الكون الهولوجرامي ببساطة: هل نعيش في محاكاة؟
تبدأ مشكلة الثقب الأسود وربما تنتهي عند أفق الحدث، نقطة اللاعودة، فقدرة جرم سماوي ما على جذب أسرع شيء في الكون، الضوء، تسرق كل توازن ممكن لمعادلاتنا وتضرب النسبية بالكم خالقةً عدد من التناقضات المتتالية واللانهايات التي تسكن المعادلات فتشل حركتها. في مقال سابق تحدثنا عن معنى الثقب الأسود، وما تعنيه كلمة «معلومة» في فيزياء الكم، وعن معادلة هوكينج التي تقول أن الثقب سوف يتبخر يومًا ما، ثم توقفنا عند تساؤل جاكوب بيكنشتاين عن أثر سقوط كوب شاي ساخن في ثقب أسود ما، لنلعب قليلًا.
معادلات بيكنشتاين
الأمر له دائمًا علاقة بالإنتروبي Entropy، دعنا نعرف الإنتروبي على أنها حالة من عدم الانتظام تؤدي لعدم القدرة على التحديد، لفهم ذلك دعنا نلقي بنقطة حبر في حوض ماء زجاجي، ضمن تلك النقطة جزيء ما، لندعه الجزيء X، نستطيع في البداية تحديد مكان الجزيء بدقة عالية، لأنه ما زال ضمن النقطة، لكن بينما ينتشر الحبر في الكوب نفقد تدريجيًا قدرتنا على تحديد مكان الجزيء X، قد يكون في أي مكان، عندنا إذا ما يمكن أن نسميه «معلومة مخفية Hidden information» في الحوض، معلومة لا نستطيع الحصول عليها بدقة عن مكان الجزيء X، الإنتروبي هي معلومات مخفية.
لنستمر في لعبة بيكنشتاين ونلقي بكوب شاي ساخن في ثقب أسود، في كوب شاي ساخن تتسبب الحرارة في ازدياد طاقة حركة جزيئاته مما يجعلها تهتز بشكل أكبر وفي مساحة أكبر، وبذلك نفتقد للقدرة على تحديد مكان كل ذرة فيها بدقة، بينما في كوب شاي مجمد نمتلك القدرة على تحديد أماكن الذرات بسهولة، حيث يساعد انخفاض درجة الحرارة على تقليل حركة الجزيئات إلى حد أدنى، الإنتروبي في كوب الشاي الساخن أعلى من المجمد، كلما ارتفعت الإنتروبي ارتفع عدم الانتظام، وازدادت درجة حرية الجزيئات في الرقص.
قبل بيكنشتاين وهوكينج، كان الاعتقاد السائد في الوسط العلمي أن الثقوب السوداء هي أجرام سماوية أبدية، باردة، ما يُفقد بداخلها لا يمكن قياسه ولا معرفة أي شيء عنه ولا يمكن أن يخرج منها أي شيء، ونحن نعلم أن الإنتروبي هي نوع من الإشعاع، ككوب شاي ساخن ذا إنتروبية عالية يفقد الطاقة للمحيط، لذلك من الطبيعي أن نتصور أن الثقب الأسود هو إذن جسم بلا أي قدر من الإنتروبي حيث أنه لا يمكن أن يشع أي شيء، لكن هناك مشكلة.
ينص القانون الثاني للديناميكا الحرارية على أن الإنتروبي في الكون تزيد بشكل دائم(1)، كوب الشاي الساخن هو نظام له إنتروبية عالية، حينما نلقي به في الثقب الأسود – مفترض أنه بدون إنتروبي – فنحن إذن نخرق القانون الثاني لأننا حذفنا من الكون إنتروبيا كوب الشاي، إذن لا يمكن منع هذا الخرق إلا في حالة واحدة، أن يكون للثقب الأسود إنتروبي هو الآخر، تتناسب مع ما يلقى به بحيث يحفظ حالة القانون الثاني، دعنا هنا نترك التصورات جانبًا ونبدأ في بناء معادلات قوية تحسب تلك القيمة، لكن كتابة كم المعادلات الضخم الذي يشرح مصير إنتروبي كوب شاي قد يتطلب عدد ساعات لا نهائي، دعنا نلقي بمعلومة واحدة بسيطة لثقب أسود، فوتون ما بطول موجي محدد ، ونحسب ما يتسبب فيه من ازدياد إنتروبية هذا الثقب.
