ستر للفقير وأبهة للوجيه: الجلباب في الصعيد
أكثر المسميات والأسماء، مأخوذة من فعل، فالزارع والزراعة من الفعل زَرَع، والتّعليم والعِلْم والعَالمُ مَرجِعُه لـ«عَلِم»، والقليل النادر من الأسماء، الأمرُ حياله معكوس، ومنها «الجلباب»، فرغم أن القواميس والمعاجم تُرجعه للجذر «جَلَب»، فالصلة بين الجلباب و«جلب» لا تبدو وثيقةً جليّة، أمّا إذا ذهبت تبحثُ عن الفعل «جلبب»، فستجده يرجعُ للجلباب أو هو مأخوذٌ منه، أي إن الفعل مأخوذ من الاسم وليس العكس.
ولا يعني هذا أن عربية الاسم مشكوك فيها، أو يمكن أن يُقال فيها قولان، فهو شائع في أقوال العرب وأشعارهم، وقلّ أن تجد شاعرًا منذ الجاهلية وحتى العصر الحديث، لم يذكر الجلباب في شعره، وليست الشاعرة المخضرمة «تماضر بنت عمرو بن الشريد» الخنساء (ت. 645م)، أول من ذكرته في قصيدتها الشهيرة التي مطلعها: «يا عينِ مالك لا تبكين تسكابَا»، حين قالت تصف أخاها صخرًا وهي ترثيه، «يعدو على سابحٍ نهْدٍ مراكلُه/ مجلببٌ بسواد الليل جلبابا»، ولا شاعر العربية الضخم أبو الطيب المتنبي، حين قال «من الجآذر في زيّ الأعاريبِ/ حُمْر الحِلَى والمطايا والجلابيب».
ولا أظن قارئًا للشعر ذوّاقة، لا يستعيد الآن أبياتًا تذكر الجلباب، لابن مقبل، والفرزدق وجرير والأخطل، وعمر بن أبي ربيعة، والبحتري وأبي تمّام وأبي العلاء وأحمد شوقي، مما يضيق المقام ولا يليق به إيرادُه وتعداده.
كذلك فقد ورد ذكره في القرآن الكريم، في آيات وصف لباس النساء، التي هي أشهر وأكثر تداولًا واختلافًا حولها من أن نذكّر بها، وكذلك وردت مفردة ومجموعة وباشتقاقات في الأحاديث الشريفة، المنسوبة للنبي، صلوات الله عليه وعلى آله، لكن إرجاع الفعل «جلبب» للاسم وليس العكس، كما قلنا، ربما يعني أن اسم «الجلباب» أسبق للظهور أو هو أشهر بحيث يُنسب الفعل إليه، ويُعرّف به.
ما الجلباب؟
الجِلْبُ من كل شيءٍ غطاؤه، وجِلْبُ الليل ظلامُه، والجُلْبة هي القِشرة السميكة المغطيّة، وقد اعترتني الدهشة، وأنا أقرأ معنى «الجُلْبة» لأول مرة، لأن ناسنا في الصعيد يستخدمونها بذات المعنى، ويطلقونها على غلاف الكتاب المقوّى، وكسوة العصا التي تتُخذُ من جلود الحيوانات، فيقولون «جلبة الكتاب» ولا يقولون جلدته، وقد كنت أظنها تحريفًا لكلمة «الجِلْدة» التي يستخدمها أهل القاهرة وبلاد الشمال المصري، لكن اتضح أن استخدامهم هو الاستخدام الصواب.
وعمومًا فالجلباب في لغة العرب، يُطلقُ على الملحفة، وعلى ما يلبس فوق الثياب، أي ما يُلتحَف به، ويكون سابغًا على كامل الجسد، وهو بالنساء ألصق، لكن شيوع استخدامه والاصطلاح عليه فيما يخصُّ أردية الرجال، أمالَ الكفة، وجعل الذهن ينصرف أولًا لأثواب الرجال عند سماعه، وهذا ما عليه التعويل في اللغة حقيقية، وليس على الجمود والتحجّر بين سطور الكُتب التي اصفرّت وتآكلت قدمًا، لذا فالجلباب الذي تنصبُّ عليه، وتدور حوله هذه الكتابة، هو الجلباب الرجالي.
