أيُسمح لك باستخدام الهاتف الذكي؟
– هذا هاتف خاص بالعمل، ولدي آخر لحياتي الشخصية ولدي إذن من الحاخام بذلك!

هكذا يجيب موشيه صديقه يانكي في رحلتهما التي بدأت للتو في برلين (المدينة التي زارها موشيه من قبل) للبحث عن إستير شابيرو زوجة يانكي التي فرت من مجتمع الساتمار الحاسيدي اليهودي المحافظ الذي يسكن حي ويليامسبيرج في بروكلين، نيويورك.

لكن ما هؤلاء البشر الذين يعيشون في نيويورك ولا يحق لهم امتلاك هاتف ذكي؟! ولماذا فرت إستير من زوجها راحلة إلى برلين؟ ولماذا قد يرسل حاخام زوجًا وصديقًا في مهمة لاستعادة سيدة فارة من المجتمع في بلد بعيد جدًا عن موطنهم؟

كل هذه الأسئلة تأتي إلى الذهن مع قراءة الأسطر الأولى، ولكن ذلك الغموض يختفي بمجرد التعريف بالخلفية التاريخية والوضع الحالي لهذا المجتمع المغلق. 

نشأة مجتمع الساتمار: مقدمة لابد منها

https://www.youtube.com/watch?v=-zVhRId0BTw

في فيلم وثائقي عرضته نتفليكس عالميًا في عام 2017، يُدعى «واحد منا» (One Of Us)، تظهر لنا عدة شخصيات من مجتمع الساتمار الحاسيدي. في بداية الفيلم، يُكتب على الشاشة السوداء أن هذا المجتمع هو نتاج هجرة العديد من اليهود بعد الحرب العالمية الثانية إلى نيويورك، وشراؤهم قطعًا من الأراضي هناك من أجل «إعادة البناء»، وهو مصطلح يعني إعادة إنتاج/ إنجاب 6 ملايين من اليهود الذين فقدوا حياتهم في الهولوكوست.

من أجل حماية ذلك المجتمع، وضع الناجون القلائل في البداية العديد من القواعد الصارمة لكي لا يندمجوا مع المجتمع الأمريكي ويذوبوا فيه. حافظوا على ملابسهم التقليدية وقبعاتهم المصنوعة من فراء الحيوانات، ثم أسسوا مدارسهم الخاصة التي يدرس فيها الأطفال تعاليم التوراة والتلمود باللغة اليديشية، بل وألزموا كل الرجال بقصة الشعر الخاصة بالأسلاف بينما ألزموا النساء المتزوجات بقص شعرهن وارتداء الشعر المستعار والملابس المحتشمة، ووصل الأمر حتى لوجود سيارات الإسعاف الخاصة بهم! إلى جانب ذلك فقد نبذوا وأرهبوا كل من حاول ترك مجتمعهم، وألفوا أساطير بسياج كهربائي يحيط بأحيائهم لمن يحاول الهرب!

مع تقدم التكنولوجيا، حرموا استعمال الإنترنت أو الهواتف الذكية أو حتى الحواسيب، خوفًا على أبنائهم من العلمانية وترك مجتمعهم. ولكن كيف تركتهم نيويورك، العاصمة التجارية الأكبر في العالم، يفعلون ذلك؟ ببساطة لأنهم كتلة تصويتية واحدة في الانتخابات، الأمر الذي يجعل حكام الولايات يرضخون لمطالبهم وأسلوب حياتهم طوال الوقت.

رغم غرابة الوضع، فإن نسبة المنشقين عن تلك الطائفة لا تتعدى 2%، لماذا؟ لأن معظم من يحاول تركهم يتم نبذه تمامًا، وبمهاراته الضئيلة الناتجة عن تعليمه متدني المستوى لا يكون أمامه إلا طرق صعبة لكسب عيشه. بالتالي تحولت المأساة إلى أخرى، فمع هروب هؤلاء اليهود من أوروبا ومعاناتهم لكرب ما بعد الصدمة (PTSD) الناتج عن المأساة، أصبح الخروج من هذا المجتمع مسببًا لنفس الاضطراب النفسي عنيف التأثير، ويا لها من مفارقة أن تهرب إستير بطلة المسلسل من نيويورك إلى نفس المكان الذي فر منه أجدادها؛ برلين! 

تلك المقدمة التاريخية لا بد منها من أجل وضع الأطر الدرامية لهذا المسلسل الذي نتحدث فيه عن فرار فتاة صغيرة من طائفة  قد تبذل الكثير من المال في مقابل استرجاع الفتاة وجنينها، وتحويل تلك القصة إلى عبرة لأي مُفكر في الخروج عنها.

