الحبسة الكلامية: مغامرة صعبة جديدة يخوضها «بروس ويليس»
لم يكن الأمر باليسير على شخص مثل «بروس ويليس» أن يعتزل في مرحلة كثيفة الأعمال الفنية بالنسبة له كممثل، فقد ظهر في 8 أفلام خلال العام المنصرم (2021)، وفيلمين خلال العام الحالي (2022)، ناهيك عن الإعلان عن 8 أفلام قادمة، ما بين أفلام تم الانتهاء منها وفي انتظار العرض، وأخرى ما زالت قيد الإنتاج.
ليس بروس ويليس أول ممثلٍ يُصاب بالحبسة الكلامية، ففي عام 2011 اختبرت الممثلة «إيمليا كلارك» الشيء نفسه، عقب إصابتها بتمدُّد في الأوعية الدموية الدماغية، لكن عكس بروس ويليس، كانت حالة إيميليا مؤقتة. كذلك عُرف الرئيس الأمريكي جو بايدن بتاريخه المرضي بالتلعثم، والمُصنَّف ضمن أحد أصناف «الحبسة التعبيرية».
فما هو هذا الاضطراب الذي يتعايش معه البعض، بينما يُنهي مسيرة البعض الآخر؟
اعتلال معرفي أم مجرد اضطراب لغوي؟
جاء في البيان الصادر عن عائلة ويليس أنَّ قرار اعتزاله ناجم عن مرضه الذي أثَّر على «قدراته المعرفية»، لكن هذا البيان لا يخلو من خطأ، فالحبسة الكلامية لا علاقة لها بـ «القدرات المعرفية» ولا تؤثر على ذكاء الفرد إطلاقًا، إنما هي مشكلة لغوية تصيب الشخص فتُفقده المقدرة على فهم الكلمات أو التعبير عنها، وتحدث الحبسة نتيجة تأثُّر مناطق الدماغ المسئولة عن اللغة والحديث، ويختلف نوع الاعتلال بمكان الإصابة، لكنها تشترك جميعًا في الأسباب، والتي تشمل:
- الجلطات (وتعد السبب الأشهر).
- إصابات الرأس الخطيرة.
- أورام المخ.
- الخَرَف (وغيره من الحالات العصبية التقدمية).
- نزيف المخ.
يمكن أن تحدث الحبسة الكلامية في أي عمر، لكنها أكثر شيوعًا لدى من هو أكبر من 65 عامًا، وذلك لشيوع الجلطات والأمراض العصبية في تلك الفئة العمرية، وبالنسبة لشخصٍ كبروس ويليس ذي الـ 67 عامًا لم يكن الأمر بالبعيد.
العلم وراء الحبسة الكلامية
تسيطر مناطق عديدة بالدماغ على مقدرة الإنسان على تكوين الكلمات، والتعبير عن نفسه، وفهم اللغة المنطوقة، وأية إصابة تحدث في تلك المناطق –حتى ولو طفيفة- يمكن أن تُعطِّل تلك العملية.
فمثلًا، حدوث إصابة في النصف السفلي الأيسر للفص الجبهي تُدمِر «منطقة بروكا» -أحد مراكز الحديث- وتُعرقِل الصياغة والفصاحة. وبالنظر إلى أن الفص الجبهي يُعنى بالتركيز وصب الاهتمام، فلو شملت الإصابة امتدادًا خارج منطقة بروكا، فإن تركيز الشخص على الكلام الذي يسمعه أو محادثات المحيطين تتأثر أيضًا.
وفي الركن العلوي الأيسر ضمن الفص الصدغي، تقبع «منطقة فيرنيكه»، التي تُفضِي الإصابة بها إلى عجزك عن فهم وترجمة الكلمات المنطوقة، مما يجعلك تنطق بكلمات بلا معنى وسط سياق المحادثة.
