العنف الأسري ضد الأطفال: أرقام مرعبة وعواقب مخيفة
عاصفة حقيقية تجتاح مواقع التواصل الاجتماعي المصرية بعد انتشار مقطع فيديو لأم من مدينة أكتوبر المصرية تجبر طفلها على التسلل إلى المنزل بحركة بهلوانية خطيرة على حياته، وذلك لنسيانه مفتاح المنزل بالداخل.
الجميع يتحدثون عن ظاهرة العنف الأسرى ضد الأطفال، مئات المنشورات عبَّر فيها أصحابها عن صدمتهم لهذا الفيديو المروع، مقترنة بذكر العديد من القصص التي صادفوها في حياتهم الشخصية لأطفالٍ تعرضوا للإيذاء من طرف أهلهم. بعض تلك القصص مروَّع، وتقشعر منه الأبدان، إلى الحد الذي قد يجعل من الأم صاحبة الواقعة الأخيرة، بالمقارنة بمرتكبي تلك القصص، ملاكًا بجناحيْن أبيضيْن، أو رائدة من رواد الحماية الاجتماعية للأطفال.
لا يهمنا تحليل الواقعة نفسها، والخوض في تفاصيلها، أو محاولة إصدار حكم ما على الأم .. الخ، ما يهمنا هو ألا تمر العاصفة بعد عدة أيام، وينتهي الأمر، وننشغل بعاصفةٍ أخرى، قبل أن نؤكد الحقائق العلمية للأمر، ونضع أيدينا على مكامن المشكلة، ونبدأ بحلها، خصوصًا أن العنف الأسري ضد الأطفال ظاهرة بالغة الطغيان، ويكاد لا يوجد أحد منا، إلا وقد كان ضحيةً لها، أو مرتكبًا لها، أو كليهما، على اختلاف درجات كل هذا من شخص لآخر، ومن واقعة لأخرى.
أرقام مرعبة
تفزعنا منظمة الصحة العالمية بأرقامٍ شديدة الخطورة، انبثقت عن مئات الدراسات والإحصائيات، عن كارثة العنف ضد الأطفال عمومًا، والعنف الأسري خصوصًا. حوالي ربع البشر تعرضوا للعنف الجسدي بينما كانوا أطفالًا، وأن 1 من كل 5 من الإناث، و 1 من كل 13 من الذكور قد تعرضوا لدرجة ما من درجات الاعتداء الجنسي في سنيّ الطفولة.
في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، يتم تسجيل أكثر من مليون حالة عنف ضد الأطفال سنويًا، شطر كبير منها داخل المنزل. هذا العدد يمثل ما تمَّ التبليغ به وتسجيله لشدته ووطأته، وما خفيَ من هذا، وأشد منه، أو أقل، هو بالتأكيد أعظم، من بين هؤلاء المليون، على الأقل 300 ألف حالة تعرضت له بشكل متكرر لأكثر من مرة في العالم. بينما تصل بعض التقديرات لحوالي مليار حالة عنف ضد الأطفال في عام واحد حول العالم.
الأخطر من كل ما سبق من أرقام، أن غالبية تلك البيانات تعبر عن البلاد الأكثر تقدمًا، والتي تمتلك أولًا اعترافًا حقيقيًا بوجود المشكلة، وعدم التهرب من إظهار حجمها، وبالتالي ترعى منظومات وآليات فعَّالة لتوثيقها، وتحليلها اجتماعيًا وبيئيًا وثقافيًا وإحصائيًا .. الخ، أما عن بلادنا وغيرها من البلاد الأقل تقدمًا، فحدِّث ولا حرج عن وفرة من العوامل المؤدية لحدوث تلك الظاهرة، وكذلك غياب الشفافية، وعدم وجود آليات مؤسسية حقيقية – باستثناء بعض الجهود الفردية، والأنشطة الخيرية – لتحديد حجم المشكلة، وعلاج جذورها، والتعامل مع مضاعفاتها.
نتائج بعض الدراسات[1] التي أجريت في بلاد نامية، مرعبة. في أكثر بلاد القارة السمراء سكانًا، نيجيريا، أكثر من نصف الأطفال يتعرضون للعنف، وكذلك في تنزانيا، بينما النسبة أكبر قليلًا في كينيا. أما في زيمبابوي، فالنسبة وصلت لحوالي ثلاثة أرباع الأطفال.
هرم العنف ضد الأطفال
سنتخيل العنف ضد الأطفال[1] على شكل هرمي. كلما صعدنا لأعلى، فهناك الدرجات الأشد عنفًا وكارثيةً، ولحسن الحظ هي الأقل في معدلات حدوثها، مثل الاغتصاب الجنسي، أو الإيذاء الجسدي الجسيم والتعذيب، الذي قد يسبب الوفاة، أو إصابات خطيرة على الصحة الجسدية أو النفسية … الخ. أما بالنزول إلى الأسفل، فسنجد الظواهر التي وإن كانت أقل كارثية، فهي أوسع انتشارًا، والأخطر .. أكثر تكرارًا، والجبال من الحصى كما يقول المثل العربي.
