قيم النهضة الإسلامية بين التراث والحداثة
لا خلاف بشأن علوِّ قيمةِ الحقِّ ومِعيارِيَّتِها المُطْلَقة. فـ «الحقُّ» اسمٌ مِن أسماء الله الحسنى، والله تعالى «هو الحقُّ»، وهو مصدرُ ما نَرَاه في هذه الدنيا مِن حَقٍّ أو حقيقةٍ. والله تعالى «خَلَقَ بالحقِّ»، وهو «يهدي للحقِّ». والسؤال الإشكالي هنا هو عن علاقة الحق بالفطرة والحرية والنهضة، ثم أينَ يوجد الحق؟ أهو في متنِ الوجودِ الخارجي المحيطِ بالإنسان؟ أم في صُلبِ وجودِه الداخلي؟ وما علاقة «الباطل» بمنظومة قِيَم الفِطرة التي مِنها: العدلُ، والكرامةُ، والحريةُ والتقدم والحياة الطيبة؟
هذا السؤال يفتح باب النقاش حول قيمةِ الحقِّ ومنظومَتِه القِيَميَّة الإيجابية في مُقابِلِ «الباطل» وصُوَرِه المتعددةِ ومنظومَتِه القِيَمِيَّة السلبيةِ التي منها: الظُّلمُ، والكِبْرُ، والانحرافُ، والطَّمَعُ، والأنانية، وهي مِن حُجُبِ الحَقّ؛ إلى جانب حُجُب الهوى، والعصبية، وتقليد الآباء، وشهوة السُّلطة والفساد.
وفي هذا السياق تتنزلُ قيمة الكرامة وقيمة الحرية ضِمنَ منظومةِ «الحق». صحيحٌ أن العدالةَ بأبعادها المختلفة هي رصيفةُ الحقِّ؛ لكنَّ الكرامةَ ليست اعترافاً بحقِّ الإنسانِ في التَّمَايُزِ وتَخَيُّرِ الأهداف..إلخ ؛لأنها إن كانت كذلك فالسؤالُ الأولُ هو: اعترافُ مَنْ لِمَنْ؟
إن الكرامةَ هي هِبةٌ إلهيةٌ لِبَني آدم جميعاً، ولا تحتاج إلى اعترافٍ مُنشئٍ لها، وإنما قد تحتاجُ إلى اعترافٍ كاشفٍ عنها ومقررٍ لها؛ مثلما فعل عمر بن الخطاب في حادثة الفتى القبطي الذي ضربه ابن والي مصر عمرو بن العاص، وقولته الخالدة: «متى استعبدتم الناس وقد خلقتهم أمهاتهم أحراراً؟»، وكما فعل بعد ذلك بقرون الذين وضعوا ميثاق حقوق الإنسان بالإعلان العالمي المشتهر في سنة 1948م. كذلك فإن الحريةَ قيمةٌ كبرى وقائمةٌ بِذاتِها، وهبةٌ إلهيةٌ عُظمى لا فَضْلَ لِبَشَرٍ في وجودها، حتى وإن سَلَّمْنا بارتباطها هي والكرامة بالحقلِ الدِّلالي للحقِّ ومنظومتِه القِيَمِية.
قد يرى فريقٌ من الفلاسفة الحداثيين أن منطلقَ الإحساس بالحرية هو «الحق»؛ وذلك باعتبار أن جدلية «حق النفس وحق الغير» يمكنها أن ترسم معالم تعبيرِ الإنسانِ عن ذاتِه كما ترسم معالم الموانع التي يتعين احترامها. ورغم أهمية هذا الرأي فإنه غيرُ كافٍ في إِعطاءِ «الحرية» مكانَتَها والكشفِ عن مَرْكَزِيَّتَها في مَنظومةِ قِيَمِ «الفِطرة» ذاتِها. بحسب المرجعية المعرفية الإسلامية التي تنشد الحياة الطيبة للبشر جميعاً.
وفي رأيي أن ثمةَ أهمية معرفية كبيرة ــ في هذا السياق ــ لتحديد مدلول صفة الحداثة، وعملية التحديث وموقف كل من الفقيه والمثقف الحداثي منهما، وأثر ذلك على معنى «الحرية» باعتبارها أطروحة مركزية في الرؤية النهضوية الإسلامية.
