نظم السلوك: السيرة غير المروية لابن الفارض
هكذا يصف المستشرق الإنجليزي الشهير رينولد نيكلسون قصيدة «التائية الكبرى» لسلطان العاشقين، الصوفي العتيد عمر ابن الفارض.
ووصف «التائية الكبرى» بسبائك الذهب قال به أيضًا المستشرق الفرنسي الأشهر لويس ماسينيون، حيث قال عنها: «نسيج ثقيل من سبائك الذهب»، وقال أيضًا إنها «كسوة الحج الروحي».
عمر بن الفارض لم يترك سرديات فلسفية، أو أية مؤلفات سوى ديوانه الشعري، ومن خلال الديوان تسابق الباحثون العرب والأجانب، المسلمون وغيرهم، لتحليل فلسفته وأفكاره.
كذلك فإن سيرة ابن الفارض الذاتية غير معلوم عنها الكثير، ولكن الأشعار التي تركها الرجل هي مصدر وجوده المشع، وسر ألمعيته بين أعلام الفكر الصوفي.
وفي قلب إنتاج ابن الفارض توجد قصيدة «التائية الكبرى»، أو «نظم السلوك»، البالغ عدد أبياتها 761 بيتًا، وهي درة تاج أشعاره، وصدرت حولها حشود من الدراسات والشروح والترجمات العربية والأجنبية، ولكن اللافت أن هناك اتجاهًا في قلب تلك الدراسات يضفي طابعًا رمزيًا روحيًا عليها، حيث يشير إلى أنها مثلت ما يشبه السيرة الفكرية أو الرحلة الروحية لابن الفارض.
ويعزز من رمزية القصيدة وتعبيرها عن رحلته الروحية، ما رُوِي عن أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم أتاه في منامه، وسأله عن اسم القصيدة، فرد عليه ابن الفارض باسم لم يعجبه، فأمره النبي أن يسميها «نظم السلوك»، والاسم هنا له دلاله كبيرة.
فبجانب أن الذي سماها هو النبي ذاته، على حد زعم ابن الفارض، يعطي الاسم انطباعًا بأن ما بالقصيدة هو بمثابة دستور روحي، أراد النبي أن يهتدي به السالكون من خلف ابن الفارض، إن صحت رواية أنه (النبي) من سماها.
ومن المتعارف عليه بين الباحثين أن الشعر الصوفي ليس شعرًا مصطنعًا، وإنما هو تعبير عن حال روحاني وتنفيس عن تجربة باطنية استبدت بالصوفي فأخرجت منه الشعر وهو في حال سكره الروحي، ولولا هذا التنفيس الشعري لأصيب بالجنون، وهكذا كانت «نظم السلوك» تعبير عن تجارب باطنية، ورحلة روحية طويلة لابن الفارض.
في مقالنا نستعرض سيرة ابن الفارض الروحية، وارتباطها برحلته المادية في الحياة، من خلال قصيدته «نظم السلوك»، أو «التائية الكبرى»، التي حيرت الباحثين في الشرق والغرب، القصيدة التي قيل إن شارحًا استأذن ابن الفارض في شرحها على مجلدين، فضحك وقال له: «لو أردت لكتبت مجلدين تفسيرًا لكل بيت فيها».
ولكن قبل ذلك دعونا أولًا نستعرض ما توفر لدينا من سيرته الذاتية، ثم نتناول رحلته الروحية عبر القصيدة، واللافت أن حياته الروحية امتدت على 3 مراحل، كما أن حياته المادية امتدت أيضًا على نفس العدد من المراحل، وتكاد تكون كل مرحلة في الحياتين تعادل الأخرى.
من القاهرة إلى مكة ثم العودة
عمر ابن الفارض، ولد بالقاهرة في 576هـ / 1181م، ودفن جسمانه فيها عام 632هـ / 1234م، لكن جذوره شامية، حيث ينتمي والده أبو الحسن علي بن المرشد بن علي إلى مدينة حماة في سوريا.
قدم ابن المرشد من حماة إلى القاهرة، واستوطنها، وعمل بالفقه، ومن حسه الناس على «الفرائض» أو ما فرضه الله، انعكس هذا اللقب على ابنه، وكان زاهدًا عابدًا، حتى أنه رفض تولي منصب «قاضي القضاة» لينقطع إلى العبادة.
