رواية «أيام لا تُنسى»: القرية المصرية بمنأى عن الرمزية
لا يزال الريف المصري وعالمه زاخرًا بالحكايات والقصص التي تنتظر من يعيد استكشافه والدوران حوله ببراعة ليخرج منه بكنزٍ فريد لا مثيل له، ويبني من خلاله عالمًا يتوق الكثيرون للتعرف عليه وإعادة استكشافه. من جهة أخرى تبدو لعبة «المذاكرات» والعودة للماضي لاستعادته روائيًا، أحد الأساليب الروائية المطروقة بكثرة، والتي يستطيع الكاتب من خلالها أن يقدم رؤية يفتقدها في الغالب، ويواجه بها عالم اليوم وما فيه من صعوبات وتعقيدات ومشاكل.
وإذا كان العرف والعادة قد جرت على الكثير من حكايات الريف وروايات عالم القرية المصري أن يكون منطلقًا من «الفلاح» المهمش والعامل البسيط، وما يمارسه عليه «السادة» ورجال السلطة وأصحاب النفوذ من قهرٍ وظلم وجبروت، فإنه لا يزال هناك وجه آخر لم يتم الكشف عنه وتناوله كثيرًا في ذلك العالم شديد الخصوصية، وهو عالم «بيت العمدة» نفسه، صاحب السلطة والنفوذ الأول في القرية، والرجل المطاع مهاب الجانب الذي يأمر فيسعى الجميع لتنفيذ أوامره، ولكنه هذه المرة يلين ويخضع ويبرز جانب من جوانبه الإنسانية في صحبة حفيده، ذلك الطفل الصغير، الذي يسعى لاستكشاف العالم من خلال جده!
في روايته الجديدة «أيام لا تُنسى» الصادرة، مؤخرًا، عن دار العين، يقدّم «كمال رُحيم» عالم القرية والريف المصري تقديمًا جديدًا ومختلفًا من خلال الشاب «علي» الذي يفتقد جده «هارون» ويعود بالذاكرة إلى سنوات طفولته الأولى، وكيف كان أثر هذا الجد/العمدة عليه بشكل خاص، وعلى أفراد أسرته الكبيرة من جهة، ومجتمع القرية كله بشكلٍ عام.
علاقة خاصة وفريدة قرّبت الحفيد من الجد في وقتٍ مبكّر من حياته، وسمحت له بالتالي أن يكشف لنا عن عالم ذلك العمدة صاحب السلطة والسطوة، وأهل ذلك البيت سواء من الرجال أو النساء، وكيف كانوا يعاملون هذا الجد بكل الاحترام والتوقير اللازمين، بل وكيف كانوا يتعاملون مع أخوه التوأم «الجد عبد اللطيف» المطرود من رحمة هذا الجد وسلطانه لتصرفاته الطائشة.
اقرأ أيضًا: الوصايا ..مرثية عادل عصمت لزمنٍ ليس ببعيد
استطاع «كمال رحيم» أن يقدّم عالم الريف المصري من داخل بيت السلطة هذه المرة، دون أن يقع في فخ الترميز الذي طالما ذهب إليه الكثيرون، فقدّم العمدة في جانبٍ إنساني وحقيقي نادر من جهة، وابتعد عن كل ما من شأنه أن يجعله رمزًا للسلطة الحاكمة في ذلك الوقت، كما قدّم بقية شخصيات هذه القرية على تعددها وثرائها بشكلٍ متقن ومكثّف من خلال مواقف عابرة ولكنها تحمل دلالتها الخاصة جدًا، والتي تجعل القارئ متفاعلاً معها مدركًا لأبعادها حتى وإن جاء ذلك من موقفٍ واحدٍ أو جملة في حوار.
