في ظل هيمنة اقتصاد الخدمات: هل تعود أمريكا للتصنيع من جديد؟
ذهبت مجلة الشؤون الدولية «فورين أفيرز» في تقريرها الصادر مؤخرًا بعنوان: «فلنُعِد أمريكا إلى التصنيع من جديد»، إلى أنه رغم اختلاف توجهات مرشحي الانتخابات الرئاسية الأمريكية لعام 2016، إلا أنهم اتفقوا على شيء واحد تقريبًا: يجب إعادة وظائف التصنيع للولايات المتحدة.
لنُعِد أمريكا للتصنيع من جديد
في أبريل/نيسان الماضي، وجهت هيلاري كلينتون حديثها لجمهور ولاية ميتشغان قائلة: «نحن بنّاؤون، علينا العودة للبناء!» وقال عضو مجلس الشيوخ بيرني ساندرز، منافسها في الانتخابات الديمقراطية التمهيدية، إن قطاع التصنيع «يجب إعادة بنائه لتوسيع الطبقة الوسطى».
كذلك أدان المرشح الجمهوري، والرئيس القادم، دونالد ترامب الصفقات التجارية السيئة التي سرقت الوظائف الجيدة من البلاد، حيث سأل حشدًا في نيو هامبشاير سبتمبر/أيلول الماضي: «صُنِعَ في أمريكا، أتذكرونها؟ صرتم ترونها أقل فأقل؛ سنعيدها».
صحيح أن كثيرًا من الشركات نقلت مصانعها خارج الولايات المتحدة على مدى العقود الأربعة الماضية، حيث انخفض العدد الإجمالي لوظائف التصنيع بحوالي الثلث منذ الثمانينيات، لكن توجد أخبار جيدة؛ يمر قطاع التصنيع في الولايات المتحدة بما يشبه النهضة. فقد تعاون رفع الأجور في الدول النامية – الصين على الأخص – وزيادة الإنتاجية الأمريكية على إغراء المصنّعين، الذين استجابوا فعلًا بطرح حوالي نصف مليون وظيفة منذ 2010.
لكن هذه الوظائف التصنيعية الجديدة لا تشبه التي خسرتها الولايات المتحدة في العقود الماضية، فالعمال في الوظائف التصنيعية المعاصرة ليسوا مضطرين لقضاء أيامهم أمام فرن ساخن مثلًا لكن أمام شاشة حاسوب، وبالتالي يجب عليهم تعلُّم القليل من البرمجة والهندسة الكهربائية وعلم (الروبوتات) للحصول على تلك الوظائف ذات الأجور الجيدة، والتي لا تتطلب الكثير من المهارة أو المؤهلات التقنية، وبالتالي لا تستدعي دراسة جامعية لمدة أربع سنوات.
ويتنبأ التقرير أنه فيما بين عاميّ 2012 و2022، ستمثل هذه الوظائف نصف الوظائف الجديدة المطروحة في الولايات المتحدة. لكن المحزن في الأمر هو أن الولايات المتحدة غير مستعدة للاستفادة من هذه الفرصة. ففي ولاية نيويورك على سبيل المثال، 25% تقريبًا من هذه الوظائف لن يتم شغلها، وتبعًا لاستطلاع أجرته شركة الاستشارات ديلويت عام 2015، يتوقع 82% من رجال التصنيع أنهم لن يتمكنوا من إيجاد عدد كافٍ من العمال لتوظيفهم. يتزامن هذا مع وجود عدد ضخم من الشباب الأمريكي العاطل، وقد أضناه البحث عن عمل.
تاريخ محاولات الإصلاح التعليمي في الولايات المتحدة
كانت الولايات المتحدة تتبع نظامًا شبيهًا بالنظام الذي تتبعه ألمانيا اليوم، والذي دفع معدلات بطالة الشباب بها لانخفاض تاريخي، وهو يقوم على المزج ما بين التعليم المدرسي والخبرة العملية، لكن ضعُفَ التزامُها به بعد عقود من الإهمال الحكومي والنفور الشعبي من العمل اليدوي. فما القصة وراء ذلك؟
في السنوات التالية للحرب العالمية الثانية، تبنت الولايات المتحدة التعليم المهني، وهيأت المدارسُ الثانويةُ طلابَها لوظائف تصنيعية كان التنافس عليها كبيرًا، وكان بالولايات المئات من مدارس التعليم المهني، حيث يدرس الطلاب اللحام والإنشاءات والهندسة الكهربائية بجانب المناهج الدراسية الثانوية المعتادة. وقد ساعدت هذه المدارس على خلق طبقة وسطى مزدهرة من أصحاب الوظائف التصنيعية.
