حول «آية التعدد» في القرآن الكريم
مما يخفى على أفهام بعض القراء دلالةُ الأمر في قوله تعالى «فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» (سورة النساء: آية 3)، وأشد خفاءً منه مناسبةُ هذا الأمر لما قبله وبعده من آيات سورة النساء؛ إذ يبدو للمتعجل أن سياق الآيات الأولى من السورة يتحدث عن ثلاث جهات منفكَّة هي (النساء، واليتامى، والنكاح)! والحق أنها جهات متعانقة لقضية واحدة، قضية (نكاح يتامى النساء) واتخاذ نكاحهن مطيَّة لأكل أموالهن ظلمًا وعدوانًا، وهذا التخصيص (يتامى النساء) مُستفَاد من قوله تعالى في الآية السابعة والعشرين بعد المائة من السورة نفسها: «وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ ۖ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَن تَقُومُوا لِلْيَتَامَىٰ بِالْقِسْطِ ۚ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا» (سورة النساء: آية 127).
إن السورة سورة النساء، وقضيتها الكبرى قضية المرأة، والمرأة ضعيفة خِلقةً، فإذا كانت يتيمة فقد جمعت إلى ضعفها ضعف اليُتْم، وإذا كانت في حِجْر وليٍّ يستحل مالها في مجتمع لا يرى ضيرًا في ذلك، فقد اكتملت عليها أسباب الضعف والمسكنة من كل جهة. واليتيمة التي في حجر وليها إمَّا جميلة فإذا وليُّها الذي هي في حجره يرغب (في) نكاحها ويضمُّ مالها إلى ماله ويأكله ظلمًا وعدوانًا، وإما دميمة فإذا هو راغبٌ (عن) نكاحها، لكنه طامع في مالها الذي بين يديه، فيعضُلُها عن الأزواج خشيةَ أن يُشرِكوه في ماله الذي بينه وبينها. فانظر كيف حذف القرآن حرف الجر الذي يتعدى به الفعل (ترغبون) كيما يؤدي المبنى الواحد معنيين متضادين بأخصر كلام وأبلغه.
إن أكل أموال اليتامى قضية خطيرة؛ فإذا كان اليتيم امرأة ضعيفة تحت إمرة آكل مالها فالقضية أخطر، وإذا كان «الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا ۖ وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا» (سورة النساء: آية 10)، فلا شك أن عذاب من يأكل مال تلك اليتيمة الضعيفة أشد وأخزى.
ولما كان الباب الأكبر لأكل مال تلك المرأة اليتيمة المهيضة الجناح هو زواج وليها منها في حال جمالها، أو حتى الزواج منها في حال قبحها دون الوفاء بحقها، أو إهلاك مالها في الزواج بأخريات عشرٍ أو دون ذلك أو فوقه من النساء – لمّا كان ذلك كذلك ورد الأمر بنكاح ما طاب من النساء مثنى وثلاث ورباع، في جواب الشرط «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ ۖ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» (سورة النساء: آية 3).
والأمر في جواب الشرط (فانكحوا) ليس أمرًا غرضه الإلزام والوجوب، بل هو أمر غرضه النهي عن نكاح النساء في حال عدم العدل، حتى ولو كانت واحدة فالنهي دال على عدم نكاحها إذا أفضى نكاحها إلى الجور؛ والعرب تُخرِج الكلام بلفظ الأمر تريد به النهي أو التهديد والوعيد، وباستعمالهم نزل القرآن، كما في قوله تعالى: «فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» (سورة الكهف: آية 29)، وكما في قوله تعالى: «لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» (سورة النحل: آية 55)، فخرج ذلك مخرج الأمر، والمقصود به التهديد والوعيدُ والزجر والنهي، فكذلك قوله تعالى: «فانكحوا ما طاب لكم من النساء»، بمعنى النهي؛ أي: فلا تنكحوا إلا ما طاب لكم من النساء.
لقد نهى القرآن -بهذا التلازم بين فعلي الشرط والجواب– عن نكاح اليتيمة بغرض أكل مالها ظلمًا وعدوانًا، ولكم أيها الناس سَعة في نكاح أربع نسوة غيرها إذا عدلتم بينهن، فإن لم تستطيعوا العدل بين أربع فتزوجوا ثلاثًا، وإن لم تعدلوا بين ثلاث فاثنتين، وإن لم تعدلوا بين اثنتين فزوجة واحدة حرة، وإذا لم تعدلوا في الزواج بامرأة واحدة حرة، فانكحوا ما ملكت أيمانكم من النساء؛ «ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَلَّا تَعُولُوا» (سورة النساء: آية 3). أي ألا تجوروا ولا تميلوا عن الحق؛ يقال: عال الرجل فهو يعول عَوْلا وعيالة؛ أي: مال وجار، ومنه قول أبي طالب:
إن العدل مع المرأة هو القضية الأخطر في السورة، وبخاصة عدم أكل مالها بالباطل؛ إما بأكل مال اليتيمة واتخاذ الزواج أو العَضَل مطيةً لذلك، كما بيَّنا، أو بمنعها من إرثها؛ فالمرأة والرجل كلاهما له نصيب من الإرث قليلِه وكثيره، ولا فرق بين رجل وامرأة في ذلك «لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ ۚ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا» (سورة النساء: آية 7)، وليس في الأمر بنكاح ما فوق الواحدة حتى أربع نسوة ظلمٌ لها، بل فيه ردٌّ لأهل الجاهلية عن التعدد المطلق، وإذا كان الزواج بواحدة مع ظلمها منهيًّا عنه، وأولى منه حالَئِذٍ نكاح الإماء، فالعدل بين أكثر من واحدة عزيز، وأولى بالرجل أن يتقي الله ويتقي الأرحامَ، فليتزوج بواحدة ولْيعِدل فذلكم هو الأصل، وما أبيح له التعدد إلا خشية ألا يقسط في زواجه باليتيمة التي في حجره؛ وإذا كان الشارعُ الحكيم قد نهى عن الجور في واحدة فالنهي عن الجور في حال التعدد أشد وأوجب؛ إذ العدل مع واحدة ممكن، والعدل مع ما فوقها أبعد وأشقُّ.
ولعل مناسبة الآية الأولى من سورة النساء لتلك الآيات قد غدَت أكثر جلاءً؛ فالنداء للناس كل الناس بأن يتقوا الله ويتقوا الأرحامَ؛ كما تقتضيه قراءة النصب عطفًا على «اتقوا الله» في قوله تعالى: «وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ» (سورة النساء: آية 1)، وأولى الناس بأن يتقي المرء فيهم رحمه أولئك الضعفاء من النساء اليتامى، وليحذر المخالف فإن الله رقيب عليه «إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا» (سورة النساء: آية 1)، يعلم ما يصنع في مال اليتيمة الضعيفة التي في حجره.