تحدث المشكلات اللغوية أيضًا حين تُصاب الأعصاب المسئولة عن التركيز أو الذاكرة، فتتلاشى قدرتك على تخزين واستعادة المعلومات. بالإضافة لذلك، تؤدي الإصابة في الفص الصدغي الأيمن إلى صعوبات في التواصل اللا شفهي مثل الإيحاءات، ووضعية الجسم عند الحديث، وتعبيرات الوجه والتواصل البصري.
إن الإصابة في الفص الجبهي لا سيما القشرة الجبهية تؤثر على مهارات المحادثة، فيجد المريض صعوبة في إضافة التفاصيل إلى الحوار، وبدء الحديث، والإبقاء على نفس الموضوع.
نخلص من ذلك إلى أن مكان إصابة الدماغ يُحدِّد نوعية العطب الحادث والأعراض السريرية التي تظهر على المريض. ومنه تنقسم الحبسة الكلامية إلى ثلاثة أنواع:
- الحبسة التعبيرية (حبسة بروكا).
- الحبسة الاستقبالية (حبسة فيرنيكه).
- الحبسة المختلطة (تشمل النوعين معًا).
الحبسة التعبيرية (حبسة بروكا)
في هذا النوع لا يجد المريض صعوبة في فهم الكلمات الموجهة إليه، لكن يظهر الخلل أثناء التحدُّث، فمثلًا إذا أراد أن يصف رحلة بالطائرة سوف يقول «أنا… طائرة…»، ثم ينشر ذراعيه كالأجنحة ليصف مقصده.
لا يفتقد حديث المريض الطلاقة فحسب، ولكن أيضًا لا تربو أية جملة ينطقها على أربعة كلمات، يميل خلالها إلى استخدام الكلمات الأقصر والتعبير بالإيحاءات.
كذلك تحوي الحبسة الكلامية ظاهرة غريبة تعرف بـ «ظاهرة استحداث المعاني» Neologisms، أي استخدام الكلمات في غير مواضعها، واستبدال الكلمات المناسبة بأخرى بلا معنى، كما تحوي الالتباسات في تطبيق قواعد اللغة.
تتضح ظاهرة الـ Neologisms حين يلفظ المريض –على سبيل المثال- كلمة «فردق» بدلًا من الكلمة التي يقصدها وهي «قميص»، حيث إن «فردق» هنا كلمة بلا معنى في أصول اللغة، ولا تتصل بقريب أو بعيد بكلمة «قميص».
قد تأتي الحبسة التعبيرية في صورة أكثر غرابة، وهي فقدان القدرة على تسمية الأشياء، وكأنَّ أحدهم يطلب منك تسميتها في لغة أخرى مثلًا، وتُعرَف تلك الظاهرة باسم Anomia أو «فقدان التسمية». وهو ما حدث لإيميليا كلارك حين فقدت القدرة على تذكُّر اسمها لأسبوع كامل.
باختصار، يعاني مُصاب الحبسة التعبيرية مشاكل في التهجُّؤ وبناء الجملة، مما يؤثِّر في سرعة الكلام، ويجعل من الصعب عليه حتى أن يعيد نطق جملة سمعها للتو.
الحبسة الاستقبالية (حبسة فيرنيكه)
تشمل حبسة فيرنيكه الحبسة الطليقة والحبسة الاستقبالية، وتعد الحبسة الطليقة نوعًا من الحبسة التعبيرية، إذ ينطق المريض بجمل صحيحة لغويًّا ومنطوقة على نحو صحيح دون أدنى جهد منه، لكنها تكون سريعة، كثيرة الكلمات، وتفتقر إلى المعنى.
في حين يصف مصطلح الحبسة الاستقبالية المشاكل المتعلقة بالقراءة وفهم الكلام المسموع، وقد يحتفظ المريض بالقدرة على ربط الكلام، يشبه الأمر أن تستمع إلى محادثة تدور بين شخصين بلغة أجنبية، أنت تسمع الكلام لكنك لا تفهم معناه، أو ربما تفهم الكلام لمعرفتك الطفيفة بتلك اللغة لكن تجاهد كي تعالج ما فهمته.
