انتفاضة 1972: حينما اعتصم «طلاب يناير» في ميدان التحرير
هي أغنية الراحل الشيخ إمام، وكلمات الشاعر أحمد فؤاد نجم، التي كُتبت تخليدًا لأحداث انتفاضة الحركة الطلابية في وجه الرئيس الراحل أنور السادات عام 1972، تفاعلت انتفاضة الطلاب مع المجتمع، وتفاعل المجتمع معها، فخرجت هذه الأغنية الخالدة وغيرها، لتُخلِّد شباب تلك الانتفاضة؛ أحمد عبدالله رزة، وأحمد بهاء الدين شعبان، وجلال الجميعي، وزين العابدين فؤاد، وشوقي الكردي.
كيف اندلعت الانتفاضة؟
من خطاب الرئيس أنور السادات أثناء لقائه بضباط القوات البحرية، في أبو قير: 22 يونيو/حزيران 1971
من خطاب الرئيس أنور السادات إلى الشعب: 13 يناير/كانون الثاني 1972
ما بين الخطابين تغيرت التصريحات وتبددت الآمال، فبعد أن وعد الرئيس الراحل أنور السادات بأن عام 1971 سيكون عام الحسم مع العدو الإسرائيلي، خرج ليلة 13 يناير/كانون الثاني 1972 يُلقي خطابًا، يُلمح فيه أن الأمور غير واضحة وغير محسومة مع حلفائه، وأن الموقف يغطيه الضباب.
شكَّل الخطاب صدمة للشعب، ولكنه كشف عن الروح الثورية لدى الحركة الطلابية التي انتفضت ووصلت إلى بيت السادات ذاته. لم تكن انتفاضة طلاب مصر حينئذ وليدة اللحظة، ولكنه كانت امتدادًا لما بدأ في أعقاب حرب 1967، حينما خرج الطلاب والعمال في فبراير/شباط 1968 احتجاجًا على الهزيمة والأحكام الهزيلة التي صدرت ضد قادة الطيران الذين اتُهموا بالمسئولية عن الهزيمة، ورغم اعتراف الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بأخطائه وإعطائه المزيد من الحريات للطلاب والعمال، وإعلانه بدء حرب الاستنزاف، فإن ذلك لم يكن كافيًا ليمحو آثار الهزيمة. فقد استمرت الانتفاضات، وخرجت المظاهرات، وبدأت حركة جماهيرية جديدة في التبلور، وشكَّل قوامها العمال والطلاب، انصبت مطالبها بشكل أساسي على تحرير الأرض وإزالة آثار العدوان.
توفي عبد الناصر، ولم يتمكن من تلبية تلك المطالب، وجاء من بعده السادات ليعد بتحقيقها، فتبدأ مرحلة جديدة من الأمل وتسود حالة من التوقعات المتفائلة، لكن لا يُكتب لها أن تكتمل، بسبب اندلاع الحرب الهندية الباكستانية وانشغال الاتحاد السوفيتي بها إلى الحد الذي لا يستطيع معه تقديم المساعدة لمصر، وفقًا لخطاب السادات.
أشعل الخطاب حالة من الغضب لدى الطلبة، وسرعان ما جاء الرد عليه في مؤتمر للطلبة في 15 يناير/كانون الثاني 1972، حيث آلاف المنشورات وصحف الحائط التي تنتقد الخطاب،وترفض استمرار حالة اللا سلم واللا حرب، وتطالب بخوض حرب تحرير شعبية شاملة لاستعادة الأراضي المحتلة بالقوة. لم تتوقف المطالب عند هذا الحد، بل تطرقت إلى الديمقراطية، وتشجيع حرية الصحافة، فضلًا عن قيام اقتصاد حرب، تقدم فيه كل طبقة اجتماعية تضحيات نسبية تُحدَّد على أساس قدرتها على المساهمة.