لكن بحلول الستينيات، بدأت الوظائف المكتبية تتقدم على الوظائف التصنيعية في الأعداد والمكانة مع هيمنة القطاع الخدمي على الاقتصاد. ومما زاد الطين بلة، قانون التعليم المهني الذي وافق عليه الكونجرس، وقد قدم تمويلات حكومية لتدريب الطلاب ذوي الظروف الاجتماعية والاقتصادية والأكاديمية السيئة للحصول على وظائف تصنيعية.
وهذا القانون رغم حسن نيته، إلّا أنه ساهم في تشجيع الشعب على الربط بين التعليم المهني والشباب المضطرب أخلاقيًا ونفسيًا. وفي العقد التالي، عام 1972، اكتشف عالم الاجتماع ريتشارد سينيت أن كثيرًا من الشباب يخجلون من انتماء والديهم للطبقة العاملة وأن الآباء يشعرون بتزايد المسافات بينهم وبين أبنائهم الذين يحصلون على وظائف أكثر احترامًا من وظائفهم. وقد تطور الأمر حاليًا، وتعمّقت الوصمة، فالأهل في أفقر الأحياء مقتنعون بأن دخول الجامعة أساسي للحصول على وظيفة جيدة وأن وظائف الطبقة الوسطى اختيار متدنٍ لأبنائهم.
تسارع الخطو مبتعدًا عن التعليم المهني في الثمانينيات، حين تسبب ركود اقتصادي استمر 14 شهرًا في أزمة ثقة بالتعليم الأمريكي عمومًا. وقد حذرت اللجنة الوطنية للتميز في التعليم، التي شكلها الرئيس رونالد ريجان، من تخلّف الولايات المتحدة عن دولٍ كألمانيا واليابان في الاختبارات الأكاديمية الدولية.
ورغم أن الحكومة لم تقم حينها بتعديلات حقيقية، إلا أن تأكيدات اللجنة على ضرورة الالتفات لتطوير الجانب الأكاديمي من التعليم ظلت ماثلة في الأذهان، حتى عام 2001، حين بدأ الكونجرس بأخذ الأمر على عاتقه رسميًا وخصص تمويلات للحصول على نتائج أكاديمية أفضل. وقد نتج عن هذا ارتفاع معدلات التخرج من المدارس الثانوية ونسبة الطلاب الدارسين لمناهج رياضيات وعلوم متقدمة. لكن، مع ذلك، ظلت الولايات المتحدة متخلفة في نتائج الامتحانات الدولية.
ومع تصدر المخاوف بشأن النتائج الأكاديمية في البلاد كان المتخصصون يعلنون قلقهم بخصوص اتجاه ثلاثة أرباع الشباب من خريجي المدارس الثانوية للبحث عن عمل بدلاً عن دخول الجامعة. ومع تقلص فرص توظيفهم، وانخفاض أجورهم، يتهددهم خطر التحول إلى «طبقة دنيا حضرية»، حسب وصف عالم الاجتماع ويليام جوليوس ويلسون لهؤلاء العاطلين الخاملين المبتلين بمختلف المشاكل الاجتماعية كالطلاق والأزمات الأسرية والأطفال المحكوم عليهم بالسير كوالديهم في طريق الفقر.
عام 1994، قرر الرئيس بيل كلينتون ووزيره للقوى العاملة روبرت رايخ التدخل.. اقترحت الإدارة قانونًا أقره الكونجرس تحت اسم (من المدرسة إلى فرص العمل)، وهو يقدم تمويلات حكومية لتشجيع الولايات والمقاطعات على تصميم برامج تربط المدارس الثانوية والكليات المجتمعية بالشركات والمصانع ما يتيح للطلاب الجمع بين الخبرة الوظيفية والتعليم المدرسي.
وكحالِ كلِ التدخلات الحكومية الكبيرة، نجحت بعض عناصر البرنامج وأخفقت أخرى. فقد رفع هذا البرنامج من معنويات الطلاب الأقل اهتمامًا بالدراسة الأكاديمية وزاد من معدلات الانتظام في المدارس. لكنه فشل في تحقيق هدفه الرئيسي: رفع معدلات التوظيف وزيادة الأجور للشباب من غير الحاصلين على مؤهلات جامعية.