ولأن الواقع أصدق البراهين وأقواها، فهو رداء عابر للجغرافيا والتاريخ، عالميّ لا تستأثر به حضارة، ولا تستحوذ عليه أمُة دون غيرها، وإن كان في الثقافة العربية قديمها وحديثها جلبابًا، فهو بلا شك موجود في غيرها من الثقافات والحضارات بمسميات أخرى، قديم بقدمها حيث نراه في المنحوتات الأثرية والحفائر الخاصة بحضارات الهند والصين، بما يؤكد أنه سبق غيره من الأردية والملبوسات، التي عرفها الإنسان واستخدمها في مسيرة تقدمه، ومع قدمه هو أيضًا حديث معاصر باقٍ للآن، وتقول الشواهد إنه سيبقى.
لكن كل أُمةٍ استخدمته، وضعت له مواصفات تناسب وظيفته، وصنعته على هيئةٍ تناسب ظروف بيئتها ومناخها، وأحدثت فيه ما يُناسب ذوق مستخدميه، ومن هنا واستجابةً للوظيفة وظروف المناخ والذوق، ظهر الجلباب العربي الحديث، وتميز فيه الجلباب الخليجي واختلف، عن جلباب ناس السودان، عن بلاد المغرب وشمال إفريقية، عن الجلباب المصري العريق الماجد، واستمر التمايز والاختلاف، وانقسام الهوية الفرعية وتوالدها عن الهوية الجامعة، فظهر من المصري، جلباب البوادي، المختلف عمّا يرتديه ناس السواحل والدلتا، المتمايز عما يرتديه ابن البلد في أحياء القاهرة الشعبية، وصولًا إلى درة تاج الجلابيب، وفريدها المدلل ذي الشهرة الواسعة والانتشار، الجالس على عرش نوعه، وأعني به «الجلباب الصعيديّ».
قرين الوجاهة والشهامة.. وسيد أزياء الدراما
اتساقًا مع خاصية التمايز والانقسام وتوالد الهوية الفرعية، من الهوية الجامعة الأم، ينقسم الجلباب الصعيدي ذاته، انقسامات داخلية، يعرفها أصحابه ويدركونها بالعين والذوق والحس اعتمادًا على مواصفات سيأتي ذكرها، حسب الإقليم وربما حسب القبيلة، فالنوبيّ، يختلف عمّا يرتديه الأسوانية العرب أو الصعايدة، والقناوي يختلف عما يرتديه السوهاجي، والأسيوطي له من المواصفات ما يميزه عن جلباب المنيا وهكذا..
والحق الذي لا يمكن إنكاره، أن هذا الجلباب الصعيدي، هو جلباب مصر كلها، فحتى منتصف القرن العشرين، كان هذا اللباس، قاسمًا مشتركًا بين الرجال في كل وادي النيل والقاهرة والدلتا، ذلك المتّسع السابغ، الذي ينسدل من تحت الرقبة حيث العاتق، وحتى أخمص القدمين، بفتحةٍ دائرية، بدخل منها الرأس، في قاعها من الأمام شقّ لأسفل، يطول فيصل إلى السرة أحيانًا، ويقصُر فينتهي بين الثديين، في أحيان أخرى، أو يتراوح بين هذين الموضعين طولًا وقِصَرًا.
ولعل من يرى صور محاكمة «دنشواي» الشهيرة، التي سجلت وقائع تنفيذ الأحكام في الفلاحين، بحضور الأعيان والأهالي، سيشاهد هذا الجلباب، يعلوه ما يُسمى «البِنش» أيضًا.
و«البِنِش» نوعٌ من الجلابيب أيضًا، لكنه متسع أكثر، وغامق اللون ثقيل القماش في الغالب، يُلبس فوق جلبابٍ أخف، فاتح اللون، وفتحته التي تدخل منها الرأس أكثر اتساعًا و«بهوقةً»،بحيث ينهدل على الكتفين ولا يهمّ أن يصل إلى أخمص القدمين أو منتصف قصبة الساق، وهو الذي حلّت محلّه العباءة الآن.
