وباء تنفسي يضرب أمريكا والسجائر الإلكترونية هي السبب
انهمرت دموعُ الوالدين كسيلٍ منهمر وهما ينظران عبر النافذة الزجاجية إلى كومة الأسلاك، وخراطيم التنفس والدم، والمحاليل الوريدية، التي تحتل كل سنتيمتر من الفراغ حول جسدٍ عزيز، كان قبل أيام قليلة ابنَهُما الشاب الممتلئ حيويةً وانطلاقًا. التهاب تنفسي حاد، غير معلوم السبب، نجم عنهُ فشلٌ تنفسيٌّ شديد. هكذا أخبرهما الأطباء، وأخبروهما أن هناك شكوكًا حول علاقة تلك الحالة الخطيرة بتدخين السجائر الإلكترونية، فهناك عشرات الحالات المشابهة في ولاياتٍ أمريكية أخرى، وكلهم من مدخني السجائر الإلكترونية أيضًا.
كان الأشد رعبًا على نفسيْهما من وقع كلمات التشخيص المفزع، ما أخبرهما به الأطباء بعد أيام من حجزه بالعناية المركزة، من أن جهاز التنفس الصناعي المعتاد غيرُ كافٍ للتعامل مع حالته الصعبة، وضمان الحد الأدنى من تغذية الدم بالأكسجين. لقد تطورت الحالة إلى ارتشاحٍ رئوي حاد، وكأن المريض قد غرق في نهرٍ من مياه جسمه، إذ امتلأت الحويصلات الرئوية بفيضانٍ من السوائل، يكتظ بكريات الدم البيضاء، ومواد أخرى تدل على هلاكٍ واسع لخلايا الرئتيْن.
إزاء ذلك، وكحلٍّ أخير، استخدم الأطباء جهاز ECMO، والذي يضخ الأكسجين مباشرة في دم المريض، ولكن كان أكثرهم بانتظار حدوث الوفاة المحتومة في أية لحظة. في الأيام التالية، وبشكلٍ دراماتيكيّ، تحسنت حالة الشاب تدريجيًا، وبدأت رئتاه تعودان للعمل، وخلال أسبوعٍ، عاد إلى منزله.
كان ما سبق هو قصة شاب عمره 21 عامًا من ولاية يوتاه الأمريكية، نجا بأعجوبة من بين براثن الموت بمرضٍ تنفسيٍ خطير، ومُبهَم. لم يكن هذا الشاب حالة استثنائية، فقد سُجّلت مئات الحالات المشابهة في مناطق عديدة من الولايات المتحدة الأمريكية، بعضهم توفي بالفعل! فما الذي يحدث؟
وباء السجائر الإلكترونية
وباءٌ تنفسيٌّ خطير، أصاب في الشهور القليلة الماضية أكثر من ٤٥٠ مواطنًا أمريكيًا، في 33 ولاية أمريكية مختلفة، جلّهم من الشباب الأصحاء صغار السن، من متعاطي السجائر الإلكترونية. وأزهق حتى لحظة كتابة هذه الكلمات خمس أرواح، والعدد مرشح للزيادة.
قبل أن نخوض في الحديث عن هذا الوباء، لابد أن نتحدث أولًا عن الوباء الذي تشير إليه أصابع الاتهام بالمسؤولية عن صنع الوباء الجديد.
شهدت السنوات الأخيرة انتشارًا مهولًا لتدخين السجائر الإلكترونية، والذي يسمى على نطاق واسع vaping. في البداية أحسن الظن بها بعضُ الأطباء، في أن تكون جسرًا لمدخني السجائر للإقلاع عن التدخين، لا سيّما وهي أقل من السجائر في كمّ المواد الضارة، وتعطي مجالًا أفضل للتحكم في كمية النيكوتين. لكن على أرض الواقع، اتضح أن الجسر يعمل في الاتجاه العكسي بشكلٍ أكثر فعالية بكثير.
جرّأت السجائر الإلكترونية عشرات الملايين، خاصة من المراهقين والشباب الصغير، على الولوج إلى عالم التدخين فالإدمان، إذ يتدحرج الكثير منهم إلى أسفل الدرج، إلى السجائر أولًا، فالماريجوانا، ثم إلى ما هو أنكى.
أظهرت بعض الإحصاءات في الولايات المتحدة الأمريكية أن 21% من المراهقين والشباب صغار السن يتعاطون السجائر الإلكترونية، رغم أن القوانين الأمريكية تحظر بيعها لمن هم أقل من 18 عامًا.
مثل تلك الشرائح العمرية خصيصًا، تتضرر كثيرًا من التدخين عمومًا، والـ vaping خصوصًا، فالنيكوتين يؤثر على جودة نمو خلايا المخ، والتي لا يكتمل نموها قبل سن الخامسة والعشرين. ينبه المركز الأمريكي للتحكم في الأمراض CDC إلى أن أكثر أنواع السجائر الإلكترونية انتشارًا بين الشباب الأمريكي هو الـ JUUL، والذي يحتوي على تركيزات شديدة من النيكوتين.
أكد إحصاءات المعهد القومي الأمريكي للصحة، أن أكثر من 30% من المراهقين ينتقلون من الـ vaping إلى السجائر المعتادة، وأن أكثرية المراهقين في الولايات المتحدة الأمريكية يتعرضون إلى ما يشبه القصف الإعلاني المستمر لترويج الماركات المختلفة من السجائر الإلكترونية.
