فينس جيليجان: رجل الواقع بعيون الديستوبيا
في كل مرة قرر فيها فينس جيليجان أن يقدم قصة جديدة داخل دائرة القصص التي يرسمها كلوحة متكاملة الأركان، كان محبوه يدركون أن ثمة أمراً جديداً سيخرج هذه المرة، بملامح متكررة وثابتة، ربما يمكن من السهل إدراكها، القليل من الموسيقى المحيطة، الكثير من الصور التي تحكي قصة ما، وكم لا بأس به من الحوارات الممتعة.
وبتجاهل كل القصص التي كان فينس طرفاً جانبياً لا يمكن رؤيته، ومحاولة التعمق في كل القصص التي كان فينيس فيها هو الطرف الأول، فنحن مقبلون على لوحة جديرة بالنظر عن قرب.
*ملاحظة: يحتوي المقال بعض الحرق للأحداث، بغرض تحليل دراما فينيس بصورة واضحة عن قرب.
7 حلقات كانت كافية
قدم فينيس فكرة عمله Breaking Bad لأول مرة لشبكة HBO لإنتاجها، وقد حظي حينها كما قال لاحقاً، بأسوأ مقابلة عمل في حياته، كبداية سوداوية كما يجب أن تكون السوداوية الممثلة لمسار فينس، فقد تعاملت الشبكة مع العمل بازدراء شديد ولم تكن تلك النهاية، فقد رفضت جميع الشبكات الشهيرة حينها العمل على القصة مثل FX وشبكة TNT وبدا الأمر كما لو أن القصة سيكون مصيرها في النهاية حاويات القمامة.
وكما يحدث في متون القصص الدرامية قدم فينيس القصة لشبكة AMC المحلية الأمريكية، والتي لم تكن بالنسبة له مكافئاً للطموح الذي تقدمه الشبكات الشهيرة، وكانت النتيجة هي قبول شبكة الإذاعة والتلفزيون المحلية الأمريكية وإنتاجها، 7 حلقات كانت كافية لتخطف القصة أنظار الجميع، ويصدر القرار بتجديد القصة لموسم ثانٍ.
الكثير من الأمور كانت يجب أن تنقلب رأساً على عقب، هل تخيلت أن تشاهد القصة وقد قام شخص آخر بدلاً من براين كرانستون بدور والتر وايت؟ إليك المفاجأة كان ماتيو برودريك هو الأكثر ترشيحاً من قبل الشبكة لشغل الدور، لكن فينيس صمم على براين وعرض على الشركة حلقة كانا قد نفذاها معاً في المسلسل الشهير The X-Files مما جعل الشبكة تقتنع، أما عن جيسي بينكمان فكان من المقرر أن يموت وينتهي دوره بنهاية الحلقة الأخيرة من الموسم الأول، لكن فينيس كانت له رؤية أخرى، ومنذ أن اتُّخذ قرار إنتاج الموسم الثاني تغير كل شيء.
الصورة في دراما فينيس
عبر مجموعة متتالية من الأعمال الدرامية، قدم فينيس نمطاً فريداً في تصوير الشخصيات وخروج المشهد برمزية واضحة قد لا تلحظها العيان طوال الوقت، وذلك من خلال تكوينات معينة داخل الكادر؛ ولأن ذلك تركز بصورة أكبر في مسلسل Breaking Bad ومسلسل Better Call Saul فسيكون من الجيد ملاحظتها عبر مجموعة من اللقطات.
الحلقة الخامسة من الموسم الثالث، وفي لحظة الوصول إلى شدة النزاع بين والتر وزوجته، كان لا بد من أن يكون جونيور الابن في صف ما، في حالة من حالات الاختيار، فلم يجد فينيس لقطة أفضل من لقطة طاولة الطعام، تلك التي صنفت سكايلر وابنها في جانب، يفصل بينهما حائط مظلم وبين والتر، ليخبرنا فينيس أن ابنه والتر الصغير في تلك اللحظة كان في ذلك الجانب، ومن المحتمل إذا قررت الاستمرار أن تكتشف أن الأمر قد يستمر ذلك.
