أفلام مصاصي الدماء: كيف منحنا كوابيسنا قبلة الخلود؟
من أين أتت هذه الكائنات الليلية شاحبة الوجه والشبقة لدماء البشر؟ من أي جرح عميق في قلب الإنسان انسلت لتتناسل على شاشة السينما فيلمًا بعد آخر؟
هذه الكائنات المخلدة المسماة بمصاصي الدماء لها أصلها في أغلب أساطير الشعوب القديمة من بابل إلى الهند، لكن الأسطورة التي يمكن اعتبارها السلف المباشر لشخصية مصاص الدماء كما ظهرت في الأدب والسينما أتت من أوروبا الشرقية، ترانسلفانيا (رومانيا حاليًّا) التي تدور حول شخصية الأمير «فلاد تيبيس» الملقب بدراكولا، وهو شخصية حقيقية عاشت في القرن الخامس عشر، وظلت الحكايات المؤسطرة عن تعطشه للدماء ووحشيته الشديدة مع خصومه غامضة ومجهولة حتى عام 1897، حيث استخدم لقبه واستلهم أسطورته الروائي الأيرلندي «برام ستوكر» في روايته الأشهر «دراكولا».
حققت الرواية منذ ظهورها الأول نجاحًا باهرًا، انتقلت إلى المسرح وحققت النجاح نفسه، ثم وجدت طريقها إلى السينما التي كانت لا تزال تخطو خطواتها الأولى في ذلك الوقت. رغم أن جميع مصاصي الدماء ينبثقون من شخصية واحدة فإن المخرجين أجروا العديد من التعديلات في شكل وطبيعة الشخصية لتناسب المعنى والغرض المنشود في فيلمهم.
وجد المخرجون في هذه المسوخ وسيلة للتعبير عن المخاوف والرغبات المتعلقة بالجنس والعرق. هذه المسوخ الأكثر جنسانية من بين كل المسوخ التي ظهرت على شاشة السينما حملت على عاتقها تقديم أكثر الأفكار تحريمًا – كالمثلية الجنسية أو تزاوج العنف والجنس – إلى مشاهدي السينما، فالزيارات الليلية لهذة المسوخ والطريقة الشبقية التي تهاجم بها ضحاياها يصعب فهمها في سياق غير جنسي.
من وجهة نظر التحليل النفسي نرى مصاصي الدماء كانعكاسات مخيفة وعنيفة لغريزتي العدوان والجنس اللتين تسيطران على اللاوعي البشري.
رغم أن هذه الكائنات مثلما تُقَدَّم على الشاشة تبدو متجاوزة لفكرة الزمن، فهي كائنات مؤبدة، لكنها أيضًا إفراز للحظتها التاريخية الآنية، ففيلم «Nosferatu» للمخرج الألماني «مورناو» الصادر سنة 1922 هو فيلم يعكس قلق ومخاوف زمن ما بعد الحرب العالمية الأولى، الأجواء العامة المضطربة آنذاك في ألمانيا وأصداء لمحاولات شيطنة الآخر (اليهود)، بينما يعكس فيلم «Blackula» الصادر عام 1972 الذي يصور مصاصي دماء من الأفرو أمريكيين التوتر والصراع العرقي في أمريكا الستينيات ومطلع السبعينيات.
كل مرة تموت هذه المسوخ على الشاشة، تعود إلى الحياة من جديد بشكل مختلف، وبوعي مغاير للعالم، تحمل لنا أسئلة أخرى ومخاوف وكوابيس لا تنتهي.
هذه قائمة بأهم الأعمال التي قدمت تنويعات مختلفة على شخصية مصاص الدماء.
Nosferatu: A symphony of terror – 1922
الكلاسيكية الأولى للألماني «مورناو» أحد رواد التعبيرية في السينما. ينتمي الفيلم في أسلوبيته لهذه المدرسة الفنية التي تصور اضطراب المشاعر، الظلال العميقة وديكورات تصوير غريبة للتعبير عن رؤى الجنون والرعب. أراد «مورناو» أن يقدم اقتباسًا من رواية «برام ستوكر»، ولكنه فشل في الحصول على حق تحويلها إلى فيلم سينمائي، فاضطر للتلاعب قليلًا بالحبكة مع تغيير أسماء الشخصيات، صار الكونت دراكولا، الكونت أورلوك (التي تعني في الهولندية الحرب) فمورناو الذي خاض أهوال الحرب العالمية الأولى لا يزال مطاردًا بشبحها. أورلوك بهيئته الشيطانية أقرب إلى حيوان منه كإنسان، ربما كتعبير عن ضرب من الحيوانية في حالة هياج. فيلم مورناو عن المخاوف التي تعصف بعقولنا جميعًا، عن الحرب، وعن المرض والموت.