كان السبب الأكبر في هذا الفشل هو عدم اقتناع أصحاب الأعمال بأن فترات التدريب هي فترات تجريب حقيقية يتبعها توظيف للمشتركين، وقد أكد استطلاع أُجرى عام 1997 في ولاية ويسكونسن، حيث وُجد أن السبب الأكثر شيوعًا لاشتراك أصحاب الأعمال في البرنامج هو شعورهم بواجب وطني تجاه المشاركة المجتمعية؛ وأن نسبة ضئيلة فقط كانوا يرون في البرنامج سبيلًا حقيقيًا للمساعدة على التوظيف.
وحين انتهى العمل بالقانون في 2001، لم يقترح الرئيس جورج بوش أو أيّ من أعضاء الكونجرس تمديده، بل إن إدارة بوش اقترحت بين عامي 2006 و2008 تخفيض الإنفاق الحكومي على التعليم المهني بـ 1.2 بليون دولار، زاعمين أنه «لا دليل على نتائج إيجابية لصالح الطلاب» ورغم أن الكونجرس عارض ذلك، إلا أنه يعكس ضعف ثقة الحكومة في إمكانيات التعليم المهني.
وهكذا، يواجه الشباب الأمريكي اليوم، بفضل تلك المتتاليات من قصر النظر، مستقبلاً قاتمًا.
لنتعلم من الأستاذ!
ومن هنا يتجه التقرير للنظر في الحالة الألمانية، فعلى خلاف الولايات المتحدة، لم تتخلَّ ألمانيا عن التعليم المهني، وسنويًا يختار حوالي 55% من الطلاب الألمان دخول المدارس التقنية، حيث فترة الدراسة ثلاث سنوات، تتوزع على التدريب العملي مدفوع الأجر والتعليم الأكاديمي.
بعدها يتم إجراء امتحان وطني للطلاب يشمل 350 مهنة، من التصنيع للخدمات، لمنحهم شهادة تؤكد امتلاكهم لمجموعة مهارات تقنية محددة، وفي الغالب يلتحقون بالمصانع والشركات التي تلقوا تدريبهم بها. وكنتيجة لذلك، صارت معدلات البطالة بين الشباب الألمان 6.9%؛ الأقل في العالم الصناعي.
تملك الشركات الألمانية أكثر من 3000 مصنعٍ تابعٍ لها في الولايات المتحدة، لكن كلما افتتحوا مصنعًا جديدًا فوجئوا بقلة المهارات لدى الشباب الأمريكي. قررت بعض تلك الشركات حل المشكلة بنفسها. وكمثال على هذا، شركة MTU، الفرع التابع لشركة رولز رويس، التي افتتحت مصنعًا لمحركات الديزل في مدينة أيكن بولاية ساوث كارولينا عام 2010.
بعد إعلانها عن بدء التعيين، وشغل بعض الوظائف بالفعل، اكتشفت نضوب القوى الشبابية المؤهلة للانضمام إليهم في المنطقة المحيطة. لذا قرروا البدء في برنامج تدريب على غرار النموذج الألماني لإعداد الشباب للعمل لديهم ثم توظيفهم. وقد نجحت هذه المبادرة بتعاون الشركة مع المدراس الثانوية بالولاية. وتبعتها شركات أخرى بتطبيق البرنامج، والتفتت الولاية إليهم بإقرار تخفيضات ضريبية للشركات التي تقدم برامج من هذا النوع.
ولا تؤكد ألمانيا وحدها على أهمية التعليم المهني؛ حوالي 50% من خريجي المدارس الثانوية في الاتحاد الأوروبي مسجلون ببرامج مهنية. حتى في كوريا الجنوبية ذات التقاليد القوية الداعية للتعليم الأكاديمي، حوالي خُمس طلاب المرحلة الثانوية يتركز أغلب تعليمهم على المهارات العملية المطلوبة عالميًا. وفي المقابل، انخفضت نسبة الطلاب الأمريكيين المسجلين في التعليم المهني من 18% في أوائل الثمانينيات إلى 6% فقط حاليًا.