كذلك نفت دراسة أوروبية، أن يكون للسجائر الإلكترونية دور إيجابي في الإقلاع التام عن تدخين السجائر العادية، إذ حدث الإقلاع الفعال عن التدخين فيمن تبنوا برامج لا تضمن استخدام الـ vaping كمرحلة انتقالية. وأظهرت دراسة أخرى، على أكثر من 800 شخص انتقلوا للـ vaping كبداية للإقلاع عن التدخين، أن 9% منهم فقط نجحوا خلال عام في الإقلاع عن التدخين.
ويحذر المعهد الأمريكي للصحة من أن كون السجائر الإلكترونية أقل سميةً من السجائر من الناحية النظرية، لا يعني خلوها من سموم خطيرة تعتبر من مسببات حدوث السرطان، خاصة الجسيمات المعدنية متناهية الصغر، وعناصر الكروم والنيكل، والتي تنبعث تحت وطأة الحرارة الشديدة من جسم السجائر، هذا بجانب بعض المخلفات الكيميائية الناتجة من الزيوت المستخدمة، والتي ما تزال تحتاج لمزيد من الأبحاث العلمية الطبية للتحقق من آثارها الصحية بعيدة المدى.
دراسات مكثفة للموت الجديد
رغم أن نسبة الوفيات إلى اللحظة تعتبر منخفضة بالمقارنة بعدد الحالات المصابة، فهذا لا ينفي مدى خطورة هذا المرض التنفسي المجهول، والذي ربطه جمهور المختصين بتدخين السجائر الإلكترونية، وشدة أعراضه الجسمانية. فأغلبية الحالات احتاجت إلى الرعاية المركزة، وفي نسبة معتبرة وُضع المريض على أجهزة التنفس الصناعي.
في دراسةٍ ظهرت نتائجها يوم 6 سبتمبر/ أيلول 2019 م، على 53 من المصابين بالمرض التنفسي الجديد في ولايتيْ وسكنسن وإلينوي الأمريكيتين، تبين أن أكثر من 80% منهم من الذكور، بمتوسط عمر 19 عامًا فقط. ورغم تباين شدة الحالة المرضية من مريض لآخر، فإن الأمر تطلب في أكثر من 90% منهم الحجزَ بالمستشفى، وتطور الأمر إلى احتياج ثلث الحالات إلى تركيب أنبوبة تنفسية، ووضع المريض على جهاز التنفس الصناعي، ووقعت حالة وفاة واحدة. ما لفت النظر في نتائج تلك الدراسة أن 84% من هؤلاء المرضى، قد أقروا بتعاطي مادة تترا هيدروكانابينول المعروفة اختصارًا بـ THC عبر السجائر الإلكترونية، وهي من أبرز المواد الفعالة في الحشيش.
اقرأ: الحشيش دواء أم إدمان .. 8 أسئلة تجيبُك.
حتى الآن، لم تظهر الدراسات المكثفة لمركز التحكم في الأمراض CDC، وسواه من مؤسسات البحث الأمريكية، دليلًا قاطعًا حاسمًا يؤكد أن تدخين السجائر الإلكترونية هو السبب الأكيد لحدوث الوباء، رغم تراكم عناصر عديدة ترفع مستوى الشك في ذلك. والأخطر من هذا، أن طبيعة الوباء الجديد، وكيفية تطوره، ما تزال يكتنفها الغموض، مما يحول دون جهدٍ فعال في كبح انتشار تلك الحالة التنفسية الغريبة.
لذلك أوصى الـ CDC مؤخرًا بالامتناع عن تعاطي السجائر الإلكترونية على سبيل الاحتياط، لحين تبيُّن الخيط الأبيض من الأسود في الأمر.
على صعيد جهود البحث في كيفية تسبُّب السجائر الإلكترونية بالإصابة بهذا المرض الخطير، ينصب التركيز حول بعض محتويات الزيت المستخدم، والاشتباه في إضافة بعض المدخنين لمكونات ضارة غير تقليدية، إذ ظهر أن حوالي نصف المصابين بالوباء، كانوا يدخنون مشتقاتٍ من المواد الفعالة في الحشيش كالـ THCعلى سبيل المثال. كذلك تدورُ شكوكٌ كثيرة حول وجود شوائب ضارة في بعض خلطات الزيوت التي تباع في السوق السوداء.
كذلك يعتقد بعض العلماء أن المشكلة قد تكون عائدةً إلى أن أقطاب التسخين في السجائر الإلكترونية، تطلق بعض الجسيمات الدقيقة مع ارتفاع درجة حرارتها. تلك الجسيمات عندما تستقر في أنسجة الرئة، تثير رد فعل مناعيّ جسيم، يتطور إلى الالتهاب الرئوي الشديد. لكن ما تزال تلك النظرية تخضع لمزيدٍ من البحث.
اتجه قطاع آخر من الباحثين إلى اتهام مادة تسمى خلّات فيتامين هـ، وجدت بكميات مرتفعة في دماء 13 مريضًا، من أصل 34 من المصابين بالوباء التنفسي في ولاية نيويورك. لكن لا يمكن الجزم بأنها المتسبب الوحيد، إذ لم توجد في دماء أكثرية الحالات في نيويورك وسواها.
ما زلنا بانتظار ورود المزيد من نتائج الأبحاث والدراسات، وانجلاء الغموض أكثر فأكثر خلال الأيام والأسابيع الماضية. ويخشى الكثيرون أن يتكرر وقوع مثل هذا الوباء في مناطق أخرى في العالم لا تمتلك نفس المنظومة الصحية والبحثية القوية التي تتمتع بها الولايات المتحدة الأمريكية، إذ حينها سيكون الأمر أشد وبالًا.