وما شجعهم على ذلك، وفاة عبد الناصر، ليس فقط كشخص، ولكن كشخصية وأيديولوجية، فالوقوف في طريق السادات وانتقاد النظام علنًا كان أمرًا أسهل كثيرًا ومقبولًا لعدد كبير من الطلاب، خاصة مع فكرة الحرية والديمقراطية التي طرحها السادات مع توليه الحكم، حيث وجد الطلبة أنفسهم قادرين على إطلاق حركة وطنية.
بالفعل تشكلت الحركة الطلابية من الطلاب الذين كانوا مُسيسين في عهد عبد الناصر. نفس الطلاب الذين عارضوا عبد الناصر بعد هزيمة 1967. تصاعدت حدة الحركة الاحتجاجية، ونُظمت المسيرات، وقامت الاتحادات الطلابية لكليات الآداب والاقتصاد والهندسة بالمسيرات والاجتماعات الجماهيرية، ووصلت إلى بيت الرئيس نفسه، ولمقر الاتحاد الاشتراكي.
تحول المؤتمر (15 يناير) إلى اعتصام، ما دفع الحكومة إلى التهدئة عبر إرسال «أحمد كمال أبو المجد» أمين الباب بالاتحاد الاشتراكي العربي للحوار مع الطلبة والرد على أسئلتهم، إلا أنه لم يتمكن من الرد على هذا الكم من الأسئلة الجريئة، وأعلن أن الرئيس وحده هو الذي يستطيع الرد عليها، فما كان من الطلبة سوى أن قاموا بطرده.
زاد الأمر من حالة الغضب بين الطلبة، وحملوا الرئيس مسئولية الأزمة، وفي 17 يناير/كانون الثاني نظَّم الطلاب مؤتمرًا بكلية الهندسة بجامعة القاهرة، اقترحوا تشكيل «اللجنة الوطنية العليا للطلاب في جامعة القاهرة» من ممثلين من مختلف الكليات، وتسليح الطلاب وتدريبهم عسكريًّا، كما أعطوا الحكومة مهلة يومين للرد على تلك المطالب. وبما أن الرئيس هو الشخص الوحيد الذي يستطيع الرد على تساؤلات الطلبة، فقد دعوا الرئيس إلى مؤتمر أكبر داخل الجامعة يوم 20 يناير/كانون الثاني.
خداع الطلاب واعتصام التحرير
خلال هذه التطورات اتخذ السادات عدة إجراءات للتهدئة وامتصاص الغضب، فأجرى عددًا من التغيرات بالحكومة، وشرع في إعداد الاقتصاد لمعركة التحرير، وفتح باب التطوع للجيش أمام الطلاب، إلا أن ذلك لم يُغير من موقف الحركة شيئًا، التي رأت أنها إجراءات عديمة الجدوى.
وبالفعل عقد الطلبة المؤتمر (20 يناير) ورغم تجاهل الرئيس لهم، أجروا عدة محاولات لحضوره عبر إرسال ممثلين لهم لرئاسة الجمهورية لمطالبته بالحضور والرد على الأسئلة، لكن دون جدوى فلم يحضر الرئيس.
أدى هذا الإخفاق في مقابلة الرئيس إلى موافقة الطلبة على اقتراح وزير الداخلية بحضور وفد منهم إلى مجلس الشعب لتقديم مطالبهم. بالفعل توجه الوفد إلى المجلس، وبعد أن تم الاتفاق على نشر بيان الطلاب في الصحف بعد إدخال بعض التعديلات عليه في مقابل إنهاء الاعتصام، تراجع النظام، وتم إبلاغهم أن الرئيس سيعقد اجتماعًا مع كل القوى الشعبية ومنهم الطلاب لمناقشة الوضع في غضون يومين تقريبًا. وهو ما لم يحدث.
أثارت تلك الخديعة الغضب مرة أخرى، فانطلقت المظاهرات والاعتصامات بجامعتي القاهرة وعين شمس، إلى أن اقتحمتهما قوات الأمن المركزي فجر يوم 24 يناير/كانون الثاني، واعتقلت نحو 1000 من الطلبة المعتصمين.وبالرغم من منع هؤلاء الطلبة من الهتافات فإنهم كانوا يطلقون الصفافير التى تؤدى نشيد «بلادى… بلادى… لك حبى وفؤادى»، وكان في مقدمتهم أحمد عبد الله رزة.