وأيسر ما يمكن أن أُحيل إليه، للتعريف بــ «البِنِش»، هي الأفلام السينمائية التي كان يقوم فيها الفنان «محمد محمود أبو شرابة» أو «محمد التابعي» بدور «عبد الرحيم بك كبير الراحمية قبلي»، كذلك ظهر به الفنان الكبير «السيد بدير» وهو يقوم بدور ابنه، في الفيلم ذاته وغيره، ولكم تمنيت أن يكون عندنا متحف للأزياء والأردية المصرية على مر العصور، ليحفظ لنا نسخة من الأردية التي اندثرت، كجلباب البنش هذا الذي اندثر وحلّت محله العباءة.
كذلك فأبناء البلد، الشعبيين من أبناء القاهرة، ظهروا في الأفلام السينمائية حتى ما بعد منتصف القرن المنصرم، يرتدون الجلباب البلدي، مع عمامة صغيرة، لامعة القماش في الغالب، أمّا الوجهاء والأعيان كالتجار وذوي الأملاك منهم، فكانوا يرتدون الجبة فوق القفطان، مع الطربوش، والجبة جلباب أيضًا، لكن الشق فيه حتى الذيل، ليصبح ذا جانبين يطيرهما الهواء، فيظهر القفطان الناصع تحته، مشدودًا بحزامٍ على الوسط، وأقرب حالات الإحالة التي تعرّف به، هو زيّ الفنان «يحيى شاهين» وهو يجسّد شخصية أحمد عبد الجواد، في ثلاثية محفوظ، التي أخذ عنها حسن الإمام ثلاثيته السينمائية الخالدة.
ولعل الفارق الأوضح بين جلباب الصعيدي، وجلباب الفلاحين في الدلتا، يمكن ملاحظته في الحِجْر والأكمام، فالحجر أصغر، والكم إسطواني أضيق في جلباب الشمال، أمّا في النسخة الجنوبية، وخصوصًا الكلاسيكي منها، فالحِجْر أكثر براحًا، والأكمام مخروطية تتسع تجاه الكف ونهاية الذراع، حتى تكاد تكشف بياض الإبط، وتجعله معرضًا للهواء فلا يتكاثف العرق في تلك البيئة الحارة.
وفي الهيئة الحديثة منه، والتي حاول الصعيدي أن يُضيّق أكمامها، اتقاءً للسخرية ربما، فقد أَحْدثَ شقًّا تحت الإبط، ليكون بديلًا عن الاتساع الملحوظ، أمّا شق الصدر أو «القَبّ»، فقد اتخذ شكل الرقم «7»، في جلباب الصعيد الجوانيّ، بديلًا عن تطابق الحدين في جلباب الصعيد الشماليّ والأوسط، طلبًا للهواء، ومقاومة الحرّ من جهة.
ولكي يظهر بياض «التقشيطة» الرقيقة الناصعة، أو القفطان من جهةٍ أخرى، فالصعيدي في محافظات قنا وجنوب سوهاج، قل أن يتنازل عن القميص «التقشيطة» أو القفطان تحت الجلباب، في حين أن رجل أسيوط والمنيا وما بعدهما شمالًا، يكتفي بالجلباب، وتحته «الفانلة» العادية، أمّا في الدلتا فتحت الجلباب «صديري» وجلبابه يكاد لا يستلزم إكسسورات كالعمامة والشال والشملة، وهذه الإكسسورات قصة تستلزم كتابة أخرى..
وأول ذكرى لي مع الجلباب، حين اصطحبني أبي رحمه الله، لمحل المعلم «كامل ابو بِسلة» أشهر خياط جلاليب في بلدنا، وكان تفصيل جلباب عنده حُلمًا، لا يُتاحُ تحقيقه إلا لقلائل، وعم كامل مسيحي، ككل الخياطين، الذين احتكروا هذه المهنة دون غيرهم (ومسألة اقتصار بعض المهن على أعمامنا المسيحيين في بلادنا بالصعيد، مسألة عميقة ولها جذور، وتحتاج لتفصيل لا تتيحه المساحة، بل يستلزم كتابة أخرى خاصة).
المهم .. حين ذهبت لقياس الجلابية بعد شهور انتظار، وجدت في أعلى الصدر من اليسار، جيبًا صغيرًا، عبارة عن شق لا يتجاوز السبعة سنتيمترات، وقد حُلّيت فتحته بالقيطان الحريرية، الجيب صغير ومعلق ولا يصلح لوضع شيء، فلما سألت عن أهميته، قيل لي إنه جيب الساعة، رغم أن ساعات الجيب، كانت قد ولت وذهب زمانها، لكن عم كامل، كان حريصًا على أصول الخياطة، ويرى عمل الجيب من الأصول والقواعد.
واللافت أن ارتباط الجلباب أو «الجلابية» بالفعل «جَلَب»، قبل «جلبب» أو معه، له ما يبرره، وما تثبته الملاحظة الواعية، فحِجْر الجلابية، يستخدم في الجَلْب، يغني صاحبها عن الإناء أو الوعاء، وقد رأيت رجالًا كثيرين في طفولتي، يعودون من سوق القرية، وقد وضعوا في حجور جلاليبهم الفوقانية، ما جلبوه من السوق، كغلال السمسم، أو الأرز السائب وغيره مما يصلح حمله فيها، كذلك فقد كانوا يستخدمون الكُمّ، في حمل الأشياء التي يريدون إخفاءها عن أعين الفضوليين، وهذا داعٍ آخر لتوسيع الكُمّ، مع داعي حرارة الجوّ.
ومثل حرص رجل النوبة وأسوان على الألوان الفاتحة التي تعكس أشعة الشمس الجنوبية القاسية، وعدم تحميل صدره لثقل القيطان وخنقتها، يحرص رجل سوهاج وقنا على «القيطان» العريضة، بأنواعها تدرّجًا من الفرد، مرورًا بالمجوز والثلاثي، وصولًا لقيطان «السكة الحديد» العريضة المتوازية كالقضبان، وتظهر هذه القيطان في جلباب رجل الدلتا وخصوصًا في شمالها.
لكن ثمةَ فارقًا في نظرة الرجل في كل مصر للجلباب، ونظرة الصعيدي الخاصة، فالجنوبي يرى في الجلباب حفظًا للوقار ورسمًا للهيبة، لا يتيحه رداء آخر ولو كان بدلةً كاملةً، فالذي تفرض عليه وظيفته منهم، أن يتخلى عن الجلابية، ما أن ينتهي وقت عمله، حتى يستعيد ذاته داخلها، ويركن إلى راحتها وبراحها، فهو خارجها كالضيف، لا يسترد راحته وحريته الكاملة إلا بالعودة لبيته، إن دعتْه الضرورة لحضور تجمّع، كالعزاء ومجالس الصلح والأفراح، وهو في غير جلبابه، فلابد من عودة خاطفة للبيت ليبدل ملابسه، ويعود بجلبابه، والحق أن ارتباط الجلابية بالوقار، له ما يؤيد وجاهته، فرجال الدين في كل الملل والأصقاع، حتى في أوروبا ومجاهل أفريقية وآسيا، رداؤهم جلابيب سابغة.
ومما لا يصلح التغاضي عنه، في ما يخصُّ الجلباب الصعيدي ومسيرته، دور الدراما التلفزيونية خصوصًا، في التعريف به، وتقديمه على نطاق أوسع، فصار معروفًا في كل بقاع الوطن العربي، معرفة معايشة، تتطابق مع معايشة الأبطال الذين يرتدونه، لكنها ــ أي الدراما ــ خلطت بين الجلابيب، من باب «كله عند العرب جلابية»، ولا أدري إن كان مطلوبًا وواجبًا على صناع الدراما معرفة الفروق بين جلابيب البيئات المختلفة، أم سيكون في ذلك تعسُّف وإلزام لهم بما لا يلزم؟
وكما ترتبط مواصفات الجلباب بالبيئة والقبيلة والتوقيت، فهناك مِهن، تستلزم مواصفات خاصة في جلابيب ممتهنيها، ولكن الاستطراد في هذه النقطة، لا يتيحه المقام ولا المساحة، ولعل ارتباط العربيّ عامةً بالجلباب وبراحه، يفسّره أنه لم يعرف السراويل إلا بعد اختلاطه بالشعوب والأمم الأخرى، وفي مرحلةٍ متأخرة، تجعل منها طارئًا دخيلًا، في مقابل الأصيل الماجد المقيم.