قيمة الحقيقة في زمن النيوليبرالية
نعيش اليوم في زمن الأخبار الكاذبة والأجندات السياسية المتضاربة والمعلومات المُضللة. لم تعد الحقيقة الموضوعية والمحايدة تجذب انتباه القرّاء ومُتصفحي الجرائد الإخبارية بل والأهم من ذلك، لم تعد الحقيقة تُبنى على منطق عقلاني محايد وعملية تفكير عميقة، كما أن قيمة الحقيقة أصبحت قيمة نفعية محضة.
صحيح أنه لا وجود لحقيقة مطلقة لا تشوبها عيوب، وأن مفهوم الحقيقة يختلف من شخص لآخر بناء على المعتقدات، إلا أن هناك عددًا هائلًا من الحقائق التي بُنيت على أساس علمي ويصعب نكرانها، إلا إذا كفر المرء بالمنطق والعلم بصفة نهائية لا رجعة فيها.
اليوم وفي زمن سادت فيه قيم نيوليبرالية اجتماعية واقتصادية، لم تعد الحقيقة تعني شيئًا إن كانت لا تخدم الأجندة السياسية لهذا التيار الفكري، فرغم أن مفهوم الحقيقة لا يزال يعتبر إشكالًا أبستمولوجيًا ومفهومًا مجردًا مستعصيًا عن التعريف، فإن الحقيقة باتت تتخذ أشكالًا مختلفة وتُبنى على أسس المصالح السياسية والاقتصادية للقوى الكبرى.
وأمام التلاعب السلس بمفهوم الحقيقة، فلا يسعنا إلا التساؤل عن مختلف المواقف الفلسفية حول الحقيقة وقيمتها.
مواقف فلسفية مختلفة حول قيمة الحقيقة
من منظور فلسفي، لطالما اختلفت المواقف حول الحقيقة بوصفها قيمة. فإذا كان الفيلسوف الألماني «إيمانويل كانط» يرى أن الحقيقة كقيمة هي غاية في ذاتها، أي أنها ليست مجرد أداة نفعية لتحقيق أغراض ومصالح خاصة، فإن الفيلسوف الأمريكي المعاصر «وليام جيمس» كان ممّن يزعمون أن للحقيقة بعدًا براغماتيًا، وأنها لا تكون ذات قيمة إلا إذا تحقّقت من خلالها الأغراض وكانت مُدرة للنفع بشكل أو بآخر، وإلا، فإن قول الحقيقة فقط لأجل قول الحقيقة من دون محاولة الانتفاع بها ليس إلا سخفًا وترفًا أخلاقيًا.
يمكننا ملاحظة هذه المفارقة في واقعنا المعاش والميدان السياسي، حيث تُشكَّل الحقيقة حسب أهواء صانعيها من سياسيين وقادة أمم ودبلوماسيين، فلا يسع المواطن البسيط سوى التصديق والطاعة وتجديد الولاء للدولة أمام التجنيد السلطوي للعلم، واستخدام ألسنة الخبراء لإخضاع الفرد الذي لا يملك أي قدر من الاستقلالية، أمام القرارات التي تفرضها حكومات تدّعي التمسك بالقيم الديمقراطية.
أمّا تفشي القيم النيوليبرالية في مجتمعاتنا على اختلافها، فقد جعل الخضوع القسري لهذه القيم والاحترام الأعمى للقانون (على الرغم من كونه منظومة قيمية وضعية لا تُقاس بها الأخلاقية الإنسانية للفرد) أمرًا ضروريًا لمّن يريد العيش في المجتمع من دون أن يصبح منبوذًا، يُشار إليه بالبنان بسبب مخالفته لهذا التيار الفكري، الذي يدّعي الإنسانية تارة ويُرحِّب بالإمبريالية- واستغلال دول الجنوب مقابل رفاهية دول الغرب- تارة أخرى.
