كل شيء مغلق في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، من المدارس والجامعات، إلى دور السينما والحدائق العامة، وحتى صلاة الجمعة تم إلغاؤها. لا شيء يحدث في إيران سوى أخبار متتالية كل يوم عن زيادة عدد الإصابات والوفيات بفيروس كورونا الجديد، وتكدس المواطنين أمام الصيدليات والمتاجر، لشراء الكمامات والسلع الغذائية.

في هذا الوقت من كل عام، كان الإيرانيون يستعدون لقضاء عطلة رأس السنة الفارسية أو عيد النوروز، والتي تمتد أسبوعين، كأطول عطلة في البلاد، لكنهم بدلاً من التخطيط للسفر وشراء الملابس ومستلزمات العيد، وجدوا أنفسهم يعيشون كابوساً جديداً يضاف إلى قائمة الكوابيس التي يمرون بها منذ عدة أعوام، فما الذي يحدث في إيران؟

البداية من مدينة قُم

منذ بداية يناير الماضي، بدأ الايرانيون في تداول بعض الأحاديث على وسائل التواصل الاجتماعي باللغة الفارسية، عن وجود فيروس كورونا الجديد الناشئ في الصين في بلادهم، لكن أنكرت وزارة الصحة الإيرانية كل تلك الأقاويل، مؤكدةً خلو البلاد من الفيروس. وبعد ثلاثة أسابيع من الإنكار الحكومي، أعلنت وزارة الصحة الإيرانية الأربعاء 19 فبراير/ شباط، عن وفاة أول حالتين جراء الإصابة بفيروس كورونا، في مدينة قم الدينية التي تبعد عن العاصمة طهران نحو 140 كيلومتراً.

لم يعلن وزير الصحة الإيراني سعيد نمكي عن تفاصيل العمر والجنس للحالتين، لكن جاء الإعلان الرسمي قبل الانتخابات البرلمانية بيومين فقط، مما أسهم في انخفاض نسبة المشاركة التي وصلت إلى 42%، وهي النسبة الأكثر تدنيًا منذ عام 1979.

تعتبر مدينة قم سابع أكبر المدن الإيرانية، ويبلغ عدد سكانها نحو مليون و200 ألف نسمة بحسب مركز الإحصاء الإيراني، بجانب الآلاف من الزوار الشيعة، الذين يأتون إلى المدينة من داخل إيران ومن البلدان المجاورة لزيارة ضريح السيدة فاطمة المعصومة بنت موسى بن جعفر الإمام السابع لدى الشيعة، كما كانت مدينة قم منذ فترة طويلة موطنًا لكثير من رجال الدين الشيعة، حيث يوجد بها أكبر الحوزات الدينية والجامعات.

بعد الإعلان الرسمي عن وجود فيروس كورونا في تلك المدينة التي تكتظ بالسكان والزائرين، رفضت وزارة الصحة الايرانية إقامة أي حجر صحي على المدينة، أو إغلاق الأضرحة والمساجد، ومن هنا انتشر فيروس كورونا بسرعة في مختلف المدن الإيرانية بحسب الأطباء الإيرانيين.

في 24 يناير، زعم النائب البرلماني أحمد أمير آبادي، عن دائرة قم، أن المدينة بها أكثر من 50 حالة وفاة بسبب فيروس كورونا وهو ما نفته وزارة الصحة على الفور. حينها أعلن نائب وزير الصحة، ايرج حريرتشى، أنه سيقدم استقالته لو تم إثبات صحة تلك الأرقام أو حتى نصفها، ووصف الدعوات لإقامة الحجر الصحي على المدينة لمنع انتشار المرض بأنها تشبه إجراءات الحرب العالمية الأولى، حين تفشي وباء الكوليرا والطاعون.

لكن عندما وصل عدد الوفيات إلى 6 حالات في مدينة قم، كانت تلك الأرقام في 25 يناير، قررت الحكومة إغلاق المدارس والجامعات في قم، وعدد من المحافظات الإيرانية.

إصابة نائب وزير الصحة بفيروس كورونا

وسط الخوف المنتشر بين الإيرانيين من سرعة انتشار الفيروس في البلاد، ظهر نائب وزير الصحة ايرج حريرتشي، في مؤتمر صحفي بجانب المتحدث باسم الحكومة ليطمئن الناس، لكنه في أثناء المؤتمر بدأ في التعرق الشديد والسعال، مما أثار الشكوك حول إصابته بالفيروس، وفي البداية نفى علي ربيعي المتحدث باسم الحكومة الأمر، ثم بشكل مباغت نشر نائب وزير الصحة مقطعاً مصوراً له، في الحجر الصحي، معلنًا أنه تم تشخيصه بفيروس كورونا، مؤكدًا قدرة البلاد على مواجهة تفشي الفيروس.

في نفس اليوم أعلن النائب البرلماني السابق، محمود صادقي إصابته بفيروس كورونا، لتتوالى أخبار المسئولين المصابين بالفيروس، حتى وصل عددهم إلى ما يقرب من 30 مسئولًا في الحكومة والبرلمان، ووفاة مستشار كبير للزعيم الأعلى الإيراني، آية الله علي خامنئي.

