في عالم كان الكمال فيه أكثر مللاً ونمطية من أن يُتَّبع، تمرد البعض على كل النسب الذهبية وقواعد الجمال الصارمة لعصر النهضة، لنجد أنفسنا أمام نتاج فني فريد، انتقل بمقدمات عصر النهضة إلى نتائج جديدة لا تقل قيمةً أو إبداعاً، فأصبحت جسراً بين مثالية النهضة وجمود وتكلف الباروك.

المانيريزم

المانيريزم (الأسلوبية أو النهجية) كلها مرادفات لغوية لأسلوب من الفن الأوروبي ظهر في السنوات الأخيرة من عصر النهضة الإيطالية في حوالي عام 1520، واستمر حتى نهاية القرن السادس عشر في إيطاليا. ويرجع أصل المصطلح إلى الكلمة الإيطالية «مانييرا»، التي تعني «الطريقة أو الأسلوب»، نشأت الحركة في فلورنسا وروما، ولكنها انتشرت لاحقاً في إسبانيا ووسط أوروبا وشمالها.

يعتبر النقاد المانيريزم هو حلقة وصل بين تراث النهضة والباروك، ولكن كسائر كل ما هو جديد ومختلف كان مصطلح مانيرا مُهيناً لفترة طويلة ومرادفاً للتدهور والانحطاط والانهيار الملحوظ في قيم الفن، خاصة إذا قورن بمثالية القطع الفنية من أعمال الأساتذة السابقين.

مع نهاية عصر النهضة، وجد فنانو ما بعد رافاييل أن النتاج الفني قد وصل إلى أوج كماله، كل ما يمكن تحقيقه قد تحقق بالفعل، كل الصعوبات التقنية تم حلها، جميع التقنيات الأسلوبية تم تطبيقها، والمعرفة التفصيلية للتشريح والإضاءة، حتى الطريقة التي يُسجل بها البشر العاطفة والمشاعر جميعها وصلت إلى حد غير مسبوق. كل شيء في أعلى درجات المثالية.

وكرد فعل على المُثُل المتناغمة المترابطة لفناني النهضة؛ بدأ فنانو المانيريزم في اختيار أهداف جديدة أكثر مغالاة، ففي الوقت الذي اهتم فيه رافاييل وليوناردو دافنشي بالنسب والتوازن والجمال المثالي، نشد أتباع المانيريزم تكوينات أكثر شذوذاً وتكلفاً، غير متماثلة على أي نحو، ومصطنعة، وغير مطابقة للطبيعة، ولكن في نفس الوقت أنيقة بشكل ملحوظ، بجانب عدم الاستقرار التركيبي والوضوح. نجد في قطعهم الفنية أعمالاً أكثر دراميةً وتعقيداً بالإضافة إلى المزيد من التأثيرات العاطفية.

على الرغم من اختلاف أسلوب فنانو المانيريزم عن الأيديولوجيات الجمالية لعصر النهضة، فإن نواة أعمالهم الفنية هي مبادئ وقواعد فناني النهضة. يتجلى إبداع المانيريزم ليس في الشجب أو التمرد المفرغ من محتواه على قواعدهم، ربما التعبير الأكثر دقة هو أن فناني المانيريزم أخذوا على عاتقهم مسئولية صنع نتاج فني ذي صقل مبالغ فيه، وهو ما فتح الباب لاحقاً أمام الباروك ليتصدر المشهد الفني، بدلاً من تكرار كل ما هو مُتَّبع ومُصدق عليه.

على الصعيد التاريخي بدأت الاضطرابات الدينية في الوقت الذي كانت فيه الكنيسة الراعي لأغلب أعمال عصر النهضة، بل ما سبق من الأعمال، حيث احتفت بالفن ليكون أداة لتحقيق مصالحها وفرض سطوتها، وبالتالي مع الثورة على سلطتها أصبحت كل قيم المثالية الكلاسيكية لعصر النهضة غير مقبولة.

باختصار لم يعد الإنسان هو مركز الكون كما كان سابقاً، إذا كانت التجسيدات المثالية لعصر النهضة قد مجدت الإنسان كركن أوحد في كل أعمالها؛ فقد ظهرت الرغبة في التمرد عليها.

ولا يزال تعريف أسلوب العمل والمراحل داخله موضوع نقاش بين مؤرخي الفن، إلا أن الأعمال اشتركت في مجموعة من السمات الخاصة. فعلى سبيل المثال: تميزت أعمال فناني المانيريزم باستطالة الشكل الإنساني، ونسب تشريح الجسم غير المتطابقة مع الواقع، أطراف رشيقة ولكنها ممدودة بشكل كبير، ورءوس صغيرة، في حين أن أشكالها تبدو مفتعلة، كما نجد شخوصاً بأعداد مبالغ فيها منظومة في أوضاع حركية غريبة وغير مريحة على الإطلاق لزيادة الدرامية والتكلف.

استخدم فنانو المانيريزم تنويعات لونية مختلفة بعيدة عن البالتة المعتادة لفناني النهضة، نجد ألواناً كثيفة غير طبيعية ذات درجة تشبع عالية.

استخدموا خلفيات سوداء مسطحة أو خلفيات ضبابية لخلق مشهد مثير ولمضاعفة الشعور بالتكلف والخيال، الأمر مشابه لفضاء تسبح فيه عناصر اللوحة المكتظة وكأنها تتراقص أو تهيم في الفراغ، بالإضافة إلى استخدام تقنيات درامية في التعبير عن الظلام والضوء، وكانت بداية حقبة سيادة عنصر الضوء في عصر الباروك.

في الوقت الذي فضَّل فيه فنانو النهضة التكوين المستقر المتوازن (خاصة الهرمي)؛ أعطى فنانو الحركة الجديدة أهمية أكبر لتعقيد وتشويه الصورة والحس المفتعل الدرامي، فالعمل مضطرب التكوين، والشخوص موزعة بشكل متكتل، وعلاقة العناصر ببعضها البعض غير منطقية وتميل لكونها زخرفية على خلفية مجردة.

أما بالنسبة للمنظور؛ فقد رفضوا الالتزام بجميع تقنياته وخاصة المنظور الخطى السائد في أعمال عصر النهضة، حيث كان الالتفات إلى الخطاب العاطفي والمغالاة في التجسيد والتشويه الشديد للأجسام يجعل العمل مركباً للغاية لدرجة تصعِّب فك تشفيره.

تحليل لوحة «العذراء ذات الرقبة الطويلة» لبارميجانينو

لوحة «العذراء ذات الرقبة الطويلة» (1534-1540) للفنان الإيطالي «بارميجانينو».

من أكثر الأعمال جدلاً، والتي خضعت للعديد من التفسيرات وتناولها الكثير من نقاد الفن، العمل عبارة عن قراءة رمزية عميقة لأحد أشهر لوحات تيار المانيريزم الإيطالى «العذراء ذات الرقبة الطويلة».

المشهد الحكَّائي عبارة عن السيدة العذراء في رداء أبيض شفاف ووشاح أزرق تشغل أغلب مساحة العمل الفني، بصحبتها السيد المسيح (طفلاً) مرتكزاً على فخذها في وضع مرتخٍ بطريقة غريبة بعض الشيء، يقف بجانبهما حشد صغير مجتمع من المراقبين المتحمسين (الملائكة) في فضول كبير لرؤية الطفل في سباته العميق.

شخوص هذا العمل تتبع قواعد المانيريزم في التشريح الجسدي، فالعذراء مثلاً رأسها صغير للغاية مقارنة بباقي جسدها، بالإضافة الى عرض فخذَيها المبالغ فيه واستطالة أطرافها، وأصابع يديها المسحوبة، حتى الطفل نفسه بنيته الجسدية غير منطقية بالنسبة لكونه طفلاً حديث الولادة، أم نحن مخدوعون أن الطفل أكبر سناً بسبب جسده الممدود؟

قليلاً ما جسَّد الفنانون أنثى كمحور رئيسي في لوحة دينية خاصة لوحات العذراء، عادة ما كان يتم تمثيلها كونها فقط الحاضن للمسيح، كمكمل وداعم لدوره في العمل الفني، هنا الأمر مختلف تماماً، دورها في هذا العمل يميل لكونه رئيسياً وكأن العمل تمجيد إضافي لذاتها أكبر من دورها كحاضن له فقط، ودعم ذلك عدة إشارات من بينها تمثل المسيح فاقداً للحياة على قدمَيها.

اسم العمل هو «العذراء ذات الرقبة الطويلة»، أرادنا الفنان أن نرى بشكل خاص طول رقبتها، حيث قورن في الكثير من تراتيل العصور الوسطى بين رقبة العذراء وعمود عاجي إشارة لدورها في كنيسة الله.

الوضع الذي تجلس به العذراء غير مريح على الإطلاق، الرداء وطياته يخفيان طريقة ارتكازها على المقعد، ولكن ليس من الصعب رؤية الإرباك على أطرافها ووضع أقدامها، ربما في اضطرابها إشارة إلى إحساسها بفقدانه.

يسمى هذا الوضع الذي يرتكز به المسيح على قدمي العذراء باسم (Pietà – الرحمة) وهو وضع فني مشهور جُسِّد في العديد من الأعمال الفنية، اقتداءً بتمثال مايكل أنجلو Pietà. المثير في الأمر أن تجسيد المسيح بهذا الشكل كان فقط في لوحات ما بعد الصلب وليس طفولته.

الشخص في أسفل يمين العمل وجوده دخيل وغريب، فحجمه غير منطقي بالمرة حتى بالنسبة لمقياس المانيريزم المشوه، لكن لوجوده قيمة يجب ألا نغفل عنها، في واقع الأمر؛ الشخص هو القديس جيروم، حيث تم ذكره بشكل خاص لأنه أكثر القديسين اهتماماً بحياة العذراء، وأكثر من نادوا بتقديسها وتمجيدها، وهو دليل آخر على أن محور العمل هو كيان العذراء.

الملاك على اليسار يحمل في يديه مزهرية يقدمها إلى العذراء، ربما هي أحد تشبيهات العذراء لأنها تحمل الأزهار والطيب في داخلها، وهي إشارة لحمل العذراء المسيح، إذا دققنا النظر نجد أيضاً انعكاس الطفل في المزهرية عبارة عن صليب، وهي إشارة لمستقبل الطفل وطريقة موته.

عادةً ما يتم تمثيل العذراء في الأعمال الفنية بملامح مثقلة وحزينة، لأنها تعرف المصير الذي ينتظر وليدها، أما ملامحها في هذا العمل؛ فهي باسمة على استحياء، وربما هي إشارة أخرى إلى أن العمل لا يدور حول مصير المسيح.

إشارة العذراء إلى صدرها مكان قلبها هي دليل علاقتها بالمسيح الطفل، فولادته ومسار حياته وفقدانه اختبار صعب لقدرة قلبها على التحمل.

رداء العذراء باللون الأبيض وحجابها بالأزرق الزاهي كلاهما دليل على الطهر والعذرية، كما نلاحظ أيضاً أنه عادة ما يتم تجسيد العذراء بحجاب على رأسها، أمَّا عذراء هذا العمل رأسها مكشوف بل مزين أيضاً بإكليل من اللؤلؤ الذي يرمز بدوره إلى النقاء.

تكوين العمل غير متوازن، فإذا قسمنا العمل كقطع طولي؛ فسنجد أن أغلب شخوص العمل الفني وعناصره مرتكزة على اليسار كالملائكة والستار، أما على الجهة الأخرى؛ فنجد القديس جيروم وحده في أسفل اليمين بالإضافة إلى العمود الرخامي في خلفية العمل، بينما تتوسط العذراء والطفل مركز اللوحة.

لا يجذب التكوين الانتباه إلى نقطة محددة، لذا تضطرب العين أثناء النظر إلى العناصر، كما نلاحظ التباين في الملمس بين بشرة الشخوص، وطيات الملابس والطبيعة الرخامية للأعمدة.

لا يقف العمل عند التمرد على قوانين التكوين والمنظور، بل تمرد على قوانين الطبيعة والجاذبية؛ فالطفل من المفترض أن ينزلق أمام أقدامها، فلا شيء يدعم ارتكازه، فوضع رجليها مفرود لا يساعد على ثبوته، بالإضافة أيضاً إلى وجود أعمدة بهذا الطول متوازنة في البهو في خلفية اللوحة بلا بناء هندسي مترابط.

خلفية العمل ضبابية تميل إلى التجريد، تمثيل غير متسق للفضاء، سماء غائمة وأعمدة شاهقة تبدو وكأنها جزء من عمل هندسي غير مكتمل.

مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.