عاصر ابن الفارض الدولة الأيوبية، ونشأ في فترة الصعود السياسي للسلطان صلاح الدين الأيوبي (توفي في 589هـ – 1193م)، وتربى بجوار الجامع الأزهر، وتعلم الفقه من أبيه، حيث كان يحضر المجالس الفقهية التي يعقدها.
كما تعلم ابن الفارض علم «الحديث» على يد المؤرخ والمحدث الشهير محمد القاسم «ابن عساكر»، أي أنه نشأ نشأة سنية أصيلة، وكان ملمًا بالشريعة والحديث وأصول الدين الإسلامي، وحين اشتد عوده بدأ يستغرق في الجانب الصوفي الروحاني.
كان يذهب ابن الفارض بشكل مستمر إلى ما عرف بـ«وادي المستضعفين» بجبل المقطم، شرقي القاهرة ليعتكف هناك ويتأمل ويتعبد، ويعود بعدها إلى مجالس أبيه الفقهية.
وفي هذه الأثناء قيل إنه قابل شيخًا بشَّره بأنه «قاب قوسين أو أدنى من الهداية»، وما عليه إلا أن يذهب إلى الحِجاز، ففعل ذلك.
سافر ابن الفارض إلى مكة المكرمة، وعاش بين وديانها حوالي 15 عامًا، منعزلًا متأملًا، لا يعلم أحد عنه شيئًا، ثم عاد بعد سياحته الروحية إلى القاهرة عام 628هـ/ 1231م، فانقطع عن الناس، وأقام في قاعة الخطابة في الجامع الأزهر.
وظل معتكفًا بالأزهر 4 سنوات، رافضًا هدايا الملك الكامل الأيوبي الذي كان من أشد محبيه، وخلال تلك الفترة أتم ديوانه المكون من حوالي 20 قصيدة، ثم توفي في 632هـ / 1235م، ودفن في اليوم التالي بالقرافة بين سفوح المقطم في منطقة كانت تعرف بـ«مراكع موسى»، وتعرف اليوم بالإباجية، ومازال ضريحه هناك مشهورًا بين الناس باسم «سيدي عمر».
ترجمت قصائد ابن الفارض إلى الإنجليزية والفرنسية والإيطالية وغيرها من لغات الأرض، تلك القصائد التي كانت تنبع عن أحواله الروحية، حيث كان يمليها في اللحظة التي تعقب الحال الصوفي الذي يصيبه بالإغماء والغيبوبة، وهذه سمة من سمات أشعار الصوفية، ومنهم مثلًا جلال الدين الرومي الذي كان يملي قصائده بعد فترة من الدوران حول نفسه.
ابن الفارض على طريق (القاهرة – مكة)
لاحظ البروفيسور جوزيف سكاتولين أن هناك 3 محطات في حياة ابن الفارض المادية، وهي القاهرة، ثم مكة، ثم العودة إلى القاهرة، وتلك المحطات الثلاث تكاد تعادل 3 محطات في حياته الروحية التي تُلاحظ خلال القصيدة، وهي: الفَرْق، الاتِّحاد، الجَمْع.
ففي القاهرة كان الحب والاشتياق قبل الذهاب إلى مكة، والحب يستوجب وجود «فَرْق» بين المحب ومحبوبه؛ فلا حب دون طرفين «محب ومحبوب»، ثم كان «الاتحاد» في مكة، حين ذاب المحب في المحبوب وزال «الفرق» بينهما، وبعد العودة للقاهرة ونضوج الروح كان «الجَمْع» وشهود الحق بلا خلق، بحسب تعريف عبد الرازق الكاشاني، أو الجمع بين ذات ابن الفارض وذوات كل الموجودات، وتلاشيه فيها، كما في تعبير سكاتولين.
ويبسط نيكلسون المراحل الثلاث التي مر بها ابن الفارض، كالتالي: الحب في «حالة الصحو» التي يتمتع بها الناس في يقظتهم، وتليها «حالة السكر» وفقدان هذا الوعي، وهي التي دخل ابن الفارض خلالها في حالة اتحاد مع الخالق.
