فقراء أوي أم منهوبون أوي.. نظرة في المؤشرات الدولية
التملّص من المسئولية
كعمدة قرية أو شيخ قبيلة أو ربما كمشير سابق، يخاطبنا الرئيس السيسي كما لو كنا عبيد أفضاله أو صبيان بورشته، فيعايرينا بأننا «فقرا أوي» وأن مصر «شبه دولة»، حتى لا يحاسبه أحد ولا نطالب نظامه بأساسيات حياتنا التي باتت لا تتجاوز كثيراً أساسيات حياة الحيوان، والمثير للسخرية أن يأتي هذا بعد وعوده التي طاولت عنان السماء يوماً، والتي لسنا بحاجة للتذكير بها اليوم.
ويبدو أن الرئيس لم يقرأ يوماً كتاب اقتصاد حتى من المستوى الصحفي، فكل أحاديثه ورؤيته تتمحور حول المشكلات المالية للحكومة لا المشكلات الاقتصادية للشعب، مُتبنياً بشكل لا واعي رؤيةً كلاسيكيةً بدائية تجاوزها الزمن تظن مشكلة البلدان النامية مشكلة موارد تتجسد في قصور رأس المال، وهى رؤية كانت أساساً ضمن نظريات التنمية الرأسمالية الهادفة لتكريس الهيمنة الغربية من خلال رهن تنمية تلك البلدان لرأس المال الغربي ولقروضه التي ستأتي مشكورةً لسد الفجوة التمويلية، بعد أن نهيئ لها مناخ الاستثمار أو السرقة ونقترض منها بشروط مُجحفة غالباً، وهو ما تسير عليه مصر السيسي بالمسطرة منذ ثلاثة أعوام حتى كادت ديونها الخارجية تتضاعف!
والحقيقة أن إحدى البداهات المفروغ منها اليوم هي أن مشكلة الاقتصاد ليست الموارد بأي حال، بل كفاءة تخصيصها واستخدامها، ونادراً ما توجد دولة لا تمتلك وفرة من أحد عوامل الإنتاج مع ظروف ملائمة لتحويل بعضها إلى بعض، وتحديداً تحويل الموارد الطبيعية والعمل إلى رأسمال، ومصر هذه التي يدعون فقرها حولت جزءاً معتبراً من قوة عملها – بتكلفة لا يُستهان بها لكن لهذا قصة أخرى – إلى رأسمال، حتى أن تحويلات العاملين بالخارج بلغت في بعض الفترات أربعة أضعاف صادراتها السلعية، كما كانت إحدى أكثر دول العالم استفادةً من المعونات والقروض خلال السبعينات والثمانينات، ووصل الأمر بالبعض لاعتبار مصر مصابة بالمرض الهولندي كما لو كانت بلداً نفطياً بسبب هذا النوع من الفوائض المالية «الجيوبوليتيكية»، أي التي تحوز جانبا مهما منها لأهميتها السياسية ولاعتبارات إقليمية وعالمية غير اقتصادية بالأساس.
فمصر إذن لا تعاني أزمة قصور في الموارد القابلة للتحويل إلى رأسمال، بل قصورًا في آليات ذلك التحويل نفسه، مما قد يكون بالأساس نتاج نمط الإنتاج والتوزيع أو الفساد وسوء الإدارة أو هما معاً.
فقراء أم منهوبون؟
المهم أنه لمناقشة قول الرئيس بأننا «فقرا أوي»، فإننا لن نجادله في المبدأ وهو أن «على قد لحافك مدّ رجليك»، بمعنى أننا لن نطلب منه أن نعيش بمستوى رفاهية أعلى مما يتيحه مستوى دخلنا، ولتحقيق هذا سننظر للمؤشرات الدولية ونقارن بخلق الله ونتحاسب، فمن نجاوزهم دخلاً يُفترض أن نعيش أفضل منهم، ومن يجاوزوننا دخلاً بارك الله لهم ولا يكلّف الله السيسي إلا وسعه!
أما في حالة وجود فروق غير منطقية بين المستويين، فالأمر لا يخرج عن حالين:
أولهما: أننا فقراء طماعون نعيش بمستوى رفاهية أعلى من مستوى دخلنا، أي أننا نبدد مدخراتنا ونعيش على السلف، فنقترض من الماضي والمستقبل.
ثانيهما : أننا منهوبون نعيش بمستوى رفاهية أقل مما يتيحه لنا مستوى دخلنا، أي أننا ندخر أكثر من اللازم أو نعاني فساداً يسرقنا ويهدر مواردنا أو توزيع الدخل بيننا ظالم لدرجة خفض مستوى الرفاهية العام عما يُفترض أن يكون عليه.