معنى «الحداثة» يكاد يتطابق مع معنى «الثقافة» في وعي المثقف الحداثي في بلادنا. وهذا التطابق بين الحداثة و الثقافة نجده صدىً للتصور الأمريكي تحديداً؛ فهذا التصور يقزِّم الحداثة إلى مستوى التجاذب الثقافي، وإلى الجانب الأداتي التقني للتواصل الاجتماعي وحسب. وهذا ما لا نجده في التصور الفرنسي للثقافة مثلًا؛ إذ الحداثة عند الفرنسيين هي النقطة المفترض أن يعكس فيها المجتمع تصوره لذاته، ومحاولة حلحلة مشاكله عن طريق رؤية سياسية أساسها التفكر العقلاني وليس تداخلات ثقافية قد يغيب فيها البعد السياسي ويتراجع الجانب العقلاني للإنسان، لتجعله نتاج تجاذبات مختلفة، خاصة منها قوى السوق التي لا قلبَ لها ولا عاطفة، وهما معاً يختلفان قطعاً عن معنى «التحديث»؛ على مستوى التعريف الاسمي لكل كلمة من تلك الكلمات.
فـ«التحديث» هو في نظري: عملية إجرائية تعني اقتباس تقنيات جديدة في هذا المجال أو ذاك من مجالات الحياة، وهي عملية غير محايدة ثقافياً أبداً. وأقول أيضاً، إن ميدانها الأساسي هو البنيات المادية. أما الحداثة، فهي رؤية جديدة للعلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل والمجتمع والعصر والثابت والمتحول، لكن ليس هذا فقط؛ وإنما الحداثةُ في أوضح معانيها هي «رؤية جديدة للعالم»؛ أي أن ميدان عملها الأساسي هو «البنيات العقلية والوجدانية».
لكنها إذا كانت كذلك؛ ألا نكون قد أزلنا الحد بينها وبين مفهوم «الثقافة»، وجعلناهما شيئاً واحداً؟ أليست الثقافة هي رؤية عامة، وطريقة نظر للحياة، وحالة فكرية تشمل المجمتع كله مع بعض التباينات هنا وهناك؟! أو هي إجابة على سؤال مركزي هو «لماذا نعيش»؟ وإذا كانت كذلك، وهي في رأينا كذلك، فهل يصح أن نطابقها مع «الحداثة» المرتبطة بتجربة المجتمعات الأوربية/الغربية وحدها؛ وبما أجابت به على ذلك السؤال المركزي «لماذا نعيش»؟
تؤكد الفلسفة الإسلامية أن الإنسان المستجيب لنداء الفِطرةِ، هو الذي توافَقَ إيمانُه وعملُه مع المُخَطَّطِ التكويني الذي صَوَّره اللهُ عليه ويعيش في نوره ويهتدي بهداه. وآياتُ «التذكير» بهذه الحقيقة كثيرة في القرآن، ومنها قوله تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ﴾ (الغاشية21ـــ22 ). وقولُه تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ﴾ (الأعراف: 172). فالإشهادُ هنا على أوَّلِ مُرتَكَزاتِ الفِطرة وأعظَمِها وهو «توحيد الله سبحانه»، وإقرارُ جميعِ بني آدم بربوبيته وهم بَعدُ في عالَم «الذَّرِّ».
والآيةُ مُترَعةٌ بالمعاني التي تُعَزِّزُ فرضية: أن الفطرة هي القاسم المشترك الأعظم بين بني البشر. كما يُصبح الاستدلالُ شاملاً باستقراء جميع آيات التذكير بالفِطرةِ ومُرادِفاتِها في القرآن، واستخلاصِ دلالاتِها ومكوناتِه. وهذا الاستقراءُ بات عملاً ليس عسيراً بِفَضْل أعمال الفهرسة القرآنية، وبمساعدة برامج البحث عن ألفاظ القرآن ومعانيها التي توفِّرُها الوسائطُ الإلكترونيةُ بيُسْرٍ ودِقَّةٍ في آنٍ واحدٍ.
إن علينا أن نولي اهتماماً كبيراً لجوانب النهضة الروحية والمادية معاً، كأسس لازمة للحياة الطيبة، وذلك في مواجهة الأفكار التي تروجها الاتجاهات العلمانية الداعية لاقتفاء أثر الغرب في كل شيء، حتى في الفصل التعسفي بين الناحيتين المادية والروحية. إن الأمة تحتاج في نهضتها إلى الإيمان القوى المرتكز على قواعد ثابتة من روحها ونظريتها، وإلى القوة المادية التي يظهر بها هذا الإيمان فيعرب للناس عن وجوده ويبرهن للخصوم على قوته وثباته.
ويشمل الجانب الروحي كأساس للنهضة مجموعة من الأخلاقيات والفضائل النفسية كلها ترتبط وتصدر عن «الإيمان بالله»؛ هذا الإيمان الذي يقتضي الإيمان بعظمة الرسالة الإسلامية، والاعتزاز باعتناقها والأمل في تأييد الله لأهلها لخير الإنسانية جمعاء، وليس لخير أمة المسلمين وحدهم.
ولهذا فإن من المهم تبديد مشاعر اليأس لدى أبناء الأمة وترسيخ الأمل في نفوسهم. وكل والعبر والعظات التي أشار إليها القرآن والتي نبهت إليها السنة وكذلك عبر التاريخ وسنن الاجتماع، كلُّها تؤكد ما ذكرنا؛ فالقرآن يضع اليأس في مرتبة الكفر، وكذلك يقرن القنوط بالضلال: ﴿قال ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون﴾ (سورة الحجر، الآية 56) وإن القرآن ليقرره ناموساً كونياً لا يتبدل ونظاماً ربانياً لا يتغير أن الأيام دول بين الناس وإن القوى ( الغرب الآن) لن يستمر على قوته أبد الدهر، والضعيف (أمة المسلمين الآن) لن يدوم عليه ضعفه مدى الحياة، ولكنها أدوار وأطوار تعترض الأمم والشعوب كما تعترض الآحاد من الأفراد.
ومن الأخلاق المرتبطة بالجانب الروحي والتي يجب أن يتحلى بها إنسان النهضة الإسلامية المنشودة «خلق الصبر»، وهو أول اللبنات القوية في بناء الأمم الناهضة، وذلك هو السر في أن الله فرضه على المؤمنين وأمرهم به «فلا نهوض إلا بعزيمة ولا نصر إلا مع الصبر». إن تلك الأخلاق وغيرها من الفضائل لن تأتي من «الغرب» صاحب المدنية الحديثة؛ إذ إنه مفتقر إليها أصلاً، وإنما مصدرها الوحيد بالنسبة لشعوب الأمة العربية والإسلامية هو «الإسلام».
وإذا كنا نرى ضرورة قيام النهضة على أسس تجمع بين الروح والمادة، فإن أنصار التغريب ما زالوا مصرين على آرائهم في ضرورة تقليد الغرب وإلقاء قنبلة الاستسلام للأوربي – حسب وصف على شريعتي – هذا في الوقت نفسه الذي سبق أن انتقد فيه كبار مفكري الغرب حضارتهم ويضجون بالشكوى من المأساة الروحية التي تعيشها المجتمعات الغربية ومن هؤلاء على سبيل المثال: المؤرخ الإيطالي الشهير فريرو الذي عبر عن تلك المأساة في قوله:
أعتقد أن الشرق والغرب يلتقيان في ذهن كل فرد متحضر … إن الشرق اليوم في أمس الحاجة لأسباب حضارتنا المادية،ونحن كذلك في أشد الحاجة لأصول حضارة الشرق الروحية… لهذه الأسباب نتجه بقلوبنا صوب ماضي الشرق الذي توشك أن تهدم حضارتنا بقاياه.
علينا أيضاً ألا نغفل الجانب المادي كأساس للنهضة، وأن نؤكد أهميته الروحية ذاتها ومنظومة الأخلاق الفاضلة التي حض عليها الإسلام. وإذا كان كثير من الناس يظن أن الشرق تعوزه القوة المادية من المال والعتاد وآلات الحرب لينهض ويسابق الأمم التي سلبت حقه وهضمت أهله، فإن ذلك صحيح ومهم، ولكن أهم منه وألزم القوة الروحية من الخلق الفاضل والنفس النبيلة، والإيمان بالحقوق ومعرفتها، والإرادة الماضية في سبيل الواجب، والوفاء الذي تنبني عليه الثقة والوحدة، وعنهما تكون القوة. إن العالم الإسلامي لو آمن بحقه وغير من نفسه واعتنى بقوة الروح وعنى بتقويم الأخلاق لأتته وسائل القوة المادية من كل جانب وعند صحائف التاريخ الخبر اليقين.
إن التراث الروحي «لأمتنا» إذا فهمناه و قُدمناه بشكل صحيح، سيكون من شأنه أن ينقذ حضارة الغرب الحديثة من عثراتها الروحية، بل إن الغرب نفسه مضطر إن عاجلاً أو آجلاً إلى الاقتباس من «روحانية الشرق» لتتكامل مع مادية الحضارة المعاصرة.