عالمية الإسلام: اجتهادات في وحدة الدين وتعدد الرسالات
غداة الحرب العالمية الأولى، وبعد إلغاء الخلافة العثمانية ببضع سنوات، وفي خضم الصراعات الفكرية والنزعات العنصرية والعرقية والقومية في فترة ما بين الحربين العالميتين؛ نهضَ بعضُ شيوخ الأزهر الشريف، وعدد من رموز الدعوة والإصلاح في مصر والعالم الإسلامي لصوغ خطاب جديد يركز على مسائل كان قد طالَ السكوت عنها رغم كثرة التنبيه إليها في آيات القرآن الكريم، ورغم كثرة ورودها في أحاديث الرسول، صلى الله عليه وسلم، وهي: أن دين الله واحد، وأن البشر أصلهم واحد، وأن رسالات الله متعددة، وأن الإسلام دينٌ عالمي وليس لجنس دون جنس، أو عرق دون عرق.
تلك المسائل، وما في حكمها، لم تكن مألوفة في تلك الفترة التي أشرنا إليها، ولم تكن الكتابة فيها مطروقة، ولم تكن مثل هذه الرؤية العالمية مستفاداً منها في بناء رؤية عملية للمسلمين نحو أنفسهم ونحو العالم الذي يعيشون فيه. وكان ورودها يأتي بين الحين والآخر بشكلٍ خافت؛ لا يكادُ يرى بالعين المجردة في كتابات رواد الإصلاحية الإسلامية الحديثة عموماً؛ ابتداءً من الطهطاوي في مصر (1216هـ /1801م ــ 1290ه /1873م)، مروراً بحسين الجسر في الشام (1261هـ /1845م ــ 1327هـ/1909م)، ومحمود الألوسي في العراق (1273هـ/ 1856م ــ1342هـ/1924م)، والأفغاني (1245هـ/1838م ــ 1315هـ/1897م)، ومحمد عبده (1266هـ/1849م ــ 1323هـ/1905م)، وصولاً إلى رشيد رضا (1282هـ/1856م ــ 1354هـ/1935م)، وعبد الحميد بن باديس في الجزائر (1038هـ/1889م ــ1359هـ/1940م)، ومصطفى صبري آخر شيوخ الإسلام في الدولة العثمانية (1286هـ/1869م ــ 1373هـ/1954م).
هؤلاء ورُصفاؤُهم لم تكن من مشاغلهم مسائل: «عالمية الإسلام»، أو«تعدد الرسالات»، أو «وحدة الدين»، أو «الأخوة الإنسانية»، أو «السلام العالمي»؛ بل شغلتهم مشكلاتٌ أخرى فرضتها الأحوال التي كانت تمر بها بلدان العالم الإسلامي بحكم وقوعها تحت الاحتلال العسكري والنهب الأجنبي، وبفعل رزوحها تحت الاستبداد الداخلي أيضاً، ونتيجة تعرضها لحملات التبشير، والغزو الفكري. وبحكم معاناتها كذلك من شيوع الجهل والفساد والضعف المادي والتأخر الحضاري. وبطبيعة الحال؛ فإن تلك المعضلات كانت كفيلة بأن تستغرق جل الجهود وجل الاجتهادات، وجل أعمار أولئك المصلحين؛ بحثاً عن حلول لها.
لستُ ألتمس لشيوخ الإصلاحية الحديثة أعذاراً. صحيحٌ أن انشغالهم بتلك المشكلات كان له ما يسوغه، ولكن لم يكن من مسوغ لذهولهم عن «عالمية الإسلام»، ولا عما يتعلقُ بها ويستحيل أن ينفصل عنها من مسائل مثل تعليم البشرية معنى: وحدة الجنس البشري، ووحدة الدين، والحكمة من تعدد الرسالات السماوية والشرائع الإلهية. فهذه المسائل بحد ذاتها يؤدي البحثُ فيها ـ على الأقل ــ إلى فتح أبواب جديدة لحل كثير من تلك المعضلات التي استغرقت جهودهم واجتهاداتهم. وهذا ما بدأ يتنبه إليه بعض كبار العلماء ودعاة الإصلاح وزعمائه، وسجلتها اجتهاداتهم في فترة ما بين الحربين العالميتين إلى ما بعد منتصف القرن الرابع عشر الهجري/منتصف القرن العشرين الميلادي تقريباً.