لا يشترط أن تأتي الحبسة الاستقبالية في صورة مُحددة، فقد يحدث خلل في بعض جوانب اللغة أو مهارات المريض، بينما تظل باقي الجوانب دونما خطأ، لذا تتواجد أنواع خاصة من الحبسة الاستقبالية مثل: Paraphasia، حيث يقوم المريض باستبدال بعض مقاطع الكلمات أو أجزاء من الكلمة بمقاطع أخرى، كأن يقول «لاعن» وهو يقصد «لاعب». أو يقوم باستبدال المقاطع داخل الكلمة نفسها، فيقول «تيفيلون» عوضًا عن «تليفون».
وهناك أيضًا نوع يُطلق عليه Alexia، وتعني عدم القدرة على فهم الكلام المكتوب، إذ يميل المريض إلى نطق الكلمة بمعزل عن السياق، مما قد يُنتِج معنى مُغايرًا، كأن ينطق كلمة «شِمال» بكسر الشين بدلًا من «شَمال» أثناء قراءته عن خريطة، فالكلمة صحيحة لكنها ليست المقصودة، ويظل المريض يقرأ هكذا دون أن يشعر أنه قد اقترف خطأً.
الحبسة التي أيقظت أحدهم يتحدث الفرنسية
كتب العالم اللغوي «فرانسوا غروجان» عن مريض في الرابعة والأربعين من عمره، أُصيب بجلطة في المخ أنتجت لديه حبسة كلامية جديدة من نوعها، كان مريضنا متعدد اللغات، لغته الأم هي الألمانية السويسرية، بينما كان قد تعلَّم الألمانية الفصحى في الدراسة، إضافةً لبعض الفرنسية. كما سافر في شبابه إلى فرنسا حيث قضى 6 سنوات يعمل هناك وعاد في الخامسة والعشرين يجيد الفرنسية بطلاقة، ولدى عودته لسويسرا وزواجه واستقراره شرع يتحدث الألمانية السويسرية في شتى أنشطته اليومية ومع طفليه.
لدى إصابته بالجلطة فَقَدَ المريض وعيه لعدة ساعات، ثم عند تعافيه كانت قدراته اللغوية قد تلاشت، والآن صار مريضًا بالحبسة الكلامية.
استعاد مريضنا فهمه للغات الثلاثة في غضون يومين أو ثلاثة، لكن لدهشة الجميع فإنه بدأ في تحدث الفرنسية فقط، وشيئًا فشيئًا بدأ يتطور فيها حتى صار يتحدثها بطلاقة. زوجته لم تفهمه وأطفاله الذين حصلوا على تعليم بسيط في الفرنسية في المدرسة صاروا يترجمون بين والديهما.
فور أن أصبح طليقًا في الفرنسية بدأ يتحدث القليل من الألمانية الفصحى، لكن الألمانية السويسرية لغته الأم لم تعد إلا بعد أربعة شهور، وكان ضعيفًا فيها بينما كانت أقوى لغاته الفرنسية التي لم يستخدمها منذ 19 عامًا في تسلسل معاكس تمامًا لاستخداماته اليومية.
بعد وقت طويل نسبيًّا، طوَّر المريض الألمانية السويسرية، وبمجرد أن أصبح فصيحًا فيها، بدأت فرنسيته تتضاءل شيئًا فشيئًا. وظلت تتطور لغته الأم حتى أصبح غير قادر على وصف أبسط الجمل بالفرنسية.
بعد أن شُفي المريض بهذه الطريقة، أطلق العلماء على هذا النوع من التعافي antagonistic pattern، أو «النموذج العدائي»، وصار يُعرف لدى أي مريض متعدد اللغات تؤثر الحبسة على صراع اللغات في عقله، ورغم قلة المصابين والمتعافين بهذا النوع، إلا أن حالات تالية سُجلت بالفعل.