أما المرحلة الثالثة فهي مرحلة «صحو الجمع»، وهي المرحلة التي يصل فيها وعي الصوفي إلى أعلى درجاته، فيظل متحدًا بالخالق ولكن مع شعوره وتمييزه للفارق بينهما، كخالق ومخلوق.
ويعبر ابن الفارض عن مجمل الرحلة بقوله:
ولعل هذا الصحو مع الجمع، يعبر عن الحالة التي جاءت في الحديث القدسي:
فالله والعبد في اتحاد ولكن مع شعور العبد بالفارق بينه وبين خالقه، فحواس وروح هذا الصوفي في اتحاد بصفات الله وقدراته، ترى وتسمع وتمشي وتبطش بها، ولكنها تدرك أنها لا تسمع ولا تبصر ولا تمشي، ولا تفعل أي فعل إلا بالله.
ويلاحظ تبدل الأحوال النفسية في علاقة ابن الفارض بالذات العلية، ففي مرحلة من القصيدة يستخدم مصطلح «حب» بمشتقاته، وفي مرحلة لاحقة يستخدم مصطلح «هوى» بمشتقاته، أيضًا، وفي المرحلة الأخيرة يستخدم مصطلح «ولي» بمشتقاته، وكأن كل مصطلح منها يعادل مرحلة من مراحل الفرق، والاتحاد، والجمع.
أي أن ابن الفارض تدرج في علاقته بالذات العلية من الحب إلى الولاية، مرورًا بالهوى، فيلاحظ أن الحب والهوى استخدما بكثرة في مرحلتي «الفرق» وكذلك في مرحلة «الاتحاد» التي يقول عنها:
أما مصطلح الولاية ومشتقاته فنجده يتردد بقوة في مرحلة «الجمع» التي وصل إليها في القاهرة حين عاد من مكة، ومما قاله عن هذه المرحلة:
ومرحلة الولاية عنده هي أسمى مرحلة، ووصل إليها ابن الفارض في مرحلة الجمع، حيث يقول:
ففي هذه المرحلة رأى أن العشق والهوى حجاب، يمنعه عن كامل إدراكه ومعرفته للذات العلية، رغم أن هذا العشق كان ضروريًا في البداية ليصل إلى «الاتحاد» الذي أنضجه وجعله صالحًا للدخول بوعي إلى مرحلة «الجمع والولاية».
ولعل مرحلة الولاء التي يصلها الصوفي عند «الجمع» هي ما جاء في آية الأعراف:
هذه الآية المركزية جدًا في الفكر الصوفي التي تحكي عما يسميه الصوفية «يوم أَلَسْتُ»، وهو اليوم الذي تكلم فيه الله مع أرواح الخلق قبل خلق أجسادهم، وأشهد هذه الأرواح على أنفسها بأنه ربها، وأخذ منها ميثاقًا على توحيدها له.
ورحلة الصوفي في حياته الروحية هدفها وغايتها وَصْل ذاك اليوم الميتافيزيقي بحاله القائم في الدنيا، وهذا يحدث عند حالة «الجمع».
فالولاية «المشتقة من الولاء» هي هذا الميثاق الذي أخذه الله من بني آدم قبل خلقهم، والوصول إليها بعد رحلة في الحياة هو كمال الإيمان والوفاء بهذا الميثاق، وعن «يوم ألست»، يقول ابن الفارض:
الأنا الجمعي: الطريق إلى «النور المحمدي»
مما يعزز أن «التائية الكبرى» أو «نظم السلوك» هي تعبير عن رحلة ابن الفارض الروحية، هو تحدثه دائمًا بضمير المتكلم خلال القصيدة، فـ«أنا» ومدلولاتها وما ينوب عنها هي المحور المركزي الذي تتدفق عليه أبيات القصيدة، في مراحل «الفرق، الاتحاد، الجمع».
في مرحلة الفرق يبدو كعاشق يتفانى في حب معشوقته «الذات العلية»، التي يتكلم بلسانها حين خاطبته في مرحلة انجذابه لها قبل الاتحاد بها، فقالت:
الضمير هنا يعبر عن «الذات العلية» التي تستدعيه إلى الفناء فيها، لبيان مدى حبه لها، فيستجيب إليها، لينتقل إلى المرحلة الثانية من رحلته الروحية، وهي الاتحاد بها، أو الفناء فيها.
