الصراع حول فهم الإسلام بين الصوفية والفقهاء: لماذا قتلوا السهروردي؟
نحن الآن في مَعِيَّةِ رجل معتدل القامةِ، أحمر اللون، فقير أشعث، لا يسافر إلا راكبًا قدَمَيْه، مُتَبَتِّلًا عَزْبًا، مُنصَرِفًا إلى الفكر الخالص، قليل العناية بنفسه، لا يبالي بطعامٍ أو شرابٍ، ولا يكترثُ لجسدِه أو ثيابه، رجل يصفونه بأنه كان زَرِيَّ الخِلْقَةِ، وَسِخَ الجسمِ، دَنِسَ الثياب، لا يقصُّ شعرَه ولا أظافرَه، يتكاثرُ القملُ في شعره، ويقع على وجهِه، ويسعى على ملابسه الشنيعة سعيًا، قائلًا: «ما حَيِيتُ لِغَسْلِ الثِّيَابِ، لي شُغُل أَهَمُّ من ذلك»، منقطعًا إلى التأمُّلِ والتصنيف، غير منشغلٍ بالمادة ولا يلتفتُ إليها، مُنْخَلِعًا عنها إلى الروح، متفانيًا فيها.
لماذا يُرسل صلاحُ الدين الأيوبي المشهورُ رسالةً قاطعةً في أمر هذا الرجل إلى فقهاءِ حلبَ يقول فيها: «إنَّ هذا الشابَّ السّهرورديّ لا بد من قتله، ولا سبيل على أن يُطْلَقَ، ولا يبقى بوجهٍ من الوجوه»؟! إنَّ للأمر تفصيلًا، وتمهيدًا لا بد من الخوضِ فيهما قبل أن نحكي حكايةَ الشاب المقتول! إذ علينا أن نُفَكِّكَ ونشرح أصولَ الخلافِ الذي نشأَ وتنامى وامتدَّ بين الفقهاءِ وفهمِهم الدينَ، والصوفيةِ وفهمهم الدينَ، وكيف ظهرَ الخلافُ بينهما على مستوياتٍ عديدة، بعضها كان مسالًما على مستوى الفكر والكلام، وبعضها كان عنيفًا على مستوى السيف والسلطان.
توقيع الفقيه عن الله
إذا حاولنا، سريعًا، شرح الأساس الذي ينطلق منه الفقيهُ المسلمُ في فهمِه الدينَ والحياةَ، سنقول إنه يرى النصوصَ الدينيةَ لا بد أن تستوعب الحياةَ الإنسانيَّة جميعَها حتى وإن لم يأتِ فيها نصٌّ ما مُبِيحًا أو مُحَرِّمًا أو موجبًا. إننا أمام فهمٍ للدِّينِ يحاول استنطاق النصِّ دائمًا وأبدًا في كلِّ واقعةٍ وسلوكٍ إنسانيٍّ، وكأنَّ النصوص المُتَنَاهِيَة لا ينبغي عليها أن تتناهى، وعليها أن تستوعبَ الوقائعَ الإنسانيةَ اللامتناهية تاريخيًّا ومكانيًّا، وهذا ما يُعَبِّرُ عنه البعضُ بصلاحيَّةِ الشريعةِ لكل زمانٍ ومكانٍ إلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها.
نصَّبَ الفقهاءُ أنفسَهم مُوَقِّعينَ عن الله كما عبَّرَ ابنُ قيِّم الجوزيَّة الذي سمّى كتابًا له في الفقه وأصوله: «إعلام المُوَقِّعِينَ عن ربِّ العالَمين»، ووصَفَهَم بأنَّهُمْ «خُصُّوا باستنباطِ الأحكام، وعُنُوا بِضَبْطِ قواعدِ الحلال والحرام؛ فهُم في الأرضِ بمنزلةِ النجوم في السماء، بهم يهتدِي الحيرانُ في الظلماء، وحاجةُ الناس إليهم أعظمُ من حاجتِهم إلى الطعامِ والشراب، وطاعتهم أَفْرَضُ عليهم من طاعةِ الأمهاتِ والآباء». ما يُدْلِي به الفقهاءُ من رأيٍ في الدين، ليس مجردَ رأيٍ بشريٍّ غير مُلْزِمٍ في نظر ابن قيِّم الجوزيَّة، ولكنه اجتهاد واجبُ النفاذ؛ لأنهم يوقِّعون عن الله، ويحكمونَ باسمه مُسْتَنْطِقِينَ إيَّاهُ في كل مناسَبة، درجةَ افتراضِهم مسائلَ يستحيلُ وقوعُها أصلًا، وعلى العوامِّ من الناس تسليمهم العقولَ، ومتابعتهم في كل شأنٍ، وتقليدهم في كل نازلة.