لكن، ما مصدر انتشار فيروس كورونا في إيران؟

حتى كتابة هذا التقرير، وفي آخر بيان لها، أعلنت وزارة الصحة الإيرانية الأربعاء 4 مارس/ آذار، عن وفاة 92 شخصاً بسبب فيروس كورونا، ووصلت حالات الإصابة إلى 2099 شخصاً.

في البداية، تساءل الإيرانيون عن سبب انتشار فيروس كورونا في بلادهم، وبالتحديد في مدينة قم، وانتشرت التكهنات التي تشير بعضها إلى عدم تعليق الحكومة الرحلات الجوية مع الصين، والبعض الاخر أشار إلى وجود العمال الصينيين في المدينة.

كانت قد صرحت الطبيبة مينو محرز، عضو جمعية الأمراض المعدية بوزارة الصحة، بأن السبب في انتشار المدينة في قم، هم العمال الصينيون المتواجدون بها. لكن هناك من يشير إلى الطلبة الصينيين، الذين جاءوا الى المدينة للدراسة في إحدى الجامعات الدينية، بداية شهر يناير/ كانون الثاني، يقول الصحفي الإيراني المقيم في مدينة قم، والذي رفض الكشف عن هويته، لـ«إضاءات»: «هناك نحو 700 طالب صيني، جاءوا من بلادهم في بداية شهر يناير، للتسجيل في جامعة المصطفى، دون إخضاعهم للحجر الصحي من قبل السلطات الإيرانية».

جامعة المصطفى، واحدة من أكبر الجامعات الدينية في إيران، والتي تستقبل سنويًا نحو 20 ألف طالب أجنبي.

هل ستصبح إيران مركزاً لتفشي الفيروس في المنطقة؟

في نهاية شهر فبراير/ شباط الماضي، كان قد انتشر فيروس كورونا في 11 مقاطعة إيرانية من أصل 31، حتى وصل الأمر في بداية شهر مارس الحالي، إلى انتشار الفيروس في نحو 25 مقاطعة.

ومع هذا الانتشار السريع للفيروس فى أنحاء إيران تزايد الشعور بالقلق من أن تصبح إيران هي المركز الرئيسي لانتشار المرض في منطقة الشرق الأوسط، خاصةً بعد أن أعلنت كل من: العراق، لبنان، قطر، الإمارات العربية المتحدة، الكويت، المملكة العربية السعودية، عن وجود إصابات بفيروس كورونا لأشخاص لهم تاريخ من السفر إلى إيران، وبالتحديد إلى مدينة قم الدينية.

يقول الطبيب الإيراني مهدي إسحاق، لـ«إضاءات»: «نتيجة التستر لعدة أسابيع على حقيقة انتشار الفيروس، وصلنا إلى هذا الانتشار الواسع، والذي من الممكن أن يهدد المنطقة بأسرها، إذا لم تضع الحكومة خطة محكمة لاحتواء تفشي الفيروس».

لا نثق في الأرقام الحكومية

تمر الجمهورية الإيرانية الإسلامية في الفترة الأخيرة بالكثير من الأحداث التي زادت من فجوة عدم الثقة بين الإيرانيين والسلطات، بعد محاولة الأخيرة التستر على تورط الحرس الثوري في إسقاط طائرة الركاب الأوكرانية في 8 يناير، وإخفاء الحكومة إلى الآن الأرقام الرسمية لضحايا مظاهرات منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، التي خرجت احتجاجاً على تقنين البنزين ورفع الأسعار.

يشك الأيرانيون حاليًا في الأرقام التي تصدر عن وزارة الصحة الإيرانية بخصوص الحالات المصابة بفيروس كورونا، جانب الشائعات التي تقال هنا وهناك عن أرقام إصابة أعلى بكثير من الأرقام الحكومية.

زهراء (30 عاماً)، تعمل في مجال الصحافة، واحدة ممن لا يثقون في البيانات الحكومية، تقول لـ«إضاءات»: «اعتاد المسئولون التستر على الحقيقة، في كل حادثة تمر بها البلاد، فما الذي يجعلني أصدق الأرقام الرسمية، أنا واثقة أن حالات الإصابة أعلى بكثير مما تعلن عنه الحكومة».

خسائر اقتصادية فادحة

عندما قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سحب بلاده من الصفقة النووية مع إيران في عام 2018، وأعاد فرض العقوبات الاقتصادية على طهران، مع تبني إدارته خطة أقصى قدر من الضغط تجاه إيران، عانى الاقتصاد الإيراني الهش بالفعل من العديد من الضربات، فقد انهارت العملة المحلية أمام الدولار الأمريكي وفقدت أكثر من نصف قيمتها، وزادت معدلات البطالة والتضخم، مع انهيار القدرة الشرائية للإيرانيين.

وبينما تحاول الحكومة الإيرانية وضع خطط للعبور من تلك الأزمة الاقتصادية، جاء فيروس كورونا، ليقضي على ما تبقى من أحلام للخروج من عنق الزجاجة.