لكن تلك الانتباهة تعرضت لانتكاسة مروعةٍ بعد ذلك، ولا تزال تلك الانتكاسة مستمرة حتى اليوم؛حيث عادت جهود الإصلاح إلى الانكباب على المعضلات الداخلية في عالم الإسلام والمسلمين بعيداً عن عالمية الإسلام وإنسانية مبادئه العليا ومقاصده العامة؛ وحيث ساد التعاطي العشوائي غير المنضبط مع القضايا العالمية بعامة، ومع غير المسلمين بخاصة.
ولهذه الانتكاسة أسباب وتداعيات قد أعود إليها لاحقاً في مقال آخر. أما هنا فمن المهم التعريف بواحد من الاجتهادات الأولى التي ظهرت في منتصف القرن الرابع عشر الهجري/ثلاثينيات القرن العشرين الماضي، وهو ما قدمه الشيخ مصطفى عبد الرازق في سياق محاضرات ألقاها في الجامعة الأمريكية في بيروت سنة 1350هـ/1931م؛ أي قبل أن يصير شيخاً للأزهر الشريف (1365هـ/ 1945م ــ 1366 هـ ــ 1947م).
وقد ضم تلك المحاضرات إلى بحثين آخرين وأصدرهما في سنة 1945 في كتابه: «الدين والوحي والإسلام». وقمنا من ناحيتنا بإعادة نشر هذا الكتاب (1436هـ ـ 2015م) مع دراسة تقديمية قيمة كتبها لهذه الطبعة صديقنا الدكتور عصمت نصار، أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة بني سويف. وذلك ضمن مشروعنا بمكتبة الإسكندرية الذي أعدنا فيه نشر كتب في «الفكر النهضوي الإسلامي» خلال القرنين الثالث عشر والرابع عشر الهجريين، وقد أصدرنا خمسة وخمسين كتاباً من أثمن ما أنتجه رواد التجديد الإسلامي وشيوخه الكبار في مختلف بلدان الأمة الإسلامية من المغرب غرباً إلى الهند شرقاً، ومن البوسنة والهرسك شمالاً إلى اليمن جنوباً، وكان لي شرف الإسهام في اختيار تلك الكتب والإشراف ــ مع أستاذنا العلامة الدكتور محمد عمارة ــ على فريق الباحثين الذين أسهموا في التعريف بها وبمؤلفيها وبمشروعاتهم التجديدية.
على المستوى الفكري، شهد منتصف القرن الرابع عشر الهجري/ ثلاثينيات القرن الميلادي الماضي، موجةً قوية من الكتابات الاستشراقية التي تناولت في جانب منها مسألة «عالمية الإسلام». ولم يكن المستشرقون على رأي واحد في هذه المسألة؛ فبعضهم سلَّم بها على مضض، من أمثال: نولدكه، وجولتسيهر، وتوماس أرنولد، وبعضهم أنكرها بشدة وبصخب، من أمثال: فرانتز بول، وجاستون وايت. وفي تلك الفترة عينها راجت أفكار كثيرةٌ تمس «عالمية» الإسلام ووحدة الجنس البشري ووحدة الدين بمعايير المرجعية الإسلامية. ومن تلك الأفكار ما كان يؤكد على أن حضارة الغرب الحديثة هي مستقبلُ العالم؛ بما فيه الشرق وشعوبه الإسلامية، ومنها ما كان يميز بين أجناس البشر ويرتبها طبقات أعلاها وأرقاها «الجنس الآري»، يليه «الجنس السامي»، ويليه «الزنوج» وهكذا .
وإلى جانب ذلك، كانت نزعات القومية والعنصرية والفوضوية الشيوعية قد تسربت إلى ديار الأمة الإسلامية؛ وكانت تهدد أيضاً «عالمية الإسلام» تهديداً عملياً بتمزيق الوحدة المعنوية لأمته بعد أن تمزقت وحدتها السياسية، كما كانت تسهم في تفتيت الروابطِ العقيدية والنفسية والتاريخية والمصلحية بين شعوبه. وكان هناك خطرٌ ثالث تمثل في صعود نزعات الاستعلاء القومي وادعاءات التفاضل بين البشر على أسس الانتماء العرقي أو الديني (النازية ـ والفاشية ـ وشعب الله المختار)، وهي نزعات تتناقض مباشرة وعلى طول الخط مع تأكيدِ الإسلام على أن البشرَ جميعاً سواسيةٌ، وأن وأصلَهم واحدٌ، وأنهم جميعاً لآدم وآدم من تراب.