الأمر بسيط، كأن تلقي بنقطة ماء لحوض ماء زجاجي بأبعاد محددة ثم تقيس ارتفاع سطح الماء في الحوض بعد إلقاء تلك النقطة ونحدد الحجم الجديد للماء، بدأ بيكنشتاين في حساباته ثم توصل لنتيجة غريبة، المعادلات تعطي قيمة يكون فيها التناسب بين المعلومة الساقطة – الفوتون هنا – في الثقب الأسود ومساحة سطح أفق الثقب وليس حجمه، الأمر كأن تلقي بنقطة ماء في الحوض الزجاجي فتزداد مساحة سطح جدار الحوض نفسه، لنتأمل معادلة بيكنشتاين معًا، لا تشغل بالك إلا بتلك الـ A التي تعبر عن شيء عجيب، مساحة.
أضف لذلك أن الزيادة المقابلة لإلقاء فوتون/معلومة في ثقب أسود لم تكن رقمًا غريبًا، بل كان رقمًا نعرفه جيدًا، إنه مربع طول بلانك، وهو مساحة من الصغر بحيث نحتاج لـ ألف تريليون تريليون تريليون تريليون تريليون قطعه منه لتغطية بروتون واحد! هنا توصل بيكنشتاين لواحد من أعجب قوانين الفيزياء، حيث أنه مهما اختلف شكل أو حجم الثقب الاسود، كل معلومة سوف تُلقى بداخله تتحول لواحد بلانك مربع، إذا ألقيت بفوتون أو إلكترون أو جزيء كامل أو كرسي أو ثلاجة أو فنجان قهوة أو محمود درويش، أي شيء تلقي به في ثقب أسود يزداد في مقابل معلوماته مساحة سطح أفق هذا الثقب وليس حجمه، الأمر كأن تلصق معلوماته على الأفق كما تغطي سطح كرة قدم بتوقيعات لاعبين مشاهير!
حفل شواء أم طريق سريع؟
حسنًا، دعنا لا نستبق النتائج، فإنتروبية الثقب الأسود إذًا هي كمٌّ ضخم للغاية من المعلومات الصغيرة المخفية والملصقة بشكل ما على أفق الثقب الأسود، يعني ذلك أن لهذا الأفق قدرًا من الحرارة، وقياسًا على هذا العدد المهول من البت الخاص بالمعلومات الموجود بمساحة بلانك وحركته على أفق الثقب الأسود سيعني ذلك أن الأفق هو مكان غاية في الحرارة، تقدر بـ مليون بليون بليون بليون درجة مئوية. إذن، قد يكون مصير الساقط في ثقب أسود هو حفل شواء قبل أفقه بقليل، سوف يحترق ثم يعاد بثه – مع معلوماته – كأبخرة مرة أخرى مع إشعاع هوكينج، يسمى ذلك الوصف للثقب الأسود بـ «الجدار الناري Firewall». لكن، ألم تقل في مقال سابق شيئًا آخر عن مصير الساقط في ثقب أسود؟ لدينا إذًا وجهتي نظر غاية في الاختلاف!
1- الساقط إلى الثقب الأسود، محمود درويش هنا، حسب مبدأ التكافؤ في النسبية العامة، لن يشعر بأي شيء عند أفق الحدث، بل سوف يستمر في السقوط كأنما هو في طريق سريع حتى يصل للمفردة، ويفنى تمامًا.
2- الساقط إلى الثقب الأسود، حسب ميكانيكا الكم، سوف يتم حرقه قبل أفق الثقب الأسود وتبخيره وإعادة معلوماته من جديد للكون، بذلك نتلافى مفارقة المعلومات Information Paradox، لكننا نكسر النسبية العامة.
ما الحل إذًا؟ هنا يخبرنا كل من ليونارد ساسكايند أستاذ الفيزياء النظرية الشهير بستانفورد ولاروس ثورلاسياس الفيزيائي بجامعة أيسلند وجون أوجلم بناءً على أفكار جيرارد هوفت الفيزيائي الألماني وجون بريسكل الفيزيائي النظري بكالتك بأن الإجابة هي: كلاهما، الأمر فقط يتوقف على وجهة نظر الملاحظ، هل هو الساقط في الثقب الأسود أم المشاهد في الخارج؟!