ورغم نجاح التعليم المهني في الكثير من الدول، يقابله التقدميون في الولايات المتحدة بمعارضة كبيرة، فهم يصرون على نيل كل الطلاب لدرجات جامعية. في رأيهم، يحصر التعليم المهني الطلاب في مسار متدنٍ عن أقرانهم، ويعزز الفوارق الطبقية، بما أن الطلاب الفقراء هم الذين سيلتحقون بهذا النوع من التعليم بسبب ظروفهم.
لكن التقرير يعارض هذا بالقول إن الأطفال الفقراء يعانون بالفعل من سلبيات اجتماعية وتعليمية لأسباب أخرى كثيرة من بينها التمييز العنصري والتمويل غير المتكافيء للمدارس وانخفاض أجور المدرسين وتكدس الفصول بالتلاميذ، لا بسبب التعليم المهني.
بل إن التعليم المهني قد يوفر لهم مخرجًا وحياة جيدة وفرصًا لرفع المستوى الاجتماعي إذا حصلوا على تعليم تقني جيد كأقرانهم في البلاد الأكثر تقدمًا، ما يوفر لهم استقرارًا، ولا يمنعهم من الالتحاق بالتعليم الجامعي إذا ما رغبوا في ذلك لمرونة النظام التعليمي في الولايات المتحدة عن ألمانيا مثلاً.
ما علينا فعله
على مدى العقود القليلة الماضية، كانت محاولات الحكومة الأمريكية لتحسين التعليم المهني عشوائية ومرتبكة، ولقد بدأت الحكومة الكثير من المشروعات بغير اهتمام كبير ثم تركتها بلا إنجاز. لهذا سيكون من الحمق التخلي عن شيء لم تبذل فيه البلاد قصارى جهدها بعد.
سبق وأن كانت هناك محاولات صغيرة كمحاولة شركة MTU السابق ذكرها، ومحاولة أخرى لوزارة القوى العاملة الأمريكية عام 2015 لإعداد 3400 متدرب جديد، وقد كانت جيدة، لكن لم تسفر عن نتائج عظيمة لصغرها المرعب بالنسبة لسوق العمل الأمريكي. لم يحدث أن كانت هناك محاولة جادة على المستوى الوطني بكامله.
يرى التقرير أنه لإحداث تأثير حقيقي يجب على الحكومة زيادة استثمارها في التعليم المهني، لكن عليها أيضًا تحديد المعايير المطلوبة لقياس كفاءة الطلاب على أساسها، وتقديم المساعدة للمدرسين، وتوفير المعدات المتطورة اللازمة، وتعزيز أواصر التعاون بين الحكومة وقطاع الصناعة. وفي هذا الصدد، بمقدورها الاستفادة من نموذج ولاية ساوث كارولينا بتقديم تخفيضات ضريبية للشركات التي تتعاون معها في تنفيذ البرامج التدريبية.
هناك نقطة أخرى، قد يكون التصنيع هو أوضح الاتجاهات أمام التعليم المهني، لكنه ليس الوحيد. ففي ألمانيا يتدرب الطلاب مع الممرضين والسباكين والميكانيكيين وتقنيي المعامل الطبية، مثلًا.
وقد ظهر من دراسات حديثة أن فوائد التعليم المهني تتجاوز مجرد تأمين حياة مزدهرة اقتصاديًا، فالتدريب الجاد وحسن التنظيم تبين أنه يحسّن من قدرات الطلاب على تشخيص المشكلات المعقدة وتحليلها وحلها، ويمكّنهم من الحصول على درجات أعلى في الاختبارات المدرسية العادية مقارنة بأقرانهم من الطلاب المرتكزة دراستهم على البرامج الأكاديمية فقط.
ويختتم التقرير مؤكدًا نقاطه الرئيسية؛ فعلى مدى فترات طويلة، لم يُنظر إلى ملف التعليم المهني إلا في فترات الركود الاقتصادي، ثم يجري التخلي عنه بعد استعادة الاقتصاد لعافيته، والنتيجة: مدارس بمعدات غير صالحة، ومدرسون بلا خبرات ممتازة، وليست هناك معايير كافية لتقييم الطلاب. إصلاح هذه المشكلات يتطلب التزامًا طويل الأجل من الحكومة. والنجاح في بناء نظام حقيقي للتعليم التقني سيساهم في استعادة إيمان الشعب الأمريكي بكرامة العمالة اليدوية ويمنح الشباب الفرص التي يتمتع بها أقرانهم في الخارج.