في كتابه «تَجَلِّي الإله»، يرى أحمد سالم أنَّ الفقهاءَ لم ينظروا إلى اجتهاداتهم في الدين وآرائهم على أنَّها اجتهادَاتٌ بشريَّة تصيب وتخطئ، ولكن، على أنها فتاوى مُوَقَّعَة بأيديهم نيابةً عن اللهِ، وكأنَّ للفقيه ولايةً مطلقةً على الناسِ كما نراها عند الشيعة في فقههم السياسي الحديث. لنا أن نتساءلَ الآن: كيف بسط الفقهاءُ سلطانَهم على الناس، وكيف ردُّوا تلك الوقائع غير المتناهية إلى النصوص المتناهية إذن؟
إنهم يقولون بالقرآن أوَّلًا مصدرًا أساسًا للتشريع، ثم يقومون على تكريسِ السُّنَّة مصدرًا آخرَ، إذ عمل الشافعيُّ على توسيع «مجالها؛ فحول النصَّ الثانويَّ الشارحَ إلى الأصليّ، وأَضْفَى عليه نفس درجة المشروعيَّة، ثم وَسَّعَ مفهومَ السُّنَّةِ بأنْ ألحق به الإجماعَ» الذي «يميلُ إلى تصنيمِ اجتهادِ العلماء، وفرضِه على حركةِ التاريخ المتغيِّرَة». هل يتوقَّفُون عند هذا الحدِّ؟ بالطبع لا؛ فما زالتْ كثيرٌ من الوقائع الإنسانية خارجةً عن سلطانِ النصّ!
إننا نراهم ينتهون، أخيرًا، إلى تدعيم القياسِ وتثبيته مصدرًا حاكمًا آخر؛ تقييدًا لفاعليَّةِ العقلِ والنشاطِ الإنسانيّ، وارتدادًا مرةً أخرى إلى النصوصِ، وهكذا يمكنُ الدورانُ حول كعبةِ النصِّ على الدَّوام، إذ لا تخرجُ تعريفاتُ الأصوليِّين للقياس عن أنَّه «مساواة المسكوت للمنصوص في عِلَّةِ الحُكْمِ»، أو «حَمْل الشيء على غيرِه، وإجراء حكمِه عليه»، وما يشبه ذلك. في كتابه «مدخل إلى الشريعة الإسلامية»، يرى وائل حلاق ضرورةَ أنْ يَتَحَدَّدَ محتوى العقلانية لدى الفقيه المسلم سلفًا عن طريق الإحاطة الإلهية المُوحَى بها، وأنَّ إعمالَ العقل، وإطلاق قدراتِه قد صار معنيًّا بالنص ليس إلا، محدودًا به.
أَسَّسَ الفقهاءُ إذن لما يمكنُ تسميتُه «حاكميَّةَ النصِّ» عن طريق الدوران في سياقِه وعدم الخروج عنه قَيْدَ أنملة، حتى توسَّعَتِ الأحكامُ الفقهيةُ وتكاثَرَتْ، ومن ثَمَّ ارتدَّتْ حركةُ الإنسانِ المُمْتَدَّةُ في الزمان والمكان غير المتناهية إلى النصوص بطريقٍ مباشرٍ (القرآن والسنة)، أو بطريقٍ غير مباشر (الإجماع والقياس). يقول نصر حامد أبو زيد في كتابه «نقد الخطاب الديني»: «يتجلَّى هذا الدورانُ في الدائرةِ المغلقة في طبيعةِ مفهومِ الحاكمية ذاته؛ فهو مفهوم يعتمدُ الخطابَ الدينيَّ في طرحه على سلطةِ النصِّ، حيث يتمُّ الاستشهادُ من آياتِ القرآنِ والأحاديث النبويَّة، بخاصة ما أصبح يُعْرَفُ بآياتِ الحاكميَّة الثلاثِ في سورة المائدة؛ للتدليل على أنَّ الاحتكامَ إلى النصوص هو جوهرُ الإسلام، وأنَّ التساهُلَ في ذلك أو إنكارُه يتَضمَّنُ تهديدًا خطيرًا لا للعقيدةِ فحسب، بل للحياةِ الإنسانية، بمخالفة النظام الذي وضعه الله لها بعلمه وقدرتِه».