متتامة الثقب الأسود
المتتامة Complementarity) 2) هي مصطلح كمومي من ابتكار نيلز بور، ظهر لتفسير سبب اختلاف تصوراتنا عن الجسيمات في فيزياء الكم، فمن ناحية ما يمكن أن نستخدم نوع من الأجهزة لقياس الإلكترون كجسيم، ويمكن أن نستخدم نوع آخر من الأجهزة للتعامل مع الإلكترون كموجة، يمكن في كل مرة أن نحصل على نتائج صحيحة لكن يستحيل جمع الصورة الجسيمية والموجية للإلكترون معًا، فقط يمكن أن نرى وجهات نظر مختلفة لنفس الواقع، الأمر كأن تستخدم منشورًا زجاجيًا كعدسة لحرق طرف ورقة صغيرة وتستخدم نفس المنشور لتحليل الضوء الأبيض لسبعة ألوان، كذلك متتامة الثقب الأسود Black hole Complementarity، ما يحدث هو وصفين لنفس الواقع، تلتصق معلومات محمود درويش على أفق الثقب الأسود في شكل عدد ضخم من البت – 1 بلانك مربع – ثنائي البعد العالي الحرارة، وفي نفس الوقت يسقط محمود درويش بالفعل، ثلاثي البعد، في الثقب الأسود حتى يصطدم بالمفردة، يعفينا هذ النموذج من كسر النسبية العامة ومن الوقوع في مفارقة المعلومات، لدينا هنا صورتان لنفس الواقع، إحداهما ثنائية البعد والأخرى ثلاثية. هل يمكن أن نجمعهما معًا؟ دعنا نضرب مثالًا للتقريب:
تلك هي لوحة «زواج العذراء» للفنان الشهير رافائيل، إنها لوحة ثنائية البعد توضح مكانًا ثلاثيَّ البعد، بالفعل بها كم ضخم من المعلومات التي يمكن أن نستخدمها لفهم الوضع. لكن، هل يمكن أن تخبرني بشكل هذا المبنى من الخلف؟ هل يمكن للوحة أن تطلعنا على وجوه السيدات هناك بعيدًا في اليسار؟
لا، لأن اللوحة لا تمتلك القدر الكافي من المعلومات لإعطائه لنا، هذا ممكن فقط في حالة الهولوجرام، الهولوجرام هو كيان ثلاثي البعد – فوكسلات – لكن معلوماته مكتوبة على أفق ثنائي البعد – بيكسلات، حيث يمكن بالفعل نقل معلومات فضاء ثلاثي البعد بالكامل لآخر ثنائي البعد مع تعديلات ضخمة، الأمر يشبه أن تقوم بتحميل فيلم little miss sunshine على اسطوانة بقيمة 700 ميجابايت ثم تقوم بعرضه فيما بعد على شاشتك الكبيرة، لكن بصورة ثلاثية الأبعاد كأن أوليف هوفر ترقص أمامك على مسرح بالفعل.
تعلمنا الفيزياء أن الأجواء بداخل الثقب الأسود تشبه الأجواء خارجه، مما دعا بعض الفيزيائيين لعمل صياغة فيزيائية مدعومة برياضيات قوية تشرح كيف يمكن لنا أن نكون كمحمود درويش الساقط في ثقب أسود، حيث تلتصق كل المعلومات عنه وعن عالمنا وعن ونّوس وعن تصويت البريطانيين في استفتاء الخروج من الإتحاد الأوروبي، وعن المركبة جونو، ومجرة درب التبانة، وكل ذرة في الكون، كصورة ثنائية البعد في شكل كم مهول من الـ بت/ بلانك مربع على أفق كوني ما، بينما تتواجد صورة كل هذا الكيان كانعكاس ثلاثي البعد لتلك المعلومات نعيشه حالًا ونسميه «الواقع». نعم، انها واحدة من أكثر التصورات عما تعنيه كلمة «واقع» غرابة وتطرفًا في العلم، لكن الفيزياء لا تهتم للتطرف في تصورك بقدر ما تستمع فقط لحلول متينة لتناقضات واجهتنا أثناء رحلة البحث عن معنى وجودنا وتكوينه، حلول ترتسم فيها صورة ثنائية البعد لكل المعلومات الممكنة عن شاعر شهير في أفق وجود/مكان/كيان ما، بينما ننعكس نحن هنا في الصورة ثلاثية البعد لنتسائل مثله:
ماذا تبقَّى من بقايانا لنرحلَ من جديد؟
لا تُعطِنا، يا بحرُ ، ما لا نستحقُّ من النشيد
1- لمزيد من المعلومات هنا يمكن مراجعة مقالي سابق «هل يمكن للنظام أن ينشأ من فوضى؟»
2- لمزيد من المعلومات عن المتتامة يرجى مراجعة مقالي السابق «تفسير كوبنهاجن: تتام بور وتناظراته»