5000 عام من الآن سوف يصبح نجم الذراع اليمنى في كوكبة الملتهب هو النجم القطبي الجديد، ثم بعد 7000 عام سيكون نجم الذنب في كوكبة الدجاجة هو النجم القطبي الجديد.
بسبب تلك الظاهرة، وخلال 2500 سنة مضت، تحركت نقطة تقاطع ما يسمى «خط الاستواء السماوي» مع خط دوران الشمس (دائرة البروج) للغرب بحوالي 36 درجة، مما تسبب في نقل الأبراج النجمية الحقيقية بمعدل شهر كامل تقريبا بعيدًا عن موضعها الذي تذكره كتب التنجيم، مما جعل مواليد 12 مارس – 19 إبريل مثلًا، ممن يعتبرون أنفسهم حملًا، في الحقيقة ليسوا إلا حوتًا، فالشمس تقع في برج الحوت بين 11 مارس و18 أبريل، كل الفكرة أن أحدهم نسي أن يقوم بحساباته بدقة لمدة 2500 سنة !
لهذا السبب ظهرت شائعة قبل عدة أشهر تقول إن الأبراج قد تغيّرت، لم تكن تلك شائعة، لكن بعض المنجمين حاول فعلًا تغيير الكتب لتتسق مع الحقائق فقط، فإذا كان التنجيم يعتمد على موضع النجوم والكواكب في السماء لحظة ميلادك، وتأكدنا أن تلك اللحظة خاطئة، فالتنجيم بالكامل خطأ أيضًا، وهو كذلك بالفعل.
دعنا الآن نتعرف إلى برجك الحقيقي، المجموعة من النجوم التي تواجدت فيها الشمس لحظة ميلادك فعلًا، وليس كما اتفقت مع كتب التنجيم وأخبار الصباح:
الجدي: 20 يناير – 16 فبراير
الدلو: 16 فبراير – 11 مارس
الحوت: 11 مارس – 18 أبريل
الحمل: 18 أبريل – 13 مايو
الثور: 13 مايو – 21 يونيو
الجوزاء: 21 يونيو – 20 يوليو
السرطان: 20 يوليو – 10 أغسطس
الأسد: 10 أغسطس – 16 سبتمبر
العذراء: 16 سبتمبر – 30 أكتوبر
الميزان: 30 أكتوبر – 23 نوفمبر
العقرب: 23 نوفمبر – 29 نوفمبر
الحوّاء: 29 نوفمبر – 17 ديسمبر
القوس: 17 ديسمبر – 20 يناير
كما تلاحظ، فهذه 13 برجا وليست 12، وذلك لأن الشمس بالفعل تقضي حوالي 18 يومًا في مجموعة نجوم (كوكبة) تدعى الحوّاء، أهملها المنجمون لكي تبدو الأمور متسقة، 12 شهرًا مع 12 برجًا، فكما تعرف، يدفع هذا النوع من الاتساق بالبشر للإيمان بصدق الخدعة، لا أكثر.
أضف لذلك –مثلًا- مشكلة أخرى تواجه المنجمين، وهي مشكلة كوكب بلوتو، فلقد أصبح كوكبًا قزمًا، هنا يمكن أن تقول لي أن كون بلوتو قزمًا أو لا لن يؤثر، لكن المشكلة ليست كذلك، فالمنجم يضع في حساباته كل الكواكب حتى يخرج بتشريح واضح للحالة، تلك هي إحدى مواصفات وظيفته، إذا لم يكن كوكب عطارد قزمًا بالنسبة للمنجم فكل الكواكب القزمة كذلك، ما وضع ايريس إذن؟ ماذا عن سيدنا؟ أوركاس؟ كواوار؟ناماكا؟ماكيماكي؟ .. كلها كـبلوتو!
يمكن القول إننا في كل مرّة نلتقي بعلم زائف سوف نجد تلك الصفّة، صفة ضعف المعرفة الدقيقة بالأمور، حيث يحاول الجميع أن يُثبت ما لديه بقشور المعلومات والتي ربما تكون في الأساس مغلوطة، أو – وهو الأهم – فاقدة لتشعبات مهمة لكي يكتمل فهمها، فيقول أحدهم مثلًا إن التشابك الكمّي علميًا يثبت صحة التخاطر وهو لا يعرف أن التشابك الكمّي لا ينقل معلومات.