في هذا المقال، لا نحاول حكي أحداث المسلسل المستوحاة أحداثه من مذكرات ديبورا فيلدمان «غير ملتزمة: رفضي الفاضح لجذوري الحاسيدية» (Unorthodox: The Scandalous Rejection of My Hasidic Roots قدر ما نحاول استكشاف العناصر البصرية والدرامية التي خلقت هذه الحالة الفريدة في 4 حلقات فقط. 

التعبير بالمعمار أو كيف تحول حي ويليامسبيرج إلى سجن كبير؟  

تم تصوير المسلسل بأكمله في مدينة برلين، لكن مع إعادة بناء الديكورات الخاصة بحي ويليامسبيرج في نيويورك، موطن البطلة وطائفتها. ويليامسبيرج حي فريد في قلب نيويورك، فهو يمتاز بمبانيه الكلاسيكية التي يمكن وصفها بـ«علب كبريت» مغلفة بأسوار حديدية على نوافذها، والتي تتسع لأكبر عدد ممكن من الأطفال القادمين والسكان الحاليين، لكنها لا تأبه بحق الفرد كثيرًا من حيث كمية الضوء الذي يدخل البناية أو من حيث التصميم المعماري. على العكس من برلين التي يتم التصوير فيها في أكاديمية الموسيقى بالقرب من ميدان بوتسدامر بلاتز الشهير حيث المباني ذات الطابع الحداثي مثل مبنى السكك الحديدية المشهور بواجهته الزجاجية الضخمة، والمباني ذات الأضلع غير المستقيمة والكتل غير المتناسقة/السيمترية.

هذه المفارقة البصرية ما بين أسلوب تقليدي في البناء وأسلوب ما بعد حداثي يوضح الاختلاف بين حياة البطلة في كلتا المدينتين. في ويليامسبيرج أنت فرد من جماعة لا قيمة للفرادة فيها، بينما في برلين الاختلاف محبب لمجتمع عاش أحداثًا سياسية مؤلمة أيضًا، لكنه توصل إلى نتيجة أن لكل فرد توجهاً ولكل مبنى مبدأ تصميم خاص به. 

مبني السكة الحديد بميدان Postdamer platz – تصوير محمد طارق
مجموعة من مباني الحاسيديم في حي ويليامسبيرج

مشاهد إستير في نيويورك يتم تصويرها في أماكن مغلقة يغلب عليها الإضاءة الليلية وتكدس البشر من حولها في الكادر خانقين إياها. فلنتأمل أين يتم رؤيتها من قِبل حماتها المستقبلية لأول مرة؟ في وسط بضائع في سوبرماركت، الأمر الذي يجعلها أقرب لسلعة يُنظر إليها على أرفف المنتجات. يُمكننا أيضًا ملاحظة الحرارة الزائدة للإضاءة في مشهد قص شعرها قبل الزواج الذي يوحي بالجحيم الذي تعيشه، أو مشاهد ممارستها للحب مع زوجها في إضاءة زرقاء داكنة بينما هما في كامل ملابسهما، وكأنهما في طقس بارد كئيب من أجل إتمام الإنجاب ليس إلا. ناهيك عن مشهد «المكفاه» وهو حوض سباحة في مكان مغلق، تنزل فيه المرأة وهي عارية تمامًا تغتسل فيه المرأة بعد دورتها الشهرية. 

على الناحية الأخرى، تُعطي المشاهد التي نراها لها في برلين تناقضًا بصريًا واضحًا مع بيئتها الأولى. ففي مشهد البحيرة يدعوها أصدقاؤها الجدد للنزول إلى الماء. فتقرر أن تنزل إلى الماء بملابسها وتخلع عنها الشعر المستعار لتلقيه في الماء، وكأنها بذلك قد تعمدت من جديد ضد كل ما تم سجنها فيه لسنوات! البحيرة على عكس المكفاه واسعة جداً، والشمس تغطيها بإضاءة لا حدود لها! الحفلات الصاخبة التي تذهب إليها يمكن للبشر تقبيل بعضهم فيها بغض النظر عن ماهيتهم أو ديانتهم، والأصدقاء الجدد من بيئات مختلفة لم تعهد مثلها، كما يمكن لها بالإضافة أن تكشف شعرها للعالم بلا حرج أو عار. 