عندما أعلنت الدول المجاورة لإيران، عن وجود حالات إصابة بفيروس كورونا بسبب القادمين منها، سارعوا في تعليق الرحلات الجوية من وإلى طهران، مما تسبب في خسائر مالية لقطاع الطيران المدني. يقول مسعود أسعدي ساماني، رئيس جمعية الخطوط الجوية الإيرانية لـ«إضاءات»: «جميع الدول المجاورة، علقت رحلاتها الجوية مع إيران، يتعين على شركات الطيران الإيرانية، دفع تكاليف إلغاء تلك الرحلات، وبالأساس قطاع الطيران بعد حادثة الطائرة الأوكرانية تعاني من خسائر مالية فادحة».

بجانب رحلات الطيران الخارجية، فقد ألغى العديد من الإيرانيين رحلاتهم داخل إيران، خوفاً من فيروس كورونا.

المطاعم والمقاهي، وحتى دور السينما، خالية تمامًا

في الأيام الأخيرة، أصدرت وزارة الصحة الإيرانية باستمرار تحذيرات من التواجد في التجمعات، والأماكن العامة، وقبلها كانت قد ألغت الحكومة كافة الأنشطة الثقافية والسينمائية. في محاولة لاحتواء تفشي فيروس كورونا.

حميد، الذي يمتلك مطعمًا في العاصمة الإيرانية طهران، يرى أنه إذا استمر الأمر كذلك، سيعلن إفلاسه قريباً، فيقول لـ«إضاءات»: «منذ عامين، ونحن نعاني من قلة الزبائن، خاصة بعد انهيار الريال الإيراني، وأزمة نقص اللحوم، قمت بتخفيض العمالة من 30 عاملاً إلى 15، وبعد فيروس كورونا، لم يعمل المطعم ساعة واحدة من وقتها إلى الآن».

أوقات سيئة بالنسبة لقطاع السياحة

وفقًا للبيانات الرسمية، تم إلغاء نحو 80% من حجوزات الفنادق لعطلة رأس السنة الفارسية، في وقت كان من المفترض أن يكون الأكثر نشاطًا لقطاع السياحة الإيراني.

كان يعاني قطاع السياحة الإيرانية من الكثير من العقبات في السابق بسبب التوترات بين طهران وواشنطن، خاصة بعد أن قررت الولايات المتحدة اغتيال الجنرال قاسم سليماني بداية العام الحالي. لكن ظل القطاع السياحي معتمدًا، على السياحة الدينية في قم ومشهد بالتحديد، لكن بعد أن أصبحت مدينة قم هي المركز الرئيسي لفيروس كورونا في البلاد، انتهى أمرها حتى إشعار آخر.

وكان قد صرح حرمت الله رفيعي، رئيس جمعية وكلاء السفر الإيرانيين، لوسائل الإعلام المحلية، بأن انتشار فيروس كورونا خاصة في ذلك التوقيت من العام، سيقضي على ما تبقى من قطاع السياحة الإيرانية.

العقوبات الأمريكية ساعدت على انتشار فيروس كورونا

ألقى الأطباء الإيرانيون باللوم على العقوبات الأمريكية المفروضة على بلادهم،على من تسبب في تدهور القطاع الصحي، وأضعف قدرته على مواجهة الانتشار السريع لفيروس كورونا بشكل جيد. إذ تعاني إيران من نقص شديد في الكمامات والقفازات الطبية، والمضادات الحيوية، والأجهزة الطبية، بسبب العقوبات الامريكية على القطاع المصرفي الإيراني، ولم تتمكن الحكومة من استيراد تلك اللوازم بشكل سريع.

يقول رامين فلاح، نائب رئيس الاتحاد الإيراني لمستوردي المعدات الطبية: «لا يوجد لدينا اختبارات فيروس كورونا، وهناك العديد من الشركات الأجنبية المستعدة لشحن مجموعة من الاختبارات لإيران، لكن بسبب العقوبات الأمريكية على البنك المركزي الإيراني، لا يمكننا الدفع».

من الناحية النظرية، من المفترض أن العقوبات الأميركية المفروضة على إيران تستثني استيراد الأدوية والسلع الأساسية، لكن في عام 2019 أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية عن العديد من الإرشادات التي يجب أن تتبعها البنوك والشركات الأجنبية للتعامل التجاري مع إيران. تلك الإرشادات والمعلومات تستغرق الكثير من الوقت، ولا يمكن تطبيقها في الوقت الحالي بحسب رامين فلاح.

في الثالث من مارس/ آذار، ألقى الزعيم الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي خطابه الثاني خلال أسبوعين، قائلًا: «لا أقصد التقليل من أهمية المشكلة، أو المبالغة في تقديرها، لكن هذه القضية لن تبقى طويلًا في بلدنا»، كما أعرب عن تفاؤله بهزيمة إيران لهذا الفيروس في أقرب وقت. لكن إلى الآن ما زالت الأمور في إيران لا تدعو إلى التفاؤل في البلد التي كانت تنبض بالحياة في هذا الوقت من كل عام، وأصبحت شبه مهجورة، يسيطر عليها اليأس والخوف.