لماذا يلجأ الناس للخرافة؟
كما ترى، فبغض النظر عن عدم اتساق هذا الكيان بفرضياته مع ذاته، تفتقد فكرة التنجيم للآليات الحقيقية التي يمكن أن نستند عليها للقول إننا أمام فرضية ما، كذلك تفتقد تمامًا – كما رأينا في المقال السابق – للقدرة على التنبؤ، أما بالنسبة لفلسفة العلم فقد أنكرها كذلك توماس كون مثل كارل بوبر، لكنه قال إن سبب كونها غير علمية ليس ذا علاقة بالقابلية للتكذيب، إدّعاء بوبر، ولكن لأنها لا تحتوي أصلًا على مشكلات لحلّها، فالعملية والمفاهيم التنجيمية لا يمكن اختبارها.
أما من وجهة نظر نفسية فهناك مفهومان غاية في الأهمية يجب أن نضعهما في الاعتبار حينما نود الإجابة على سؤالنا الرئيس في المقال الأول: هل تعني قدرة التنجيم/الخرافة عمومًا على تنبؤ مواقف حياتية مستقبلية أنه على صواب؟
المفهوم الأول، هو ما نسمّيه «النبوءة المُحققة لذاتها Self-Fulfilling Prophecy»، وهي التوقع الذي يجعل من نفسه صحيحاً بشكل مباشر أو غير مباشر، يشبه الأمر أن تقول لزميل لك قبل اختبار القدرات في كلية الشرطة مثلًا إنك تعرف أنه سيرسب، هنا سوف يتولد لديه شعور شديد بالخوف من الرسوب فيتسبب ذلك في حالة توتر تمنعه من الانتباه في الاختبار فيرسب بالفعل، لكن رسوبه لم يكن بسبب أنك توقعت ذلك، لكن لأنك دفعته لكي يرسب بالفعل، النبوءات ذاتية التحقق منتشرة للغاية في حياتنا اليومية دون أن نقصد، وتعمل عليها أجهزة السياسة والإعلام بشكل دائم لدفع الجمهور لتحقيق ما يتوقعه الإعلام؛ لكن الإعلام لا يتوقع شيئًا، هو فقط يظهر كذلك.
في عالم الأبراج كل ما تحتاجه إذن هو تنبؤ واسع فضفاض يمكن تركيبه على أي شيء، ثم حينما يقول البُرج إنك سوف (تحصل على حب جديد اليوم) فإن ما يحدث هو أنك حينما ترى فتاة ما، أية فتاة، ستسعى لتحقيق النبوءة دون أن تدري، فتحاول التقرب منها ثم تقول لذاتك إن النبوءة تحققت، لكنك أنت من حققها متعمدًا.
المفهوم الثاني، هو ما نسميه التحيّز التأكيدي Confirmation bias وهو تحيّز إدراكك للأمور، بمعنى أنك سوف تتذكر دائمًا التنبؤات التي تحققت وتنسى تلك التي لم تتحقق، تخيّل مثلًا أنك تود شراء سيّارة من النوع «كيا بيكانتو»، في كل يوم كنت تنزل للشارع وترى الكثير من السيّارات من أنواع مختلفة، لكن في اليوم الذي قررت فيه أن تشتري السيارة كيا بيكانتو إذا بك تبدأ في ملاحظتها بكل مكان وكأن هناك رسالة لك تقول إن تلك السيّارة هي المُختارة فعلا، لكن كل ما حدث هو أن سيّارات البيكانتو بالفعل موجودة في الشوارع بنفس المعدل كل يوم، لكنّك تحيّزت لملاحظتها والتركيز عليها.
لهذا السبب فإن ما يحدث حينما تقرأ خصائص الإبراج الخاصة بك، فإنك تتحيز فورًا لتصديقها والتأكيد على مدى دقّتها مهما كانت ضبابية ومتسعة لتقبل كل شيء، يُدعى ذلك تأثير بارنوم، أو تأثير فورير، ويقول إن معظم الناس يميلون إلى قبول وصف فضفاض للشخصية على أنه يصفهم بدقة، دون أن يدركوا أن هذا الوصف نفسه يمكن أن ينطبق أيضًا على أي شخص آخر.