Vampyr – 1932
هكذا تحدث الدنماركي «كارل دراير» عن دافعه لصنع فيلمه المقتبس بحرية من قصتين للكاتب «شريدان لو فانو»، والصادر عام 1932.
يحكي الفيلم عن الشاب «آلن جراي» المهووس بدراسة ما وراء الطبيعة والغيبيات، الذي يوشك هوسه أن يقوده إلى الجنون. يصل ليلًا إلى مدينة فرنسية صغيرة، حيث يكتشف في النزل الغامض والمخيف الذي أقام فيه وجود فتاتين، إحداهما ضحية لأحد مصاصي الدماء، بينما يقع في حب أختها ويحاول حمايتها واستعادة روح أختها من مصاص الدماء.
اقرأ أيضًا:فيلم «The House That Jack Built»: بورتريه شخصي لفون ترير
هذه الحبكة البسيطة والتقليدية لا تقول شيئًا عن فيلم دراير. الفيلم هو قصيدة بصرية تتأرجح صورها على الحافة بين الواقع والحلم. الفيلم مليء بالصور الكابوسية التي تحولت مع الزمن إلى أيقونات لسينما الرعب مثل صورة رجل عجوز يقف إلى جوار النهر يقرع جرسًا، حاملًا على كتفه منجلًا لحصد الأرواح، وهي الصورة التي أعاد «فون ترير» نفسه تجسيدها كنوع من الدعاية لأحدث أفلامه «البيت الذي شيده جاك» الذي يدور في عالم القتلة المتسلسلين، وكتحية منه للمعلم الكبير.
Dracula – 1931
هو الفيلم الأشهر عن أسطورة مصاص الدماء الكونت دراكولا. الفيلم الذي حول هذه الشخصية إلى أيقونة سينما الرعب. اقتباس مباشر من رواية «برام ستوكر»، الفيلم من إخراج «تود براونينج» وعرض للمرة الأولى عام 1931.
من أجل دور البطولة اختارت استوديوهات يونيرفسال التي أنتجت الفيلم ممثلًا ذا خبرة طويلة في أداء شخصية الكونت دراكولا، حيث أداها كثيرًا علي المسرح، هذا الممثل يدعى «بيلا لوجوسي»، وهو ممثل روماني وينتمي للمكان الذي ولدت فيه أسطورة الكونت مصاص الدماء.
تختلف شخصية دراكولا هنا عن تجسداته المسخية الأولى، هنا هو أرستقراطي ناعم، ساحر ومغوٍ. يموت الكونت في نهاية الفيلم، لكن النجاح التجاري الكبير للفيلم آنذاك سيدفع الاستوديوهات المنتجة لإعادته للحياة عدة مرات. وسيظل وجه لوجوسي، وصوته المنوم وطريقة أدائه هم الأكثر ارتباطًا في ذاكرة الجمهور بشخصية دراكولا.
Nosferatu The Vampyre – 1979
«فيرنر هيرزوج» مخرج هذا الفيلم هو واحد من أكثر أبناء جيله ابتكارًا وأصالة في سينماه. ما دفعه لإعادة صنع كلاسيكية «مورناو» هنا هو افتتانه بالفيلم ومخرجه. يبدو الفيلم، على حد تعبير هيرزوج نفسه، مسكونًا بروح الفيلم الأول، فقد قام «هيرزوج» بتصوير بعض مشاهد فيلمه – الصادر عام 1979- في أماكن تصوير فيلم مورناو نفسها، كما أن بعض المشاهد الأخرى تحمل تكوينات «مورناو» البصرية نفسها، ومع ذلك يظل فيلم «هيرزوج» حاملًا بصمته الخاصة.
