يوتوبيا أحمد خالد توفيق والإدراك الفائق للحواس
مفتتح لابد منه
ليس لحاقاً بتريند، ولا ركوباً لموجة، الرجل لم يكن يوماً بالنسبة لنا مادة للكتابة، لكن لأنه مر من هنا، وكان يحبنا ويقدرنا في «إضاءات»، حق علينا أن نقوم بأرشفة لرواياته التي لم نلحق بها من قبل لأنها أقدم من موقعنا، لهذا – ولهذا فقط – نتعرض اليوم لأول روايات د. أحمد خالد توفيق «يوتوبيا»، مع علمنا الكامل أنها قتلت بحثاً في وقتها، ولكن لكل من لم يقرأ عنها في زمنها، هذا المقال له، لأننا سنظل نحتفي بالأستاذ للأبد وحتى تحترق النجوم.
الإدراك الفائق للحواس ESP
الإدراك الفائق للحواس هو مجموعة من الأفعال اللاإرادية التي يقوم بها الدماغ ولا تنتمي للحواس التقليدية، من ضمنها حاسة الاستبصار، أي القدرة على توقع الأحداث قبل وقوعها، هذا الإدراك يحدث بشكل غير واع ولا يمكن التحكم فيه إلا في مستويات متقدمة جداً.
جاء د. أحمد خالد توفيق من هذه المنطقة، منطقة الميتافيزيقا والإدراك الفائق للحواس وألاعيب الدماغ وأجواء «جوزيف بانكس راين» والمختبرات النفسية والقدرات الخارقة التي يمكن أن تكون في بعضها مرعبة، هذا هو ملعبه والمنطقة التي –كان!– يغزوها منفرداً، على الرغم من هذا فإنه عندما قرر أنه حان الوقت ليخرج من هذه المنطقة خرج إلى نقيضها تماماً، رواية مغرقة في الواقعية والبؤس رغم أنها تدور في المستقبل عام 2023، ورغم ذلك فإنها تحمل قدراً من عوالمه.
الرواية صدرت في 2008، أي قبل نحو عشرة أعوام من اليوم، وقد صرح د. أحمد خالد توفيق وقتها أكثر من مرة بأنه تعمد المبالغة في تخيل ووصف الأحداث كي يدق جرساً عالياً، لم يكن يعرف أنه لم يبالغ جداً، ففي العشرة أعوام التي تلت صدور الرواية، كان التدهور سريعاً للدرجة التي تجعل الرواية ليست مبالغة على الإطلاق، ورغم أن أحداثها تدور في المستقبل فإننا – ربما – سوف نسبقها.
عن الفقر والسياسة والأموال والمراهقين والوطن وأشياء أخرى
تدور الرواية بين عالمين، المدينة المسورة التي يسكنها الأغنياء يحرسهم أفراد منظمون من المارينز الأمريكيين، المتحكمين في الدواء والطعام والصحافة والبورصة، أبناءهم يعيشون حياة مرفهة جداً بلا رقابة حقيقية من أي نوع، يذهبون لمول «إيليت» ويتعاطون مخدر «اللفوجستين» ويستمعون لموسيقى «الأورجازم»، يمارسون كل أنواع الترفيه الممكنة حتى يستفذوها جميعاً ثم يخترعون لعبة جديدة تصلح للتفاخر فيما بينهم، يخرج الشجاع منهم خارج «يوتوبيا» ليصطاد أحد «الأغيار» كما تسميهم الرواية، ويعود من المغامرة بتذكار هو جزء من جسد المقتول.
أما عالم الأغيار فهو عالم السواد الأعظم من المصريين، بلا أعمال سوى خدم للأثرياء، بلا مستشفيات، ولا علاج، ولا شرطة، ولا مترو أنفاق، ولا خدمات من أي نوع، يأكلون هياكل الدجاج ويصطادون الكلاب من الشوارع للحصول على اللحم، يغرقون في الجهل والتغييب والتهميش والمخدرات، يمارسون الدعارة كالحيوانات ولا يصلحون لأي شيء.
يخرج أحد المراهقين الأثرياء بصحبة فتاته للصيد فيقابل أحد الأغيار وأخته، يتشابك عالميهما وتتفاقم الأحداث حتى تأتي النهاية التي رغم قسوتها الشديدة تنبيء بأمل يلوح من بعيد رغم أن الرواية تنتهي قبل تأكيده.
لقد كان يعرف!
صدرت الرواية في 2008، أي قبل الثورة بالطبع، لم تكن الأمور وصلت لهذه الدرجة من التوحش، التضخم الذي عانى منه المصريون في الرواية والذي كان السبب الأول فيما حدث لهم، تراجع مستويات التعليم، الكذب الصريح من ذوي السلطة، حتى احتماء الأغنياء بالسكن في الكومباوندات وتركهم لكل الأماكن الأخرى، العلاج المغشوش ثم الارتفاع الجنوني في أسعار الدواء المستورد، تدهور الخدمات العامة كلها بشكل ملحوظ، كلها أشياء لم تكن واضحة جداً في 2008، كانت موجودة بالطبع وبنسبة كبيرة ولكننا لم نكن وصلنا بعد لدرجة الخراب في الرواية، والذي نهرول نحوه الآن مسرعين بخطى واسعة.
في الرواية تجد مقاطع كاملة منقولة من دراسات حقيقية، كإحصاءات علمية وتقارير، فالرواية تتضمن جزءاً من تقرير للدكتور أحمد عكاشة عن معدلات الإدمان في مصر، وتقرير عن العنف ضد النساء مأخوذ من ملتقى الحوار للتنمية وحقوق الإنسان، وأخبار حقيقية مقتطعة من صحف ومواقع إلكترونية مصرية، كل ذلك كان بمثابة قطع اللغز التي جمعها د. أحمد خالد توفيق ووضعها جنباً إلى جنب لتشكل الصورة النهائية الكبيرة التي لم يكن أحد يلتفت لها وهي مبعثرة.
لماذا رواية كبيرة؟
كان بإمكان د. أحمد خالد توفيق أن يضمن أفكار روايته تلك في إحدى السلاسل التي يكتبها، كان من الممكن مثلاً أن يجعل سالم وسلمى يزورون أرضاً تدهورت فيها مصر حتى أصبحت كما هو حالها في الرواية، وكان سيضمن جمهوره الذي يتلهف على أي حرف يكتبه، فلماذا جازف وكتبها؟
الرواية بها مساحة أوسع من الحرية التي لا تتيحها له السلاسل، فجرعة السياسة والجنس عالية – ليست فجة ولكنها موجودة – في الرواية، الشيء الذي صدم قراءه الذين كانوا يخطون نحو الشباب وقت صدور الرواية، ولكنه رغم صدمتهم هزهم بعنف من الداخل، فكان من السهل أن تجد الشباب يصرخون بعدها بثلاثة أعوام أنهم يفعلون ذلك حتى لا نصبح مثل يوتوبيا.
يوتوبيا كانت رواية جيدة جداً، كانت تسبق الأحداث وترى المستقبل بوضوح، وكان كاتبها – كما كان دوماً – سابقاً لعصره ومستبصراً بالمستقبل، وحاملاً هم الوطن والشباب الذي عاش لهم عمره، وجعلهم يقرؤون.