في صباح اليوم نفسه (24 يناير/كانون الثاني) فوجئ الطلبة باعتقال زملائهم فانطلقوا إلى الشوارع واحتل نحو 20 ألف طالب ميدان التحرير، وانضم إليهم الكثير من المواطنين، حيث أعلنوا الاعتصام حتى يتم الإفراج عن زملائهم المحتجزين والاستجابة لمطالبهم، وتعالت الأصوات:
وانتشرت أغاني الشيخ إمام في ميدان التحرير، التي كتبها رفيقه أحمد فؤاذ نجم خلال تلك الأحداث: «أنا رحت القلعة» و«رجعوا التلامذة»، و«جيفارا مات».
استمر الوضع هكذا إلى أن وجه قائد قوات الأمن المركزي في ساعة متأخرة من الليل أمرًا بالتفرُّق إلى الطلاب، إلا إنهم رفضوا الانصراف، فتدخلت قوات الأمن برصاصها المطاطي وقنابلها المسيلة للدموع، واستطاعت تفريقهم فجرًا، لكنهم عادوا في اليوم التالي (25 يناير) ليجتمعوا مرة أخرى في مجموعات أصغر تطوف بهتافاتها وسط القاهرة. لم يستجب أحد لتلك الهتافات فانتهت الانتفاضة وخرج بيان وزارة الداخلية يؤكد أن سلطات الأمن قد حرصت -بتوجيهٍ من القيادة السياسية- على عدم التدخل تقديرًا للدوافع الوطنية للطلاب.
هل حققت أهدافها؟
تقييم أداء الانتفاضة بهذا الوضع يتطلب بدايةً تحديد معنى النجاح أو الفشل، فإذا كان المقصود بالنجاح هو تحقيق الأهداف التي وُضعت في بداية الحركة. فبهذا المعنى يمكن القول إنها رغم إخفاقها في التوسع، فإنها نجحت في بلوغ هدفها السياسي، المتمثل في خوض حرب التحرير التي استعد لها الجيش المصري منذ هزيمة 1967، الأمر الذي تحقق في 1973.
مثلت الانتفاضة أيضًا أحد أهم الانتفاضات الحقيقية للحركة الطلابية، أثبتت من خلالها الحركة أنها مجموعة ضغط فعالة وقوية قادرة على التعبئة الجماهيرية، كما نجحت في تمهيد الطريق لما تلا حرب أكتوبر من انتفاضات ونضالات كما حدث في انتفاضة الخبز 1977، احتجاجًا على غلاء الأسعار، وهي الانتفاضة التي كادت تُطيح بحكم السادات.
لم يتوقف أثر الانتفاضة عند هذا الحد، فقد امتدت إلى تونس حيث ألهمت الحركة الطلابية بها وانطلقت انتفاضة طلابية تونسية مماثلة في فبراير/شباط 1972، احتجاجًا على قمع السلطة الحاكمة، والمحاكمات التعسُّفية التي تعرضوا لها من قبل محكمة أمن الدولة، نتيجة نشاطهم النقابي والسياسي. فمثلما كانت «الإجابة تونس» خلال موجات الربيع العربي، كانت الإجابة حينئذ «طلاب مصر».
وبالرغم من هذا، فإن حركة الطلاب أخفقت في تحقيق أهدافها الأخرى المتعلقة بالحرية، حيث لم يتم منح حرية التعبير ولم يتم إطلاق سراح الطلاب. وهو ما يعود إلى أسباب عدة، من بينها: انحصار تأثيرها بشكل كبير في الأوساط الطلابية، وعدم امتدادها إلى الحركة العمالية، حيث لم يتمكن الطلبة من الالتحام مع العمال، ما حال دون إحراج النظام. ولعل ما حدث في انتفاضة 1946 خير مثال على ذلك، حيث شكَّل التنسيق بين الجانبين من خلال اللجنة الوطنية للعمال والطلبة وما تلاها من الدعوة لإضراب عام، أحد أهم العوامل في نجاح الانتفاضة والاستجابة لها.