لا يبدو الفيلم غريبًا على سينما هيرزوج، فأفلامه على نحو ما هي رحلات خطرة إلى قلب الظلام، الظلام الذي يسكننا مثلما يسكن العالم. فيلم «هيرزوج» عن الخوف نفسه، عن الموت، عن غياب الحب. يصفه الناقد «ديفيد دينبي» بأنه فيلم رعب غير تقليدي، وقصيدة غاضبة عن الموت. كذلك فإن أداء «كلاوس كينسكي» هنا في دور الكونت مصاص الدماء، لا ينسى.
Bram Stoker’s Dracula – 1992
يشدد فيلم «فرانسيس فورد كوبولا» الذي عرض للمرة الأولى عام 1992، على الطبيعة الرومانسية والتراجيدية لرواية ستوكر، حتى إن الدعاية الخاصة بالفيلم استخدمت هذه العبارة: «الحب لا يموت أبدًا».
يحاول الفيلم منذ البداية أن يكسب تعاطف المشاهدين مع الكونت العاشق من خلال افتتاحية الفيلم التي تعود إلى القرن الخامس عشر، فأصل اللعنة يعود إلى انتحار زوجته بعد سماعها أخبارًا كاذبة عن هزيمته في الحرب، فيجدف غاضبًا في حق الآلهة، وتحل عليه اللعنة. دراكولا في فيلم «كوبولا» هو أقرب إلى عاشق مجروح أكثر منه مسخًا. إنه أقرب في جوهره إلى حكاية «الجميلة والوحش»، حيث يستعيد الوحش نبالته وإنسانيته مرة أخرى عن طريق الحب.
Let The Right One In – 2008
يعتمد الفيلم السويدي، الذي أخرجه «توماس ألفريدسون» وعرض عام 2008، على رواية تحمل اسم الفيلم نفسه للكاتب «جون ليندكفيست»، وتدور حبكتها حول العلاقة بين الطفل أوسكار الذي يتعرض طيلة الوقت لتنمر من زملائه في المدرسة، وحيد ومنبوذ عاطفيًّا حتى من والديه، وبين طفلة تدعى إيلي (مصاصة دماء) انتقلت للسكن إلى جواره في منطقة بلاكبيرغ في ستوكهولم حقبة الثمانينيات.
نشاهد في بداية الفيلم الطفل أوسكار يتأمل بمرارة انعكاسه في المرآة، ثم نشاهده يطعن بسكين جزع شجرة مرددًا إحدى العبارات التي يستخدمها زملاؤه في التنمر عليه. نحن هنا ومنذ البداية في مواجهة غضبه وكراهيته لذاته، لذلك فلقاؤه بالطفلة إيلي هو لقاء بعدوانه المكبوت، وقد وجد طريقه إلى السطح. إيلي هي الانعكاس المعتم لغضبه، ولعطشه للانتقام.
يستغل الفيلم السويدي الممدوح تيمات فيلم الرعب، خاصة رعب مصاصي الدماء، لتقديم قراءة نفسية لمشاعر المنبوذين لاختلافهم، وهي مشاعر نعاني منها جميعًا بدرجة أو أخرى.
Only Lovers Left Alive – 2013
لا يخفي «جيم جارموش» إعجابه بسينما الأنواع، والتي يبرع عبر أطرها التقليدية في خلق ما هو جديد ومختلف. يستغل «جارموش» في فيلمه الذي عرض عام 2013 نمط فيلم مصاصي الدماء ليقدم خلاله قصة حب تتجاوز الزمن بين آدم وإيف. فكرة الكائنات الخالدة التي تسكن الظلال تمنحه إمكانية تأمل التاريخ وروايته من وجهة نظر كائنات الهامش المنبوذة.
يعيش آدم في كآبة بينما يشاهد تحلل الحضارة والثقافة محاولًا إنهاء حياته، على عكس رفيقته إيف التي لا تشاركه وجهة نظره ولا سلوكه تجاه الحياة، فهي ترى أنه رغم كل شيء هناك ما يستحق البقاء لأجله. ما يتعلمه آدم في النهاية وما يفهمه «جارموش» هو أن البقاء غريزة وضرورة. وينجح جارموش في تخليص فيلمه من كل كليشهات النوع الفيلمي الذي يشكل إطاره الخارجي ليحقق فيلمًا شاعريًّا وتأمليًّا.