وهكذا فإذا كانت الرواية تدور بشكلٍ خاص حول العلاقة بين الجد «هارون» وحفيده «علي»، فإننا نكون على دراية كاملة ببقية أفراد هذه العائلة، لا سيما من كان منهم له دور أو حضور حتى لو كان هامشيًا، وذلك من الرجال والنساء على السواء، بل ويأتي حضور النسوة مميزًا بدءًا بالجدة صاحبة الحواديت التي لا تلبث أن تموت، مرورًا بالأم زوجة أكبر الأبناء وقدرتها على السيطرة على شؤون المنزل، وصولاً إلى «الحاجة فردوس» كبيرة الخادمات ومستودع أسرار العائلة.
يبدو رجال القرية كلهم – بعد ذلك الجد الكبير الحاكم على الخلفية- لا أثر لهم ولا سلطة ولا كلمة مطاعة، هو الذي يأمر وينفذ، ويأتي أمره على رقاب الجميع.
وبعيدًا عن رسم الشخصيات تحضر «الأشياء» أيضًا في الرواية، ويكون لها أثرها وسطوتها، إذ تبدأ الرواية أصلاً بتلك الصورة «صورة الجد»، وذلك «الصندوق» الحاوي لتلك البقايا التي أخذها الحفيد من جده، وتداعت على إثرها تفاصيل الأحداث والذكريات، كما تحضر «عصا الأبنوس» التي طالما هش بها الصغار، والمسبحة والخزيرانة، وغيرها من تفاصيل صغيرة ترسم الصورة الكليّة لذلك الجد، وتكمّل اللوحة التي يرسمها السارد باقتدار.
تحضر مصر القديمة أيضًا، الحسين والغورية بشكلٍ عابر ولكنه مؤثر، حيث كانت «القاهرة» قديمًا بالنسبة إلى أهل الريف هي تلك المناطق تحديدًا، ولا شيء غيرها. كما يحضر «عبد الناصر» وثورة 1952 على استحياء، ذلك أنها أثّرت – في النهاية- في مكان ذلك العمدة ومكانته، ورغم محاولته الاحتيال على نزع المنصب منه إلا أن ذلك الأمر قضى في النهاية على حياته.
هكذا استطاع «كمال رُحيم» أن يعرض القرية المصرية بتفاصيلها العديدة، دون أن يغرق في الحكايات أو يفصّل في الشخصيات، بل اعتمد على التكثيف والإيجاز والإشارة دون الاستعراض، وقدّ عالم القرية من خلال هذا العمدة وحفيده وعلاقتهم الخاصة بشكل سلس وذكي، فلم تتجاوز الرواية مائتي صفحة، ولكنها كانت عاكسة وكاشفة لذلك العالم باقتدار، بل أظن أن من يقرأ هذه الرواية سينتظر – ولا شك- جزءًا آخر أو رواية تالية يحكي فيها البطل «علي» حكايته في القاهرة بعد رحيل جده، وكيف بقي أثر ذلك الجد حاضرًا في حياته بعد ذلك.
كمال رُحيم روائي مصري حاصل على الدكتوراه في القانون من كلية الحقوق بالقاهرة عام 1986، كتب عددًا من الروايات الهامة بدأها بثلاثية «أيام الشتات»، و«قلوب منهكة»، و«أحلام العودة» والتي يتناول فيها جزءًا من تاريخ مصر في الخمسينات والستينات وتاريخ وجود اليهود المصريين قبل احتلال فلسطين وتهجيرهم منها لا سيما بعد العدوان الثلاثي عام 1956، وكيف أثرت القرارات السياسية آنذاك على حياتهم وجعلتهم يعيشون في الخارج مع حلمهم الدائم بالعودة إلى المكان الذي يعتبرونه وطنهم الأصلي مصر، ترجمت هذه الثلاثية إلى اللغة الإنجليزية تحت عنوان «مسلمين يهود».
من جهةٍ أخرى تعد «أيام لا تُنسى» بداية لمشروعٍ جديد يخوضه كمال رحيم في الكتابة عن مصر والتغيرات الاجتماعية التي حدثت فيها في السنوات الأخيرة، والتي سبقها أيضًا رواية «المليجي» الصادرة عام 2014 .