بعض تلك الممارسات التي تحتل قاعدة الهرم يزيد من خطورتها استسهال أكثرية الناس في ارتكابها، وغفلتهم عن اعتبار بعضها من أشكال العنف ضد الأطفال، وبالتالي تتم ممارستها بشكل اعتيادي، ، دونما مثقال ذرة من تأنيب الضمير، أو التعاطف مع الضحية.
من أمثلة هذا توجيه السباب أو الإهانة الطفل، أو ضربه بشكل غير مؤذٍ بجروحٍ أو إصابات ظاهرة، لكنه بالتأكيد مؤلم، نزولًا إلى مجرد عدم الاكتراث بإقناعه بقرار عائلي صغير، وعدم إظهار الاهتمام برأيه الشخصي، أو حتى عدم الالتفات إليه عندما يتحدث، أو حتى مجرد السماح بحدوث المشاحنات بين الوالديْن بمحضرٍ من أطفالهم، وما يسببه هذا من تعرض الأطفال للقلق والتوتر، أو الضغط النفسي المتواصل على الطفل بالمقارنة المستمرة بينه وبين نظرائه في الأداء الدراسي أو القدرات، وما يسببه هذا من إحباط مستمر للطفل، وإشعاره بالنقص والضَّعَة.
بتطبيق النموذج السابق، سنجد الغالبية العظمى منا وإن كنا بعيدين عن المستويات العليا من الجريمة، عالقين بشكلٍ أو بآخر في الطبقات الأدنى من الهرم.
ماذا يفعل العنف الأسري في الأطفال؟
هناك أكثر من 41 ألف حالة[1] وفاة لأطفال نتيجة العنف سنويًا، وبالطبع أضعاف هذا لا يتم حسابه، حيث يتم تسجيله تحت مسببات أخرى. بينما يعاني عشرات الآلاف من إصابات جسدية ونفسية جسيمة، ومزمنة. كذلك هناك قائمة كبيرة من الأمراض العضوية التي يزيد العنف الأسرى احتمالات حدوثها للطفل آنيًا، أو على المدى الطويل، وتشمل أوزانًا ثقيلة مثل الضغط والسكر والإيدز وأمراض شرايين القلب، وجلطات المخ، والسمنة، وبعض السرطانات، وأمراض الرئة المزمنة.
أما على مستوى الأمراض النفسية، فالاكتئاب والقلق واضطرابات ما بعد الصدمة تتصدر القائمة، ويصل شدتها في بعض الحالات إلى محاولاتٍ للانتحار. من أصعب جوانب العنف الأسري ضد الأطفال، أن مرتكبه غالبًا ما يكون الشخص الذي كان منوطًا به الدور الأكبر في إحاطة الطفل بكل خطوط الدفاع الاجتماعية، والنفسية، والفكرية، والثقافية، والعملية ضدها، وأيضًا تكون الضحية أكثر خوفًا من التبليغ بالوقائع، خوفًا من العقوبة.
تتباين الآثار قريبة وبعيدة المدى بشدة، حسب مقدار ما يتعرض له الطفل من عنف، وامتداده الزماني، والعمر الذي بدأ فيه مثل هذا العنف، ووجود أو عدم وجود معارف أو أقرباء يوفرون له الدعم، وقدر من الحماية، وبالطبع حسب اختلافات وراثية ومكتسبة في طبيعة الطفل وبنيته العاطفية والنفسية.
عمومًا، فهناك تغيرات نفسية وعاطفية حادة تظهر على الطفل المتعرض للعنف داخل أسرته. تبدأ التغيرات بالوقوع فريسة للتوتر النفسي، وفقدان الثقة في النفس، وجلد الذات، والاكتئاب، وتنتهي بالميول العدوانية، وكراهية الآخرين، وممارسة العنف ضدهم. يتأثر المستوى الدراسي والإنتاجي بالسلب في أي مرحلة من مراحل التعليم، وعلى أي مستوى من مستويات الفعالية. قد يتعرض الطفل لاضطرابات في النوم بالزيادة أو النقصان، وكذلك اضطرابات في الطعام قد تؤدي إلى السمنة المفرطة، أو النحافة الشديدة، خاصة إذا صاحب العنف الأسرى، إهمال متواصل.
تبدأ على الطفل أيضًا أعراض الانسحاب الاجتماعي، ويعجز عن تكوين الصداقات والعلاقات بثقة وبنديَّة. قد يحاول القيام ببعض الممارسات الخطيرة كمحاولة لإثبات الذات، واكتساب الثقة، مثل قيادة السيارة بشكل متهور، أو ممارسة الرياضات العنيفة دون تحفظ، أو الخوض في عالم الإدمان، ابتداءً من السجائر، وليس انتهاءً بالكحوليات والمخدرات شديدة التأثير، وكذلك الممارسات المرفوضة أسريًا ومجتمعيًا.