العامل الأخير الذي أضعف من قوة الحركة هو سيطرة التيارات السياسية بشكل منفرد على النشاط الطلابي في كل جامعة، فالتيار الماركسي ساد في جامعة القاهرة، والناصريون هيمنوا على اتحاد طلاب عين شمس، وغيرها من التمايزات داخل الجسد الطلابي، مما منح النظام فرصة لاستقطاب مؤيدين له من داخل الحركة ذاتها.
ماذا حدث للحركة الطلابية؟
نظرة سريعة لمسار وتاريخ الحركة الطلابية والانتفاضات التي قامت بها أو كانت أحد الأطراف المشاركة بها، تؤكد أن العامل الرئيسي في قوة هذه الحركة وتأثيرها في مسارات الأحداث يكمن في وحدتها والتفافها حول قضايا جامعة، مثل: قضايا الاستقلال الوطني والتحرر من الاستعمار (انتفاضة 1947)، أو قضايا تخص استرداد الكرامة وتحرير الأرض (انتفاضة 1972)، أو قضايا تتعلق بالأوضاع العامة (انتفاضة 1977)، أو تختص بالحريات وحقوق الإنسان والتصدي لهيمنة أجهزة الأمن، أو تلك التي تهتم بقضايا قومية كالقضية الفلسطينية وغيرها.
وبناءً على هذا، فتلك الحالة من الجمود التي تشهدها الحركة الطلابية اليوم ترجع في أحد جوانبها إلى عدم وجود قضية جامعة أو أجندة موحَّدة تجمعها، فتعدد الأهداف يقف حجر عثرة يحول دون بزوغ تلك الحركة الموحدة والفاعلة. ومن جانب آخر فانغلاق المجال السياسي وتشديد القبضة الأمنية على المجال العام، دفع كتلة كبيرة من تلك الحركة إلى عدم المشاركة في الفعاليات والتنظيمات الثورية، والتراجع إلى ما تراجع إليه المجتمع من سكون، الأمر الذي حدَّ من فعاليتها.
ولا يعني هذا بالطبع اختفاءها تمامًا، فهي توجد حيث توجد القضايا الجامعة كما كان الحال في قضية ترسيم الحدود البحرية بين مصر والسعودية، والتي شهدتها البلاد في أبريل/نيسان 2016، حيث شارك الطلاب في الحراك الاحتجاجي ضد اتفاقية «تيران وصنافير» داخل الجامعات وخارجها، وقادت حملة «الطلاب مش هتبيع» تنظيم الاحتجاجات في العديد من الجامعات، وشاركوا في مختلف محاولات التظاهر التي أحبطتها قوات الأمن، ما شكَّل استعادة للمساحة الجامعية كمساحة معارضة لسياسات السلطة، مثلما كانت الجامعات في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات.
كذلك كشفت تلك القضية أن الحراك المجتمعي ما زال موجودًا أيضًا رغم إنهاكه، فالحراك لم يكن مقتصرًا على الطلاب بل امتد لمختلف الفئات، ورغم إحكام السيطرة على المساحات الإعلامية، فإن شبكات التواصل الاجتماعي لعبت دورًا رئيسيًّا في تحفيز الحراك.
أخيرًا، يمكن القول إنه إذا كان هناك حالة من الشعور بالإحباط وفقدان الأمل في وجود حراك شعبي فعال، فالأمر لا يتعلق بالظروف الداخلية فقط، بل بسياق إقليمي وعالمي أرادت به القوى الفاعلة إغلاق ملف الحراك الشعبي وإعادة ترتيب الأولويات بما يتوافق مع مصالحها… إلا أن الحركة الطلابية ستظل الشبح الذي تخشاه الأنظمة دائمًا… أو كما قال الشيخ إمام: