لأعوامٍ طويلة مثّلت الدراما الصعيدية حجر أساسٍ للدراما المصرية، وواحدة من أهم المواضيع والمحاور التي يروق لكثيرٍ من كتّاب الدراما التطرق إليها، وذلك لما في صعيد مصر من ثراء ولما يعكسه الحديث عنه وعن عاداته وتقاليده من أزمات ومشكلات تبقى معينًا لا ينضب لهؤلاء الكتاب، ويبقى الرهان قائمًا أمام كل كاتب جديد على تقديم صورة حقيقية وواقعية لذلك المكان بكل خصوصيته وطرح قضاياه بشكل مختلف يجذب المشاهد من جهة ويعكس الواقع من جهةٍ أخرى.

الصعيد وكتّابه

ولعل أحد أهم كتاب الدراما الصعيدية بشكل خاص كان الكاتب الكبير الراحل محمد صفاء عامر الذي كتب عددًا من الأعمال الدرامية الهامة التي شكلت وجدان المشاهد المصري بل والعربي واستطاعت أن تعكس الصعيد ومشكلاته بشكلٍ واقعي ودرامي حقيقي، فالكل يذكر مسلسل «ذئاب الجبل» الذي يعد من أهم مسلسلات الصعيد منذ عرضه في تسعينيات القرن الماضي بل وبقي أحد أهم علامات الدراما المصرية والصعيدية بشكلٍ عام، كما كان من أهم أعماله التي عكست حياة الصعيد وتعلق بها الناس لفترة طويلة مسلسل «الفرار من الحب» عام 2000.

كما كتب للصعيد عدد آخر من كتّاب الدراما المميزين كان منهم الكاتب الكبير محمد جلال عبد القوي بمسلسل «الليل وآخره» بطولة الفنان الكبير «يحيى الفخراني» والكاتب الصعيدي الكبير «عبد الرحيم كمال» بمسلسلات «الرحايا» و«شيخ العرب همام» حتى «الخواجة عبد القادر» عام 2012، بل وقدم في مسلسل «دهشة» عام 2014 معالجة مصرية صعيدية ذكية لحكاية مأساة الملك لير الشهيرة عن شكسبير، وكان من المفترض أن يشارك مسلسله «أهو ده اللي صار» في رمضان هذا العام ويدور أيضًا عن المرأة في الصعيد في نحو مائة عام من التاريخ، قبل أن يتقرر تأجيل عرضه قبل بداية رمضان بأيام قليلة.

كان الكتّاب ينطلقون من بيئتهم التي يعرفون تفاصيلها، وتصرفات أفرادها بشكلٍ واقعيٍ حقيقي، لم يعتمد أحد منهم على قصص أو حكايات سمعها عن الصعيد، بل كانوا مشاركين لبعض أحداث المسلسلات التي كتبوها على وعيِ تام بطبيعة الحياة في الصعيد، ودارت قضايا عدد كبير من تلك المسلسلات حول أفكار ذاعت وعرفت عن الصعيد وأهل الصعيد منها على سبيل المثال «قضية الثأر» وكيف تؤثر على العلاقات بين الناس ويحيا بسببها أشخاص ويموت الكثيرون.

كما كان من أهم القضايا المطروحة في الصعيد قضية تهريب الآثار، وطرق مكافحة الحكومة للمهربين وتجار السلاح وغيرهم، من جهة أخرى كانت صورة المرأة الصعيدية والموقف من تعليمها ودورها في الحياة الصعيدية محور عدد من المسلسلات الهامة كذلك، نذكر منها مسلسل «الوتد» الذي كتبه الروائي الكبير خيري شلبي، وغير تلك القضايا والمشكلات التي كانوا يتناولونها ويعرضونها عن قرب وبشكلٍ مفصل.

الرؤية السطحية مع نسر الصعيد

تابع المشاهدون هذا العام عددًا من المسلسلات التي تناولت أيضًا الحديث عن «الصعيد» وحياة الناس فيه، لعل أهمها وأبرزها مسلسل «نسر الصعيد» الذي يعود به «محمد رمضان» إلى الشاشة هذا العام بعد غيابه عنها العام الماضي، في مسلسل كتبه «محمد عبد المعطي» في أولى تجاربه عن الكتابة للصعيد.

يدور المسلسل حول شخصية «صالح القناوي» وابنه «زين» يقوم بدورهما «محمد رمضان»، يتقدم «زين» للالتحاق بكلية الشرطة، وهو مثل أبيه حريص على تحقيق العدل ونشره بين الناس، وفي مواجهتهم تاجر آثار كبير هو «هتلر» الذي يقوم بدوره الفنان سيد رجب وأبناؤه الذين يمثلون «الأشرار» في المسلسل ويقومون بكل الأفعال الإجرامية في البلد.

تبدو أكثر مشكلات مسلسل «نسر الصعيد» بروزًا هي السطحية الشديدة في رسم الشخصيات والمواقف والأحداث، بل لا يبدو أن هناك ممثلين أو أشخاصًا آخرين يقومون بدور مهم غير البطل الرئيسي «محمد رمضان» في المسلسل،حتى أن أداء كل الممثلين من حوله يبدو باهتًا، والعالم كله يدور من حوله، كل المشكلات تحل بمجرد حضوره، وكل العقبات تذلل له بشكلٍ غريب، ويبدو حرص المؤلف على صنع بطل «سوبر مان» واضحًا طوال حلقات المسلسل!

وعلى الرغم من أنه من المبكر جدًا الحكم على المسلسل في حلقاته الأولى، إلا أن المقدمات كلها تشير بشكل واضح إلى فكرة الدوران حول البطل الواحد المركزي، وإهمال أو تجاهل عناصر العمل سواء من بقية الممثلين أو إجادة وضع حبكات ومواقف حقيقية يتبين منها طبيعة الشخصية وقوتها، فحتى الآن جميع المواقف تمر ويتم حلها ببساطة بل ويأتي عنصر المصادفة كطريق أمثل لحل المشكلات، فحينما يضع أحد رجال هتلر «تربة حشيش» لزين أثناء ذهابه لأكاديمية الشرطة لكي يقضوا على مستقبله، لا يتم تفتيشه في مصادفة غريبة وغير منطقية لوجود موكب يمر في نفس الوقت!

أنا طايع وضد التار

من جهةٍ أخرى يأتي مسلسل «طايع» التجربة الإخراجية الأولى للمخرج «عمرو سلامة» بالتعاون مع محمد، وخالد، وشيرين دياب في التأليف لتقديم صورة أخرى ونموذج آخر للصعيدي يقدمها الفنان «عمرو يوسف» الذي يعمل طبيبًا في إحدى مدن الصعيد ويواجه الثأر بقوة ويرفض أن يكون قاتلاً، وهو يضطر في سبيل ذلك للتعاون مع تاجر الآثار الكبير في البلد بأمر مباشر من الحكومة حتى تتمكن من القبض عليه.

يبرز في هذا المسلسل فكرة البطل الواحد ضد المجموعة، وفكرة أن يكون هذا الصعيدي رافضًا لهذا التقليد والعرف الاجتماعي الذي يعاني منه الجميع، ولكن مشكلة المسلسل الأساسية أنه لم يهتم بتوضيح الدوافع النفسية ولا التاريخية التي أسس عليها هذا البطل رفضه، فنحن نتعرف عليه فجأة ونعرف أنه رافض للفكرة وأنه يسعى لأن يواجه أهل بلدته كلها، الذين يستمرون في تحريضه على الأخذ بالثأر.

من جهةٍ أخرى يحضر موضوع تجارة الآثار الذي يبدو أنها أصبحت التجارة الأكثر انتشارًا في السنوات الأخيرة بعد ما حدث من تراخي القبضة الأمنية عن الصعيد في أعقاب ثورة يناير، ولكن المشكلة أن تناول فكرة تجارة الآثار تأتي في سياق غير منطقي وفق أحداث لا يمكن حدوثها على أرض الواقع، فتاجر الآثار «حربي» يجلب بعثة أجنبية للتنقيب عن الآثار ويُفترض أن الحكومة والشرطة لا تعرف شيئًا عن هذه البعثة، رغم أنه يقيم مخيمًا كبيرًا واضحًا لهذا الغرض، فيما يزعم أنه هارب في الصحراء.

اللهجة الصعيدية .. بين الثبات والتغير

لا يبدو كتّاب مسلسل «سك على اخواتك» بطولة الممثل الكوميدي الشاب «علي ربيع» مستقرين على هوية البطل، فهو يلبس ملابس صعيدية ويتحدث بلكنة تخلط بين الريفية والصعيدية، ويتم تصوير المسلسل في «أسوان» المعروفة بأن سكانها ذوو بشرة سمراء، لكن يبدو أنهم يستغلون فكرة «الصعيدي» فقط دون أن يحددوا بشكل واضح الغرض من استخدام هذا الصعيدي لأنه ينتقل إلى القاهرة بعد الحلقات الأولى، ليصوروا من خلاله شخصية الريفي المنبهر بكل شيء في المدينة، معتقدين أنهم بذلك يصنعون «كوميديا» في حين أنها مجرد محاولات للاستظراف ليس أكثر!

تبقى أحد التيمات الرئيسية في كل مسلسل يتناول الصعيد مشكلة «اللهجة الصعيدية» والتي لا يلتفت كثير من الكتّاب والمخرجين المعاصرين لكونها قد تغيرت واتسعت واختلفت بفعل الزمن، وهذا ما يغيب كثيرًا عن مقدمي مسلسلات الصعيد هذه الأيام، إذ نلاحظ تمسكهم بصورة نمطية قديمة يتم اختزالها في تعطيش حرف الجيم!

هذا ما وجدناه في محاولات «عمرو يوسف» لتقليد اللهجة الصعيدية بطريقة مبالغ بها، كما بدا على «محمد رمضان» تغيّر لهجة الشاب عنده عن لهجة الأب «صالح القناوي» في مسلسله «نسر الصعيد»، وأن الشاب «زين» يغلب على طريقة نطقه وكلامه لهجة الشباب السائدة هذه الأيام وليست لهجة الصعيد.

وهكذا تبدو دراما الصعيد هذا العام تفتقد الجدية بشكل عام في الكتابة، وفي تناول المواضيع، وفي الأداء التمثيلي، كما أنها مفتقدة لأهم عناصر التشويق والمنطقية، قائمة فقط على البطل الذي قد يجذب انتباه الجمهور والمشاهدين (مثل محمد رمضان) أو الرهان على شعبية آخر (مثل عمرو يوسف) أو النجم الكوميدي الذي يراهنون عليه (علي ربيع) والاكتفاء بذلك دون كتابة مواضيع جادة، ودون تقديم مشكلات الصعيد الحقيقية، وتصوير عدد من الشخصيات الواقعية هناك، والعمل على الكشف عن معاناتهم وما يلاقونه من تهميش وتجاهل.