أنثى العذراء: لماذا تعد الأبراج وهمًا؟
يحدث أن تقرأ في الصحيفة الصباحية توقعات لبرج الأسد تقول إنك سوف (تحصل على حب جديد اليوم)، ثم في المساء تلتقي بفتاة جميلة تُدعى سارة، هي زميلتك الجديدة القادمة للعمل من فرع الشركة في مدينة مجاورة، ألا يعني ذلك أن الأبراج صدقت في توقعاتها؟ وأن تلك الفتاة هي إذن ذلك الحب الجديد؟ إذا حدث ووقعت في حب سارة، فهل يمكن القول إن التوقّع الصباحي الدقيق قد نجح؟
أنتِ بالفعل من برج الحمل، وتتفق صفات هذا البُرج، كالعفوية مثلًا، وكون امرأة برج الحمل شغوفة بالحب وذات عواطف جيّاشة أكثر عمقًا واستمرارًا، تمامًا مع صِفاتكِ الشخصية، حتى أن صديقاتكِ يقلن ذلك عنكِ بشكل دائم، ثم إن «يُمنى» و«أمل» و«جنا» يحملن الصفات نفسها وهن أيضًا من برج الحمل، ألا يعني ذلك أن لتلك الأبراج رابطًا حقيقيًا مع الواقع؟ أليس ذلك واضحًا لكل الناس؟
ذلك، في الحقيقة، هو ما لا يتحدث فيه أحد، بمعنى أن الكثيرين يخرجون لنا يوميًا للقول إن التنجيم عمومًا، والذي يعرف على أنه الإيمان بوجود رابط بين أحداث سماوية – فلكية – والبشر هنا على الأرض، هو شيء غير علمي، ويقول رجال الدين إنه محرم، لكن لا أحد يود أن يبدأ من النقطة الصحيحة التي تسأل فيها أنت سؤالك، وهي أن التوقعات تحدث، سوف تقول لذاتك «هل أنا مجنون إذن؟ كيف يمكن لي أن أصدق كل ذلك الهراء الذي تقولونه بينما تحدث توقعات الأبراج بالضبط؟»
تلك إذن هي نقطة البحث خاصتنا، سوف نبدأ ببساطة بالقول إن توقعات المنجم تحدث، والتساؤل هنا سوف يكون عما يعنيه حدوثها، هل تعني قدرة التنجيم على تنبؤ بمواقف حياتية مستقبلية أنه على صواب؟ أم أن هناك سببًا خفيًّا يوضح أن ما يفعله التنجيم هو مجرد هراء؟ لذلك، أحتاج منك أن تصبر قليلًا في البداية حتى نتعرف إلى بعض المفاهيم، سوف يحتاج ذلك منا الكثير من الحديث معًا، ثم سوف تبدأ المفاجآت في الظهور.
ميلينا من روسيا
لنبدأ بمثال شهير يضربه لنا فيلسوف العلم الأشهر «كارل بوبر»، خذ مثلا نظريتي «ألفريد أدلر» و«سيجموند فرويد» النفسيتين في تفسير انفعالاتنا كبشر وحالاتنا العصابية، لنفترض الآن أن لدينا حالتين عصابيتين نريد تحليلهما بآليات «فرويد» و«أدلر»، الحالة الأولى لرجل قرر الإلقاء بطفلٍ في الماء وقتله، والثانية لرجل قرر التضحية بذاته من أجل إنقاذ طفل من الغرق، الآن لنطلب من «فرويد» تحليل هذا الموقف.
ما رأيك سيد فرويد؟
الآن سوف نطلب من السيد أدلر تحليل الحالتين نفسهما:
أينما وكيفما كانت الحالة موضع الدراسة، فكل من «أدلر» و«فرويد» يستطيعان دائمًا تحليلها، يستطيعان أن يكونا دائمًا على صواب، وذلك لسبب واحد، وهو أن نظرية كل منهما هي بالاتساع الذي يمكن له أن يحتوي على كل الاحتمالات والإمكانات، في كل حالة عصابية سوف يجيب كل من أدلر وفرويد بأن نظريتيهما تشرحها وتفسرها.
لكن.. كيف يمكن إذن أن نعرف إن كانت نظرية كل منهما صوابًا أو خطأً؟ لتأكيد الفكرة دعنا نضرب مثالًا آخر.
لنفترض أننا مجموعة من العلماء طلب منهم القدوم إلى أحد برامج الواقع والتحقيق في صحة ادعاء ما، يقول الادعاء ببساطة «تنتقل رَهَف من النقطة (أ) عند بيتها إلى النقطة (ب) عند بيت آخر على بُعد مائتي متر في آخر الشارع نفسه»، يحتاج ذلك فقط منّا أن نكتب – في ورقة بيضاء – سؤالين فقط:
هل خرجت من النقطة أ؟
هل وصلت إلى النقطة ب؟
الإجابة بـ«نعم» على كلا السؤالين تعني صحة هذا الادعاء. لكن – ركز قليلًا هنا – يمكن لرهف ربما أن تسلك الشارع بين النقطتين، أو أن تفعل غير ذلك، كأن تدخل إلى شارع جانبي ثم تدور وتعود للنقطة (ب)، أو أن تدور حول البلدة كلها ثم تعود لـ (ب)، أو أن تخرج من النقطة (أ) ثم تذهب لتزور مجرة أندروميدا قبل أن تعود بعد ثمانية ملايين من السنوات لتصل إلى النقطة (ب)، يعني ذلك أن السؤال الثاني يحتاج منّا بعض التحديد كي نستطيع الإجابة عنه، وإلا فسوف ننتظر ما يمكن أن تفعله رَهَف للأبد.
هنا سوف نود أن نقول مثلًا إن رَهَف انتقلت من النقطة (أ) إلى (ب) في خط مستقيم، يضع ذلك بعض المخاطرة، فـرهف الآن ملزمة بخطة واحدة فقط، ربما كذلك نود أن نحدد الاختبار بقيمة زمنية حتى لا تتحرك رَهَف ببطء شديد فلا تصل إلا بعد مليون سنة، سوف نقول إذن:
«تنتقل رَهف، من النقطة (أ) إلى (ب)، عبر خط مستقيم، في حدود عشر دقائق»
دعنا الآن نقارن بين الادعائين، الادعاء الأول أكثر اتساعا وضبابية من الثاني، فالأول يتحمل أن يكون مسار رهف في أي مكان وأي زمن، قد تُحدثنا رهف عبر الهاتف لتقول إنها الآن في لاس فيجاس، أو أن تقول إنها في موريتانيا، أو أن تقول إنها في القاهرة، يمكن لكل تلك المحادثات أن تكون جزءًا من خطتها للوصول إلى النقطة (ب)، هنا يمكن لنا القول إن بعض الادعاءات قد تكون أكثر اتساعًا لدرجة تجعلها أكثر قبولًا لعدد كبير جدًا من الاحتمالات. لكن كلما حاولنا دفع الادعاء للمزيد من المخاطرة، فنحن ندفع لتكذيبه Falsifying ، أي وضعه في إطار يمكن لنا اختبار عدم صحته.
ما يفعله المنجم ببساطة هو إطلاق العديد من الجمل الواسعة، تلك التي تحتمل عددًا واسعًا من الإشارات وتتقبل عددًا كبيرًا من المتغيرات، جرب مثلًا أن تجيب بالبرج الخاطئ حينما يُطلب منك في حوار ما أن تقول ما هو برجك، لتقل للسائل مثلًا إنك من «برج الحوت» بينما أنت بالفعل من «برج الأسد مثلًا»، هنا سوف يجيبك السائل:«بالضبط، كنت أعرف ذلك، أنت متفهم ومتقبل للآخرين دائمًا»، وهذا من صفات برج الحوت، لماذا قال ذلك؟
ببساطة لأن كل البشر يمكن النظر لشخصياتهم على أنهم متفهّمون بدرجة ما، في كل مرة سوف تتشابه صفاتك مع أي برج، حتى أنك لو لم تكن تعرف شيئًا عن صفات برجك وحدث أن قرأت صفات كل الأبراج دون أن تعرف أي مجموعة من الصفات تنتمي لأي برج فستجد أنك تقع فيها جميعًا بدرجة ما، للسبب نفسه، الادعاء متسع للغاية، فيمكن له أن يتقبل كل المواقف.
سوف يقول التوقع صباحًا إذن «حب جديد اليوم»، هذا التنبؤ واسع للغاية يمكن أن يقبل كل إجابة ممكنة، كل فتاة تلتقيها صدفة أو عن قصد في هذا اليوم، لكن هل يستطيع المنجم أن يتوقع قائلًا إنك «اليوم، الأحد، سوف تلتقي فتاة روسية تدعى ميلينا في أثناء سفرك للعمل في الغردقة، وسوف تعجب بك وتعطيك ألف دولار؟» بالطبع لا، فهذا ادعاء محفوف بالعديد من المخاطر، ولذلك يمكن لنا تكذيبه حينما تجلس في الباص فتجد أن رفيق السفر هو عم صبحي من مكتب البريد، وداعًا ميلينا.
كارلسون، دين، ورجل السلمندر
في الحقيقة كانت تلك الفكرة هي مركز انطلاق الكثير من التجارب لفحص قدرات التنجيم، حيث إن فكرة التنجيم تعتمد في الأساس على ارتباط موضع النجوم والكواكب لحظة ميلادك تحديدًا بشخصك، هنا أسس «شون كارلسون Shawn Carlson»، الفيزيائي بمعمل لورنس باركلي للفيزياء سنة 1985، تجربة بسيطة وحاسمة وافقه عليها 28 منجمًا من ذوي الشأن، وخضعوا لها.
تقوم التجربة على فكرة دراسة 100 حالة بتحديد مواعيد ميلادهم بدقة ورسم الخريطة التنجيمية الخاصة بتموضع الشمس، والقمر، والكواكب، والكوكبات لحظة ميلاد كل منهم، ثم مقارنة ذلك بدراسة نفسية مفصلة لشخصيات هؤلاء الأفراد، ودعوة المنجمين إلى محاولة توفيق بين مجموعة الخرائط التنجيمية ومجموعة الشخصيات، فإذا اتفقت توفيقاتهم فالتنجيم على صواب.
كانت تجربة شون مزدوجة التعمية Double blinded، ويعني ذلك أن الخاضعين للاختبار، وكذلك منفذيه، لم يكونوا على علم بماهيته، نشرت الدراسة في الدورية الشهيرة نيتشر Nature في 5 ديسمبر/كانون الأول 1985 لتؤكد أن ادعاءات المنجمين لم تكن نتائجها في كل حال من الأحوال أكبر من نتائج الصدفة البحتة. لم يستطع المنجمون أن يوفقوا بين ملفات الاختبارات الشخصية وتواريخ الميلاد.
أما جيوفري دين Geoffrey Dean وإيفان كيللي Ivan Kelly في 2003 فقد قررا دفع هذا النوع من الاختبار لمستوى أعلى بالعمل على أكثر من مائة تقييم سلوكي، إدراكي، وجسدي، والخروج بنتائج تحليل تلوي (Meta-Analysis)، وهو تطبيق آليات إحصائية على نتائج عدة دراسات معًا قد تكون متفقة أو متعارضة من أجل تحديد ميل لتلك النتائج أو لإيجاد علاقات مشتركة بينها، لأكثر من 40 دراسة على عدد ضخم من الحالات، خلال 10 سنوات، بإجراء أكتر من 160 اختبارًا للحالات، لتصل في النهاية لنتائج واحدة تقول إن المنجمين لا يمكنهم بأي حال تقديم نتائج أكبر من نتيجة الصدفة الاعتيادية.
تجارب أخرى أجريت على التوائم الذين ولدوا خلال 5 دقائق فقط بين بعضهم البعض أكدت أنه لا علاقة بين ولادتهما معًا وشخصية كل منهما، بينما حاول متخصص علم الاجتماع الكمّي الإنجليزي ديفيد فاوس David Voas أن يبحث عن أي أثر لأهمية الأبراج في نتائج 20 مليون حالة زواج، سواء بالاتفاق أو التنافر، حسب ما تقوله كتب التنجيم وتتفق عليه، لكنه للأسف لم يصل إلى شيء، أنثى الأسد إذن لا تصلح للزواج من رجل العقرب، ولا حتى رجل السلمندر.
حتى حينما ادعى مايكل خواكيلين Michel Gauquelin النفساني والمنجم أنه، في دراسة قام بها، استطاع إيجاد رابط بين موضع كوكب المريخ ولحظة مولد مجموعة من الناجحين في عملهم من الأطباء والرياضيين والعلماء والكتاب والرسّامين والممثلين، فيما عرف بـ «تأثير المريخ Mars effect» قام مجموعة من العلماء الفرنسيين بمحاولات لتكرار تلك التجربة والحصول على النتائج نفسها لكن تلك المحاولات باءت بالفشل، وأرجع نجاح تجربة خواكيلين إلى تحيزه الذاتي أثناء إجراء التجارب.
«باءت بالفشل» إذن، تلك هي الجملة التي سوف تقابلها في كل المحاولات البحثية التي حاولت اللحاق بأي أثر ممكن لعالم التنجيم على حياتنا، لكن الأمر لا زال أعقد من ذلك، في المقال القادم سوف نستكمل حديثنا عن مجموعة أخرى غاية في الأهمية من أسباب كون التنجيم وهمًا كاملًا لا علاقة له بالصحة من قريب أو بعيد، يبدأ بعضها بالقول إنكِ إن كنتِ من برج القوس، فربما لستِ قوسًا أصلًا.
- Astrology Carlson
- Is Astrology Relevant to Consciousness and Psi?
- Astrologers fail to predict proof they are wrong
- Love not in the stars
- Gauquelin, Michel (1955). L'influence des astres : étude critique et expérimentale. Paris: Éditions du Dauphin
- The "Mars effect": a French test of over 1,000 sports champions. Amherst, NY: Prometheus Books