وقد استمرت اللعبة، لعبة التلاعب بالصور التي أصر فينيس أن يضع من خلالها رمزية غامضة للحكاية، لما قد يعتمل في نفوس أبطال الحكاية، وقد فعل ذلك ثانية وبصورة مقربة في الموسم الخامس، وفي تلك اللحظة التي كان فيها والت وحيداً ضائعاً وسكايلر على الجانب الآخر كما اعتادت طوال القصة، أن تتركه وحيداً بعد كل كارثة.
كما أن رمزية الصورة في كثير من الأحيان لم تكن تعني فقط بالمنظور المرئي، بل شملت في كثير من الأحيان المنظور النفسي، وقد بدأ ذلك بوضوح منذ الفصل الثاني، حيث استقر العمل وبدأ فينيس في التحرك نحو البناء الأطول.
بدأت صورة الدمية ذات العين الواحدة تطاردنا أكثر من مرة في بداية كل حلقة من الموسم الثاني، لكننا ولوقت طويل لم نفهم سبب وجود الدمية وكيف يمكن أن تكون العين الواحدة لتلك الدمية ذات معنى، لكننا وبعدها بموسم رأينا إصابة جيسي بينكمان ونرى وجهه بعين واحدة، ثم وفي نهاية القصة نشهد حدثاً جللاً تنتهي عنده خطوط الصراع بنفس رمزية العين الواحدة.
وقد كانت الدمية في ذلك كله هي اقتراف والتر وللمرة الأولى جريمة بحق بريء بصورة متعمدة، حينما قتل حبيبة جيسي، لو ساعدتك الذاكرة فقد عثرت سكايلر على تلك العين بمحض الصدفة في الموسم الرابع، وقد تزامن ذلك مع بداية دخول سكايلر في عالم الجريمة مع والت، لقد قرر فينيس أن العين هي رمزية الذنب ورؤيته لبقية القصة.
لم يتوقف فينيس طوال الوقت عن لعبة الصورة الرمزية، تلك اللقطة التي ربما تحكي الكثير، وقد فعلها كذلك في مسلسل Better call saul والمشاهد المظلمة التي لطالما زينت المشهد، الكثير من الظلام المحيط وفي منتصفه توجد الشخصيات بكل أحداثها وحديثها، ذلك عوضاً عن اللقطات التي كانت مظلمة بالكامل، كما كان الحال في افتتاحية الموسم الثاني من المسلسل، بلقطة لن ولم نعرف زمانها ومكانها، وقد علق جيمي خلف باب دون مقبض، لا يمكنه الخروج منه وعلى الناحية الأخرى فإن المخرج الوحيد قد يؤدي إلى كارثة ما، والظلام هو ما يغلف الصورة.
لكن فينيس لم يكتفِ بعنصر الصورة في قصصه ليحكي الحكاية، بل اعتمد الكثير من الأوراق الرابحة.
البناء القصصي والذاكرة
تميزت القصص التي يقدمها فينيس في كل قصة من بنائه بمسار سوداوي واضح، لكنه لا ينتمي إلى فئة الديستوبيا، فالديستوبيا وإن كانت في مضمونها تحمل الكثير من الواقعية لكنها تقوم على شطر كبير من الخيال والمبالغة، لكن البناء القصصي عند فينيس وإن كان يعتمد على السوداوية فهو يعتمد السوداوية الواقعية التي تخبرك طوال الوقت أن ما تراه ما هو إلا قصة حقيقية، يمكن أن تدور في المنزل المجاور لك، أو حتى في منزلك دون أن تدري.
الهزيمة دائماً هي رفيق الرحلة، فوالتر وايت بكل ما كان يمتلك من ذكاء وحكمة كان أكثر المنهزمين في بنيان القصة، هُزم من زوجته التي لم تقنع منذ البداية بعمله وبقدرته على توفير الحياة التي ترغب فيها، هزم من رؤسائه في العمل، وهزم من رفاق رحلة تعليمه وحلمه الأول.
أما عن سوداوية الهزيمة في Better call saul، فكانت أكثر قتامة حتى إنها قد تصيبك بالقهر والغضب، وتدفعك للتساؤل عن ذلك الصمت المهيب الذي يحيط بتلك الأجواء المعتمة، لماذا لا يصرخ أحدهم. كانت تلك هي الهزيمة من وجهة نظر فينيس في تلك القصص، فقبل أن يتلقى المحامي جيمي الكثير من الهزائم التي لا تنتهي في Better call saul تلقاها والتر كذلك من زوجته مرة ومن رفاقه مرة ومن ابنه مرة، وكذلك توالياً.