قد تصل وطأة الأمر إلى فقدان الطفل بعض مكتسبات النمو الطبيعي، كأن يفقد القدرة على التحكم في البول أو البراز بعد أن أتقنها، أو أن ينسى بعض المهارات الدراسية وغير الدراسية التي كان قد اكتسبها.
كذلك، فالمادة الخام الأبرز لمرتكبي العنف الأسري ضد الأطفال، تكون من ضحايا سابقين تعرَّضوا لمختلف درجات تلك الظاهرة في طفولتهم. بل نجد البعض من هؤلاء وقد أصبح مثل هذا العنف جزءًا من أفكارهم، وشخصيتهم، ونظراتهم للحياة، فنسمع منهم جملًا من قبيل .. (هذه هي التربية الصحيحة كما فعل معنا آباؤنا) … (لقد تعرَّضنا لمثل هذا وأشد من آبائنا، وها نحن الآن جيدون، ونواصل حياتنا).
أما تعرض الطفل للاعتداء الجنسي، فله علامات خاصة، بجانب الانعكاسات العاطفية والنفسية المذكورة سابقًا. من أهم تلك العلامات، إصابة الطفل بمرض من الأمراض المعروفة أنها تُنقل جنسيًا، أو تعرضه لجروح وكدمات في الفم أو المؤخرة .. الخ، أو اضطرابات مفاجئة في التبول أو التبرز أو المشي، أو آثار دماء أو إفرازات غريبة في الملابس الداخلية للطفل.
والحل؟
إن كان الحديث عن القضاء المُبرَم، والتام، على تلك القضية هو محض خيال بعيد المنال، فلا أقل من كسر شدتها، وتقليل مضاعفاتها، ومحاولة تجنيب أعدادٍ أكبر من الوقوع في الدرجات الأشد خطورة منها.
مثلًا تقدم منظمة الصحة العالمية،استراتيجية من 7 نقاط للتعامل مع قضية العنف ضد الأطفال[2]. المشكلة الرئيسة في هذه الاستراتيجية، رغم شدة تنظيمها، وقوة الأدلة العلمية المرتكزة عليها، أنها تحتاج إلى تضافر جهود كثيفة ومنظَّمة على مستويات أكبر بكثير من الأعمال الفردية، وعلى فتراتٍ طويلة المدى، قد تستغرق أعمارًا وسنوات.
الاستراتيجية الأولى هي سن القوانين المجرِّمة لذلك العمل، وضمان تنفيذها بحزم وفعالية، ودون تهاون، حتى على المستوى الأسري. وتوفير سلطات وهيئات معنية باستقبال بلاغات العنف ضد الأطفال، والتعامل الجدي معها.
كذلك توفير برامج ومنظمات لتوعية الأطفال بمختلف أشكال العنف الظاهرة والخفية، وتقديم الدعم للضحايا منهم.. يتزامن مع هذا جهود طويلة المدى لتغيير الأفكار، والمعتقدات الشخصية المتصالحة مع العنف الجسدي والنفسي ضد الأطفال، وتعزيز الرفض لهذه الظاهرة في البنية الدينية والنفسية والفكرية للجميع، وضرورة جعل المنزل والمدرسة وغيرها .. من البيئات الآمنة من العنف ضد الأطفال.
تركز الاستراتيجية أيضًا على تحسين الظروف الاقتصادية العامة، حيث إن الضغوط التي يسببها الفقر، وانتشار الحاجة، من الأسباب غير المباشرة لتفاقم ظاهرة العنف ضد الأطفال، وعدم توافر الفائض النفسي والوقتي لدى الوالديْن الكادحيْن للاهتمام بأطفالهم، وتطبيق مفاهيم التربية الإيجابية بحقهم.
بالنسبة إلينا كأفراد، وفي غياب مثل تلك الجهود الجمعية المنظَّمة، فعلينا اعتبار السلامة الجسدية والنفسية لأطفالنا، والمحيطين بنا من الأولويات. كذلك ليس من العسير علينا الاشتراك في دورات للتربية الإيجابية للأطفال، سواءً على أرض الواقع، أو عبر المنصات التعليمية على الإنترنت. أيضًا لابد من تخفيف الضغوط النفسية على أنفسنا، والتوازن بين نصيب العمل، والحق الواجب للأسرة من أوقاتنا وجهودنا، وذلك لتوفير فائض نفسيٍ وبدني لتربية أطفالنا، والتفاعل معهم بإيجابية، والتواصل الفكري والنفسي معهم، فلا تُلجئنا الضغوط الحياتية لسوء التصرف مع أطفالنا، وإهمال حقوقهم الواجبة.
كذلك لابد من التصرف بإيجابية في حالة ملاحظة أعراض ترجح التعرض للعنف على بعض الأطفال في دوائر معرفتنا، أو مشاهدة واقعة اعتداء على أحد الأطفال.