في مرحلة الاتحاد تتلاشى الفروق بينه وبين الذات العلية، لأنه يفنى عن صفاته الفردية فناءً تامًا، ويبقى حيًا في صفات حبيبته «الذات العلية» فقط.
وعن هذه الحالة يقول:
المتأمل في لفظي «أنا إياها»، و«أنا إياي» يلاحظ أنه اكتشف ذاته فيها (الذات العلية) بعد أن فني فيها، عبر حب حارق صهره وأذابه فيها.
ونتيجة لهذا الحال يصاب بذهول بعد أن صار شيئًا غير الذي كان، حيث يقول:
وأيضًا:
إلى أن ينتهي بقوله:
وأخيرًا يصل إلى مرحلة الجمع، حيث يثبت الشاعر حضور ذاته في الأزلية عند أخذ ميثاق الولاء في «يوم ألَسْت»، حيث كان الجمع بين الله والمخاطَب بغير فصل أو فرق، ولكن مع شعور بأن هناك متحدثًا ومستمعًا، هناك «مخاطَب» و«مخاطِب».
في هذه المرحلة يقول ابن الفارض إنه الفاعل في هذا الكون نيابة عن الله، بعد أن اتحد بصفاته، أي أنه وصل في هذه المرحلة إلى ما يعرف بـ«القُطْبِية العظمى»، فيقول:
فهو يرى نفسه القُطب المحيط بالكل، وأن قطبيته مطلقة لم تأته عبر التدرج الصوفي المعروف، فلم يكن من الأوتاد والأبدال، وإنما دخل المرحلة القطبية العظمى مباشرة.
وشبَّه ابن الفارض هذه الوحدة بينه وبين الله بما يعرف بمسرح «خيال الظل»، حيث يقف الفنان خلف ستار ويشاهد الناس ظله على ستار يحجبه عنهم، فيقول:
هذا الحال يأخذ ابن الفارض إلى التحدث بلسان الله، باعتباره ظلًا له، فيقول:
ويشرح معنى ذلك الجَمْع في الأبيات التالية:
ويرى ابن الفارض أن في أعماق هذا «الأنا الجمعي» تتآلف وتتعانق كل المظاهر التي تبدو متنافرة متناقضة أمام وعي الناس السطحي، فيقول:
هذه القطبية يراها ابن الفارض توازي ما يعرف بمقام «أو أدنى» وفقًا لآية «النجم»: «فكان قاب قوسين أو أدنى»، وهو مقام «النور المحمدي» أو «الحقيقة المحمدية»، وهي المرتبة الأعظم على الإطلاق، فيقول:
ويرى ابن الفارض أن تلك الحقيقة النورية «مفيض الجمع» ومنبعه الأول لذاته، وكذلك يرى أنه اندمج في هذا النور الأصلي الأول اندماجًا تامًا (شاهدته إياي)، فأصبح هو بذاته هذا النور (النور بهجتي).
هنا نحن أمام تصور يمكن فهمه على النحو التالي: النور المحمدي هو صورة للنور الإلهي، وقطبية ابن الفارض هي صورة من هذا النور المحمدي، الذي بدأ به خلق كل شيء، وفقًا للحديث القدسي، الشائع بين الصوفية:
فابن الفارض كان يرى نفسه في مرحلة «الجمع» تجليًا نبع عن تجلٍ، أو نورًا انبثق عن نور، وفكرة الوراثة المحمدية مسألة مركزية جدًا في الفكر الصوفي.
- ديوان ابن الفارض، مهدي ناصر الدين
- معجم مصطلحات الصوفية، الكاشاني
- طبقات الشاذلية الكبرى، الحسن بن محمد الكوهن الفاسي المغربي
- عمر بن الفارض وحياته الصوفية، جوزيف سكاتولين
- جلاء الغامض في شرح ديوان ابن الفارض، أمين الخوري
- شرح تائية ابن الفارض الكبرى، داوود ابن القيصري
- في التصوف الإسلامي وتاريخه، رينولد نيكلسون
- الأبعاد الصوفية في الإسلام، آنا ماري شيمل
- التصوف الإسلامي العربي، عبد اللطيف الطيباوي
- طرب في الإنشاد الصوفي المصري، مايكل فريشكوف