حاول الطبيب المعالج لهذه الحالة إيجاد تفسير علمي حول ما فعله هذا المريض، لكنه لم يفلح، وفي النهاية أعزى السبب إلى كون المريض عاش أجمل سنين حياته في فرنسا، وربما اشتاق دماغه لتلك السنوات واستغل الحبسة ليسلك طريقًا يُقرِّبها منه.
لا يوجد سبب بعينه لتلك الحالة، حتى إن «فرانسوا غروجان» نفسه صرَّح بأنَّ العلاقة بين المشاعر ومراكز اللغات في الدماغ أعقد مما نتصور، ولا نستثني أن تؤثر المشاعر في اللغة.
نهج العلاج
تنحصر طرق معالجة الحبسة الكلامية في ثلاثة طرق رئيسية:
1. النهج التقليدي:
ويشمل العلاج من خلال اختصاصي لغة يُحفِّزك على استعادة النشاط في مراكز النطق، وتعلُّم المهارات لإعادة تطوير مهاراتك الشفهية.
يمكن أن يُصاحِب هذا النوع من العلاج، العلاج النفسي، وذلك ليتأقلم المريض على التعامل مع الإحباط الناجم عن شعوره بكونه غير مفهوم، أو قادر على التعبير عن نفسه.
2. النهج التكميلي:
من خلال آلية تُعرَف بـ «تخطيط كهربية العضلة»، وهي آلية تُمكِّن المريض من إدراك الحركات الفردية للعضلات داخل الفم وحوله. الأمر أشبه بأن تُعلِّم طفلًا المشي، وبطريقة مُشابهة يتعلَّم المريض الكلام، وذلك من خلال «إلكترودات» موضوعة على عضلات الفم تعطي إشارة للمريض في حال سبَّبت حركة عضلاته إشارات صحيحة بالمخ، وبالتدريج يتطور المريض في صياغة الكلام.
ومن ثَمَّ يتم استخدام «الارتجاع العصبي»، وهي طريقة مقاربة إلى حدٍّ ما، فمن خلال الإلكترودات الموضوعة على المريض يتعلم المريض التحكم في إشارات الدماغ للتحكم في العضلات، بمعنى آخر يمكن اعتبار نوعي النهج التكميلي وجهين لعملة واحدة.
3. النهوج البديلة:
حتى الآن لم يصل العلماء بعد إلى نهوج بديلة لعلاج الحبسة الكلامية، إلا أن علاج الاستقطاب -وهو علاج «لا دوائي» قائم على استعادة اتزان الطاقة داخل الجسم من خلال النظام الغذائي وممارسة التمارين والوعي بالذات- أظهر نتائج واعدة في علاج التلعثم.
من أجل حوار أفضل
كونك وصلت إلى هنا فأنت لا تعاني الحبسة الكلامية، أو على الأقل النوع الاستقبالي منها.
يمكن لأحدنا أن يختبر التلعثم أحيانًا نتيجة التوتر أو الضغوط والإرهاق. ومن خلال التدرب على تحليل حديثك ومشاكلك اللغوية، وفحص كل جوانب صراعك في التواصل، يمكنك أن تقف على أسباب هذا التلعثم وتعالجها.
يمكن التغلب على التلعثم عبر التحدُّث بصوت عالٍ وتسجيل صوتك، وفي كل مرة عليك أن تزيد من سرعة كلامك مرةٍ بعد أخرى. وكذلك يمكنك أن تُطوِّر مهاراتك في التعبير عن نفسك عبر ممارسة الرسم والعزف وارتياد المسارح. فالتلعثم لا يحتاج جلسات خاصة كما الحبسة.
وأخيرًا تذكَّر دائمًا أن تثق بنفسك، حتى لو فقدت الوسيلة للتعبير عن تلك الثقة.