في تلك الأجواء، قدَّم الشيخ مصطفى عبد الرازق اجتهاده بشأن وحدة الدين، وتعدد الرسالات وعالمية الإسلام، والأخوة الإنسانية. وسلكَ سبيل التأسيس الأصولي، والتحليل المركب متعدد الأبعاد: لغوياً، وثقافياً، واجتماعياً، ونفسيًا، وفلسفيًا، ونقديًا، ومقارنًا.
بَحَثَ الشيخ بعمقٍ في أصل كلمة «الدين» ومفهومه في نظر الباحثين الغربيين، وقارن ما توصل إليه بمفهوم الدين وأصله في النظر الإسلامي ومصادره المختلفة. وكان جهده هذا ــ في نظري ــ هو الأساس الذي شيد عليه ــ فيما بعد ــ الشيخ محمد عبد الله دراز (1312هـ/ــ1894م ــ 1377هـ/1958م) اجتهاده في التمهيد لتجديد علم مقارنة تاريخ الأديان بكتابه الفذ المطبوع بعنوان: «الدين ـ بحوث ممهدة لدراسة تاريخ الأديان».
انتهى الشيخ مصطفى عبد الرازق إلى أن الدين بمعناه العام يتسعُ للأديان وللمذاهب التي أشار إليها القرآن كلها من: اليهود، والنصارى، والصابئة، والمجوس، وهو (كتاب الشيخ مصطفى عبد الرازق: الدين والوحي والإسلام، ص36):
هذا المعنى الذي انتهى إليه الشيخ مصطفى، عاد وأكد عليه بعد نقده لعدد من أهم تعريفاتِ علماءِ النفس والاجتماع للدين، بمن فيهم: إيميل دوركايم، وسبنسر، وماكس مولر، وبرونتيير، ولا لاند. انتقد الشيخ ما ذهبوا إليه جميعًا، وركز انتقاده على دوركايم الذي عرف الدينَ بأنه «نظامٌ من عقائد وأعمال متعلقة بشئون مقدسة؛ أي مميزة، محرمة؛ تؤلفُ من كل من يعتنقونها أمةً ذات وحدة معنوية».
أوسع الشيخ هذا التعريف الدوركايمي نقدًا وتفنيدًا. وخلصَ إلى أن تعريف لا لاند قد يكون أقرب للصواب، وهو يعرفه بأنه: «الإيمانُ بنوعٍ من الموجودات أسمى من سائر الأنواع». ولكن شيخنا لم يطمئن إلى هذا التعريف، وعاد لمناقشته، وقال: إن اعتبار الموجودات كلها ليست من نوع واحد، ولا في مرتبة واحدة لا يُخرِجُ بعضَ مذاهب الفلسفة، ولا بعضَ العلوم التي قد تعترفُ بأن في الكون أنواعاً هي أسمى من أنواعٍ في طبيعتها؛ من غير أن يجعلها ذلك ديناً، اللهم إلا إذا لُوحظ في هذا التعريف معنى الإيمان، لا الإدراكِ العلمي، فحينئذ يسلم من الاعتراض، ويصبح أرجح تعريفات الدين . حسب قوله.
بعد ذلك انتقلَ الشيخ مصطفى مرة أخرى للتأصيل المعرفي متعدد الأبعاد لمفهوم الدين في اللغة العربية، وعند حكماء المسلمين، وراحَ يتعمق في بيان هذا المفهوم في القرآن، واعتمد بكثرةٍ على حجج من آيات الكتاب العزيز، وانتهى اجتهاده إلى أن: «القرآنَ استعملَ لفظ «دين» بمعنىً شاملٍ؛ حتى إنه سمى نِحَلَ المشركين أديانًا في مثل قوله ﴿لكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ﴾ (الكافرون:6). ولكن القرآن قرَّرَ في أمر الدين بمعناه الإسلامي أصولاً جعلت له معنى شرعياً خالصاً؛ فالدينُ لا يكون إلا وحيًا من الله إلى أنبيائه الذين يختارهم من عباده ويرسلهم أئمة يهدون بأمر الله».