الجانب البصري الثاني للحكاية جانب حسي، فإستير في عالمها الجديد تبدأ تدريجيًا في الكشف عن جسدها. مشهد نزعها للجورب الشفاف من تحت بلوزتها قبل نزولها للماء يحدث في زمن طويل على الشاشة، على عكس أصدقائها الذين يتجردون من ملابسهم سريعاً. في هذا الصدد تحكي مؤلفة المذكرات ديبورا فيلدمان، أن واحداً من أكبر التحديات التي حدثت لها كانت أن تبدأ في ارتداء ملابس قصيرة أو كاشفة، رغم سماح المجتمع بذلك، لكن تلك الرقابة الداخلية-الذاتية تكون في داخلنا بسبب ما تربينا عليه. هذا يظهر في تحرر إستير من الملابس الخانقة على مدار الحلقات وتفاجئها الدائم بكل تحرر بسيط تكتسبه.  

يانكي وموشيه: دراما الشخصيات المتعددة 

الدراما في المسلسل لا تقوم على شخصية إستير فقط، لكنها تتسع لتشمل شخصيات مثل يانكي زوجها وابن عمه موشيه، لتعبر عن مشاعر الطرف الآخر، محاولة استكشافه وتفهم دوافعه وليس النظر إليه من الخارج فحسب. شخصية موشيه تحديدًا، مثيرة للغاية، كونه فر هو الآخر في وقت سابق، وعاد خائب الآمال مرائيًا للمجتمع من أجل إيجاد سلامه النفسي. هذا النوع من الشخصيات، التي تعرف الحقيقة ولكنها توافق وتطيع رغم ذلك، يُذكرنا بـمُمتثل بيرتولوتشي (The Conformist)، المثقف الإيطالي الذي درس الفلسفة في الجامعة ثم قرر طوعًا الانضمام إلى صفوف الفاشية ليُكلف بقتل أستاذه الجامعي، كما يُذكرنا بشخصية رأفت رُستم في فيلم معالي الوزير لسمير سيف وسيناريو وحيد حامد. 

لماذا تُعد هذه الشخصية مثيرة دراميًا لأنها تحمل صفتي الصياد والغنيمة في آن! موشيه يعرف دوافع إستير ويتفهمها، لكنه يمتثل ويطيع الحاخام في ملاحقتها وإرجاعها إلى نيويورك. عند الوصول إلى برلين، يظهر موشيه على حقيقته فيلعب القمار ويزور ماخور يمتلكه صديق قديم له، لكنه لا ينسى مهمته التي ستحرره من ديونه وترحب به في مجتمعه من جديد. في الماخور، يأمر الصديق بعاملة جنس ليانكي، الذي يرفض أن يلمسها، ولكنه يعترف لها بأنه لا يعرف شيئًا عن النساء، ويسألها كيف تحب هي أن يلمسها الرجل. هنا تتضح الشخصية الأخرى الهشة المناقضة ليانكي، التي لا تعرف شيئًا عن العالم. مع مواصلة الرحلة، يكتشف يانكي عن مجتمعه الكثير، لكن شخصيته الخانعة في الأغلب لا توحي أنه قد يهرب من مجتمعه رغم محاولاته الشجاعة لذلك. 

هذا الإبراز الدرامي لشخصيتين يقفان على النقيض من إستير، يلغي تمامًا ثنائية الخير والشر، ويبتعد كل البعد عن النظر إلى الآخر كونه شيطانًا لا يعرف للآدمية معنى. على الجانب الآخر فشخصية يائيل من أصدقاء إستير الجدد، تؤكد أن عالمها الجديد لا يخلو من الحقد والغيرة. هذا التوازن يوحي بإدراك صناع العمل بأنه لا وجود لعالم مثالي، بل واختيارهم للنهاية المفتوحة يعزز من فكرة الشك في مصير كل الشخصيات التي يمكن أن تعود أو تتمرد أو تخنع لطائفتها/مجتمعها في نهاية المطاف. 

«غير ملتزمة» عمل يستحق المشاهدة لأسباب عدة: بداية من تعرضه للتعريف بمجتمع مغلق لم يسمع عنه الكثيرون، مرورًا بتجربة إستير التي يمكن أن تتقاطع أو تتماس مع أي فتاة تعيش داخل مجتمع شديد التدين في أي مكان في العالم، أو أي فتاة تعيش تحدياتها اليومية من أجل إثبات نفسها للعالم وحصولها على حقوقها الأساسية، انتهاءً ببنائه الدرامي الذي يسرد قطعًا من كلتا الحكايتين-العالمين في كل حلقة بأسلوب بصري مناسب لتلك الدراما.