وهكذا فالمعادلة بتبسيط شديد (ولنسمّها معادلة الدخل – الرفاهية):
وبالنظر في تقرير التنمية البشرية لعام 2015م (الذي يحوي بيانات عام 2014م)، نجد أن نصيب الفرد في الدخل القومي الإجمالي المصري بتعادل القوى الشرائية أعلى من متوسطه العام للدول النامية عموماً بأكثر من 15 %، فيما لا يزيد مؤشر التنمية البشرية لمصر على متوسطه العام لتلك الدول سوى بحوالي 4 %؛ مما يعني فارقاً بين مستوى الدخل ومستوى الرفاهية التي ليست على مستواه، أي أننا نعيش بمستوى رفاهية أقل مما يتيحه مستوى دخلنا؛ وبما يتطلب تفسيراً نجده ببحث عناصر الشطر الثاني من المعادلة.
فإذا نظرنا للادخار هل يُحتمل أن يكون أعلى مما يجب بما يسبب هذا الفارق بين مستوى الدخل ومستوى الرفاهية في الأجل القصير، فسنجد أن متوسط الادخار المصري خلال الفترة (2011 – 2015) كمثال قد بلغ 13 % من الناتج المحلي الإجمالي، بينما بلغ لمجموعة الدول ذات الدخل المتوسط المنخفض لنفس الفترة 31.8 % من الناتج ، ولمجموعة الدول ذات الدخل المتوسط حوالي 32 % من الناتج؛ مما يعني أن الادخار في مصر ليس زائداً بأي حال من الأحوال وليس له تأثير سلبي على مستوى المعيشة، بل إنه منخفض أكثر من اللازم بشكل يؤثر سلباً على مستوى المعيشة من جهة ضعف التكوين الرأسمالي في الأجلين المتوسط والطويل.
فإذا انتقلنا للباب التالي للفجوة بين مستوى الدخل ومستوى الرفاهية وهو الإهدار بالفساد، وهو ما لا يمكن حسابه بشكل كامل، كونه يشمل إهداراً مباشراً بالسرقة وإهدار الموارد وإهدارًا غير مباشر بتأثيراته السلبية على تخصيص الموارد من جهة وعلى المناخ الاقتصادي والاجتماعي بما يفسد الحوافز ويشوّه الآليات من جهة أخرى، فسنجد بتتبع المؤشرات المتاحة لنا حقيقة استفحاله بما لا يخالف الانطباع الشعبي العام، وهكذا نجد أن مؤشر مدركات الفساد لمصر لعام 2016م يبلغ 34 من 100، بما يضعها في الترتيب 108 من إجمالي 176 دولة، أي في الثلث الأكثر فساداً من دول العالم.
ويبقى الباب الثالث، للفجوة المذكورة وهو سوء توزيع الدخل، والذي تؤكد مؤشراته أيضاً الانطباع الشعبي السائد عن سيادة الظلم الاجتماعي والاختلال الشديد في توزيع الدخول في مصر، حيث يبلغ نصيب الخمس الأعلى من السكان من الدخل أكثر من 40 % منه عام 2008م، بينما يبلغ نصيب الخمس الأدنى منهم 9.25 % منه، وباللجوء لمعامل جيني لنفس السنة 2008م نجده منخفضاً بقيمة 30.75 بما قد يوحي بوضعية عدالة عالية، وهو ما انتقدته دراسة حديثة ناقشت طبيعة البيانات التي يتكون منها المؤشر في البلدان المتخلفة ومنها مصر، فأكدت على ضعف دلالة استبيانات الدخل والانفاق العائلي وغياب الإقرارات الضريبية الضرورية.
وكيف تتضمن حسابات المعامل بهذا الشكل انحيازات لأسفل بشكل يخفّض قيمة المعامل ويحسّن صورته، وأضافت تلك الدراسة جانباً من الإنفاق العقاري كأحد مؤشرات التباين في الدخول الغائبة عن الحساب؛ لتقفز بمعامل جيني من 36 إلى 47 لسنة 2009م، وهو ما يؤكد وضعية عدم العدالة وضعف مصداقية التقديرات المنخفضة للمعامل، لكن لتفاصيل هذا موضع مناقشة آخر .
وفي النهاية لم تثبت هذه المقالة – خصوصاً بقياساتها الاستدلالية التقريبية غير الحسابية وبتجاهلها لبعض المتغيرات الأخرى الأقل أهمية ولتبسيط العرض – سوى ما يعرفه كل شخص في مصر بمجرد الانطباع العابر بمشاهدة الإعلانات والتسكع في الشوارع والتجول بين صفحات المواقع والشبكات الاجتماعية، الفساد وسوء توزيع الدخل هما ما يعظّمان بؤسنا ويفاقمان فقرنا، وبما يؤكد بداهة أن الفقر ليس قدراً، بل هو نتاج أنماط اقتصادية وتنظيمات اجتماعية وممارسات سياسية، لكنه كان ضرورياً مناقشة هذا الخطاب البائس بالمؤشرات للرد على سلطة تتصور في شعبها الغباء وتستمتع بتمييع الحقائق في فجوات الإنشاء.
- مؤشرات التنمية الدولية ، موقع البنك الدولي .
- Transparency International – Egypt
- Egypt – Income distribution
- Is Inequality Underestimated in Egypt?.. Evidence from House Prices