يزعم الليبراليون الجدد أن الحرية هي أساس هذا التيار الفكري، ولكنك وبمجرد أن تُعارِض مفاهيمهم عن الصواب والخطأ وتتبنى أفكارًا راديكالية في ما يخص الحرية، أو تُظهِر وعيًا طبقيًا في أوساطهم، تصبح فردًا غير مرغوب فيه وشخصًا رجعيًا ذا فكر تقليدي. أمّا إذا تجرأت وقررت التصدي للنيوليبرالية، فإن بلدك وشعبك وكل أفراد أسرتك ستعانون أثر العقوبات الاقتصادية التي يحق لهم وحدهم (دول الغرب) أن يثأروا من خلالها من كل من يحيد عن الصواب، عن الحقيقة التي يصنعونها ويلقنوننا إياها.
الحقيقة وحرب الطبقات
يُلقننا آباؤنا ومدرسونا أن قول الحقيقة واجب أخلاقي، لكننا نصل مرحلة من المراحل في حياتنا تختلط فيها الحقيقة بالبهتان، ونجد أنفسنا نُردِّد رواية الرجل الأبيض مفتونين بالوهم الذي صنعه هذا الأخير، لأننا لم نمارس قول الحقيقة اقتناعًا منّا بكونها واجبًا أخلاقيًا. سواء أكانت الحقيقة نتيجة بحث علمي أو معلومة عسكرية في منتهى السرية، لم يعد في وسع المواطن العادي الجزم بصحتها مهما تراكمت الحجج وصادقت المصادر.
إذا كانت الحرب خدعة، فإن السياسة مربى الخدع والألاعيب، وهي التي تدفع المفكر والمحلل السياسي والفيلسوف والعالِم للكذب. والتحلي بالخداع يعد جزءًا لا يتجزأ اليوم من الممارسات الدبلوماسية والخطط العسكرية. فإذا كان السياسي المحنك يتحلى بصفة الاحتيال والخداع في مواجهته للعدو العسكري، ما الذي يمنعه إذن من ممارسة الخداع نفسه والتلاعب بالحقيقة في مواجهته لعدوه اللدود في حرب طبقية مشتعلة بين الطبقة البروليتارية والطبقة الحاكمة، والتي لطالما كانت مستعدة للقضاء على كل من يقاسمها الماء والهواء؟
ورغم احتدام توتر علاقة الطبقة الكادحة بنظيرتها الحاكمة، لا نزال نُصدِّق نسختهم من الحقيقة، ولا نتوقف لنتساءل عن مدى صحة ما تُلقنِّنا إياه أنظمة مسلحة بأجهزة إعلامية وجسد من العلماء والخبراء، بل حتى أننا نُفضِّل أن نُخوِّن بعضنا البعض على أن نستسلم للحظة شك ونعيد التفكير في مدى سلامة مصيرنا في أيدي أغنياء البلد وأقويائها.
يضعوننا في برامج ويشاهدون تصادم آرائنا حول مختلف المواضيع، وهم على علم بأنهم أحكموا القبض على زمام الأمور بغض النظر عن آرائنا ونقاشاتنا العقيمة، التي ليست سوى وسيلة لتوسيع الفجوة بين أبناء الشعب الواحد والطبقة الاجتماعية الواحدة.
يراقبون تصادمنا كما لو كنّا قطيعًا من الثيران الهائجة؛ هذا يُخوِّن وذاك يستنكر ويكفر، والآخر يقاتل ببسالة ليثبت صحة رأيه، في حين أن أولي الأمر قد قرّروا بالفعل ما يجب فعله. ثم إن الحقيقة تصلنا على شاكلة أخبار يومية منتظمة، فلا نشعر بالحاجة الماسة للبحث عنها والتأكد منها أو استسقاء معلومات أخرى من مصادر غير حكومية، ونُسلِّم أمرنا لأولي أمرنا، لأن السمع والطاعة هي أولى الدروس التي علمونا إياها في مدارس الوطنية، حتى إن درس الخضوع هذا والمذلة قد حفظناه عن ظهر قلب، قبل أن نعرف للحقيقة بعدًا أبستمولوجيًا.