لكن فلسفة فينيس مريبة في ذلك الشأن فحتى الهزائم والخروج منها والاستمرار في الطريق، يشعرك وكأنك داخل دائرة مغلقة، وكل ما تفعله في الحقيقة هو أنك تدور بين أطرافها، لكنك في النهاية قد تفقد حياتك دون أن تعرف أنك كنت داخل دائرة وأن كل أفكارك عن الخروج منها قد تكون مجرد أحلام يقظة لا أكثر.
يراهن جيلجان دائماً على الذاكرة فتفصيلة صغيرة في فيلم Elcamino قد لا تتذكر أنها كانت افتتاحية الحلقة السادسة من الموسم الثاني من المسلسل، اندماجك في الأحداث قد ينسيك أن الدمية التي ظلت تطارد بداية الحلقات لوقت طويل ما هي إلا دمية الطفلة التي قتلت في حادث الطائرة الذي وقع بسبب موت حبيبة جيسي، والذي كان السبب الرئيسي فيه بالأساس هو والتر، وللمصادفة تسقط الدمية وبعض من أشلاء الطائرة في مسبح بيته، بل قد يفاجئك بنطال والتر الذي خلعه في أول حلقة من المسلسل في مراحل ما قبل النهاية بقليل في نفس المكان.
تلك واحدة من النجاحات التي استطاع أن يوظفها فينيس في عالمه الممتد عبر أكثر من قصة، كل التفاصيل مرتبطة ببعضها البعض، القصص في مختلف أعماله تتصل بحبل خفي يحتاج لبعض التدقيق حتى تستطيع رؤيته، على عكس الكثير من صناع الدراما، ممن تفوتهم التفاصيل والأحداث.
توظيف الشخصيات والانفجارات الدرامية
في كل المسارات الدرامية وعلى اختلاف تصنيفاتها لا بد من نقطة مواجهة درامية، نقطة انفجار يتلاقى فيها خصوم القصة، وبقدر ما كان حجم الهزيمة وحجم القهر الذي يعانيه الأبطال بقدر ما يكون حجم الانتقام قوياً ومزلزلاً.
جاس فرينج كمثال لذلك النوع من الانفجارات في Breaking Bad كان جزءاً من قصتين كلاهما شهدا ذلك الانفجار، أوله حينما انفجر هو في وجه من قتل رفيق رحلته، وثانيها حينما سقط هو قتيلاً على يد والت والكارتيل.
جوناثان بانكس صاحب شخصية مايك أيهرمنتروات، تلك العلامة الصامتة الهادئة التي استطاعت أن تحوز بصمة لا يمكن إغفالها، عنصر في القصة لا تستطيع أن تنتزعه منها، واستمرت بصمته العبقرية في Better call saul كذلك، وعلى الرغم من أن جوناثان قام بعشرات الأدوار السينمائية والدرامية في ألمانيا والولايات المتحدة بحكم جنسيته المزدوجة، إلا أنك ستراه في المسلسلين كما لم تره من قبل.
ربما لم ينجح فيلم Elcamino في أن يحقق التوقعات التي علقها الكثيرون عليه على غرار المسلسل، حتى إن أبطال العمل لم يهتموا بإنقاص وزنهم أو محاولة العودة للصورة التي كانوا عليها في وقت أحداث المسلسل، لكن لمسة القصة العبقرية التي يمتلكها فينيس كالمعتاد كانت واضحة بقوة، والجميل في ذلك أن لمسة فينيس لم تنتهِ بعد، فالموسم الخامس من مسلسل المحامي الشهير Better call saul قادم في العام القادم 2020 أي أن القصة لما تنتهِ بعد.
يمكننا في نهاية تلك الرحلة القول إن عالم فينيس جيلجان بكل ما يحويه من دراما ورمزية عبقرية، سيظل حاضراً لوقت طويل، حتى إذا ذكر أحدهم اسم نيو مكسيكو ذات مرة، فقد يتذكر سامعها أمراً ما.