وهذا الدين الذي يوحيه الله إلى أنبيائه «هو واحدٌ؛ لا يختلفُ في الأولين والآخرين». وهذا الدينُ الواحد هو «الدين القيم»، وهو المعبر عنه في آيات من القرآن بالإيمان، وعن أهله بالمؤمنين، والذين آمنوا. ونقل رأي أستاذه الشيخ محمد عبده في تفسير قولِه تعالى: ﴿فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ﴾ (التين:7)، وهو أن: «الدين ههنا هو: خلوص السريرة للحق، وقيام النفس بصالح العمل، وهو ما كانَ يدعو إليه صلى الله عليه وسلم وسائر إخوانه الأنبياء». ولعلَّ حبَّ حصيدِ اجتهاد الشيخ مصطفى يتلخص في ثلاثة استنتاجات كبرى هي:
أ. أن دين الله الواحد الذي لا يدخلُه نسخٌ، ولا يختلفُ باختلاف الأنبياء هو في عرف القرآن المسمى إسلاماً…، وأن الدينَ الذي هو الإسلام هو: التنصيصُ على قواعد العقائد، والتوقيفُ على أصول الشرائع التي كملت في القرآن.
ب. أن الحكمة من تعدد الرسالات والكتب المنزلة من عند الله نجدها في قوله تعالى:﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا﴾ (المائدة: من الآية 3)؛ فهذا الجزء من الآية يدل على أن الدين واحد،أما الأحكامُ العملية فهي تختلفُ باختلاف الأنبياء والأمم، وقد تتغير بتغير المكان والزمان، وقد جمعها القرآن إجمالاً بتبنيه الأصول التي تستمد منها تلك الأحكام.
ج. أن «الإسلام هو الدستور الخالد الأصلح للإنسانيةِ كافة»، وأن هذا الخلود هو الوجه الآخر لعالمية الإسلام. فهو يجمعُ بين الدين والشريعة؛ أما الدينُ فقد استوفاه الله كله في كتابه الكريم، ولم يكل الناسَ إلى عقولهم في شيء منه. وأما الشريعةُ فقد استوفى أصولها ثم ترك للنظر الاجتهادي تفصيلَها، وهذا ما يكسبها القدرة على التوسع أفقياً ومجتمعياً في مختلف الأمم، ويرسخه رأسياً بتعاقب المراحل الزمنية.
ولم يكن في وسع الشيخ، رحمه الله، وسط كثرة مسئولياته الرسمية (أستاذًا للفلسفة الإسلامية، ووزيرًا للأوقاف عدة مرات، ثم شيخًا للأزهر) أن يتوسع بأكثر مما قدم في اجتهاده هذا بشأن مسائل: وحدة الدين، وتعدد الرسالات، وعالمية الإسلام، والأخوة الإنسانية. ومع هذا فقد فتحَ الباب لعدد آخر من العلماء والمجتهدين ليواصلوا إلقاء نور المعرفة على هذه الموضوعات ذات الأهمية الحيوية في صوغ الرؤية الإسلامية للعالم المعاصر، ليس فحسب؛ وإنما في بناء جسور التفاهم بينهم وبين غير المسلمين من مختلف الملل والنحل والأديان الأخرى.
وكان من تلك الاجتهادات المبكرة التي ترسمت خطى الشيخ مصطفى ــ فيما ظهر لي ــ رسالةُ الشيخ محمد مصطفى المراغي بعنوان «في الزمالة الإنسانية» التي قدمها لمؤتمر الأديان في لندن سنة 1936م. وقد كتبتُ عنها مقالة في صحيفة الحياة اللندنية (15/4/2017م). ومنها أيضًا رسالة الشيخ دراز عن «موقف الإسلام من الأديان الأخرى وعلاقته بها»، وقد وافته المنية أثناء مشاركته بها في الندوة العالمية للأديان (لاهور ــ باكستان : جمادى الآخرة 1377هـ ـ يناير 1958م). وقد استطاع فيها أن يمزج المسائل الثلاث في رؤية اجتهادية جديدة تجمع بين: وحدة الدين، وتعدد الرسالات، وعالمية الإسلام، ليدفع بعالمية الإسلام إلى آفاق مستقبلية وإنسانية، من شأنها أن تمكن أمة الإسلام من الانفتاح على العالم، والإسهام في بناء صرح السلام العام. واجتهادات الشيخ دراز في هذه المسائل، مثلها مثل اجتهادات غيره من رُصفائه ومعاصريه من كبار العلماء، تحتاج لمقال آخر، نعتزم أن نوضح فيه ما يمكن أن يترتب عليها من نتائج عملية في واقع أمتنا ومستقبل العالم.