لفهم ذلك دعنا نتأمل تجربة1 برترام فورير النفساني الأمريكي الذي دفع الطلبة في قسم علم النفس سنة 1949 لاجتياز اختبار شخصية، ثم بعد ذلك أهمل الاختبار وأهمل إجاباتهم تمامًا وأعطى كل منهم ورقة بها نفس الكلام على أنها وصف لشخصيته كنتيجة للاختبار الذي اجتازه ثم طلب منهم تقييم مدى اتفاق ذلك التقييم مع شخصيّاتهم، في أرقام بين 5 (أتفق بشدة، أنا هذا الشخص) و0 (ليس أنا أبدًا). كان الوصف يقول (جرّبه على نفسك):
أعيد نفس الاختبار مئات المرّات مع الطلبة من أقسام علم النفس وكان معدل الإجابات هو 4.2، بل إن 40% من الطلبة الخاضعين للاختبار أعطوه 5، أي أن كل طالب تقريبًا أكد أن هذا الكلام يتفق بشكل شبه تام مع شخصيته، بل قال البعض إنه تفاجأ من مدى دقة وصف فورير لشخصيته، بينما هو في الحقيقة كلام ضبابي عام يصلح لأي شخص ويتحمل كل الشخصيات، فمن منّا لا يسعى لتحقيق الأمان؟ من منّا لا يعتز بكونه مستقلا؟ من منا لا يعتقد أن لديه إمكانات يمكن استخدامها؟ لكن لأنه موجه لك قمت بالتأكيد على دقّته.
في النهاية
لم يكن ما سبق في المقالين حصريا لعالم الأبراج فقط، فهو سر نجاح كل العلوم الزائفة، كالأبراج، وأضف لها قراءة الكف، وحتى المجموعات الموازية من العلوم الزائفة كعالم التنمية البشرية، والبرمجة اللغوية العصبية، وعلوم الطاقة، وكل ما يدّعي أنه يتعلق بعلم النفس، أو بالعلم عمومًا، من تلك التوجهات بينما هو مجرد جمل واسعة فضفاضة تسحب الشخص العادي لتصديقها وتأكيدها دون أن يكون لها أي علاقة حقيقية بشخصيّته.
طبقًا لدراسة أجريت بالمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، قام بها الباحث محمد عبدالعظيم، ونقلها كتاب «شوية علم من فضلك»، هناك ما يقرب من 130 ألف مصري يعملون في قراءة الكف والفنجان ويدّعون معرفة المستقبل، 70% من المصريين يؤمن بقدرة هؤلاء الاشخاص على توقع المستقبل بالفعل والتأثير على حياة آخرين، ويدفع الوطن العربي حوالي 5 مليارات دولار سنويًا في أعمال الشعوذة والدجل، بينما يتردد نصف نساء الوطن العربي كاملًا على الدجالين، في السر والعلن، بينما يؤمن 31% من صناع القرار في مصر أن الدجّال يمكن له فعل أي شيء !!
يقول الفيزيائي الفلكي الشهير نيل ديجراس تايسون:
بالفعل تظهر المشكلة حينما تكون الأجواء ضبابية فلا نجد أي أداة حقيقية لفهم ما يحدث، وحينما نقع في تلك المشكلة يكون أول ما نلجأ إليه هو الإيمان بالخوارق، فحياتنا كئيبة، وكل شيء يحدث ببطء شديد، للدرجة التي تدفعنا لتصديق أن كل مشكلاتنا سوف تُحل في دقائق عبر تعويذة ما، أو كتاب في علوم الطاقة.
لذلك، ربما يكون أحد الحلول في مواجهة انتشار الخرافة هو محاولة نشر المنهجية العلمية، وتعريف الناس –ليس بالعلم نفسه– ولكن بما يعنيه، بمفاهيمه التي تنقل للناس بأفضل شكل ممكن معلومة أساسية عن «كيف تعمل الأشياء؟»، بعد فترة يتعلم الشخص أن يبدأ في التشكك مع أي خرق لقوانين الطبيعة، أن يقول لنفسه – بشكل أو بآخر – ما قاله الفيزيائي الشهير مارسيللو تروتزي «الإدعاءات الاستثنائية تتطلب أدلة استثنائية An extraordinary claim requires extraordinary proof.»
- شوية علم من فضلك: السيد نصر الدين
- Nonsense on stilts : how to tell science from bunk – Pigliucci, Massimo
- The fallacy of personal validation_1949
- Science and Pseudo-Science
- The relationship between date of birth and individual differences in personality and general intelligence: A large-scale study
- Objections to Astrology
- Michael Shermer, ed. (2002). The Skeptic encyclopedia of pseudoscience
- What Makes Some People Think Astrology Is Scientific?
- What is the zodiac?