الفهم الشكلانيّ للدين
سعى الفقهاءُ إذن إلى ذلك الحضور الدائم للدين من خلال سلطة التشريع التي تَعُمُّ حركةَ الاجتماع البشري وسكناته في تاريخها كلِّه؛ هذه الحركة المُمْتَدّة في الزمان والمكان. وأصبح الدينُ على أيدهم قانونًا مُصْلَتًا كالسيفِ على رقابِ الناس؛ يملك منهم حياتَهم ويحكمُ جميعَها قضًّا وقضيضًا، وأضحى الناسُ معهم عبيدًا لآرائهم واجتهاداتهم البشرية؛ مُبْتَعِدينِ عن روحِ النصِّ الأول، وعن مقصدِ الإسلامِ الأسمى، ابتعادًا يكادُ يكون تامًّا، وهكذا أمسى الدينُ يتردَّدُ بين المُقَلِّدَةِ وفقهائهم شريعةً لا حقيقةَ فيها، جسدًا خاويًا لا قلبَ له، وجِسمًا تنعدمُ منه الروحُ، وممارسةً لا مضمونَ فيها.
يرى أبو العلا عفيفي، أنَّ المسلمين في عصورهم الأولى قاموا بتَدَارُسِ الإسلامِ على نمطٍ علميٍّ، كان من نتائجه إمعانُ النظر في مسائل الشريعة من جهة كونها أحكامًا عمليَّة يحتاج الناسُ إلى تطبيقها في حياتهم اليوميَّة، وحسبوا من بعد ذلك العلمَ بالفقه والعملَ به غايةَ الدين ومنتهى مُرَادِ الله؛ مما أدَّى إلى ظهور جماعةٍ من النُّظَّارِ الجامدين، أخيرًا، لا يُلْقُونَ بالًا للجوهر الداخلي لهذا الدين، ولا لمقاصده وغاياتِه الباطنيَّة العُظْمَى، بل ولا يعتدُّونَ إلا بِشِقِّهِ الظاهريِّ المُشْتَغِلِ بالصورة دونَ المَعْنَى، مُتَوَهِّمِينَ في الشَّكْلِ مرادَ اللهِ، مُعْتَقِدين أنهم بذلك يُفَعِّلُونَ الكلمةَ الإلهية في حياة الناس عن طريق استنطاقِها عنوةً؛ من أجل ضبطِ حركةَ الاجتماعِ الإنساني، وحرصًا على عدم خروجِها عن التشريعات الإلهية التي جاءتْ عن مَحْضِ اجتهادٍ منهم.
الفِقْهُ الحَقِيقِيُّ فِقْهُ البَاطِن
لعلَّ هذا الاقتباسَ يُوقِفُنا على جوهرِ الخلاف الذي حصل بين فهم الفقهاء للدين، وفهم هؤلاء المتصوفة. تحت بابٍ بعنوان «الكلام في تحقيق طريق الصوفية، وتَمَيُّزُه على الجملة من بين طُرُقِ الشريعةِ، ومدلولِ هذا اللفظ»، ينقل ابن خلدون عن القشيري تقسيمَ الصوفيةِ الفقهَ إلى قسمين، أحدهما: فقه الظاهر، وهو فقهُ الأحكامِ المتعلقة بأفعال الجوارح، والآخر: فقه الباطن، وهو معرفةُ الأحكام المتعلقة بأحكامِ القلوب، وكان أنْ توجَّهَتِ العنايةُ إلى القسم الأول منه دون الثاني، بل وبقي القسمُ الثاني منه مهجورًا مجهولًا وإنْ كانَ أَوْلى من الأولِ حفظًا وصيانةً. عُنِيَ المتصوفة إذن بباطنِ الدين، هذا البعد الروحيّ المهجور منه، ونظروا إلى الفقه على أنه وإنْ كان مُهِمًّا على مستوى المصلحة العامة، إلا أنه لا يكفي وحده، بل وعَدُّوا أحكامَ الباطن، وأعمالَ القلب آتِيَيْنِ في مقامٍ أسبق من أعمال الظاهر.
إننا الآنَ أمام فَهْمَيْنِ للدين، ليس من المفترضِ أن يُنْكِرَ أحدُهما الآخرَ أصلًا، إذ كان الأمرُ بدايةً أنِ انصرفَ ذهنُ الفقهاء إلى فقهِ أعمالِ الجوارح وفهمِها، إذ عَمَّتْ بها البلوى، وإن كانوا يعترفون ضِمْنًا أن للقلب أعمالًا، وأن نِيَّةَ أعمالِ الجوارح متعلِّقَةٌ بها على الأقل. وعلى جانبٍ آخر، انصرف المتصوفةُ إلى فقهِ أعمال القلوب، ومزيد اعتناءٍ بها، وإن كانوا لا ينكرونَ أعمال الجوارح، ويرونَ أن لها فقهًا وأصولًا تتعلَّق بها. إنَّ المشكلة قد أَتَتْ عندما تطرَّفَ فريقٌ في النظر؛ فَاسْتحَال الدينُ معهم مظاهرَ وطقوسًا خاوية من الباطن والمعنى والمقصد، كما جاء أهلُ التصوف مُسْتَغْرِقِينَ في علوم الباطن، لا يرونَ غيرها علمًا حقيقيًّا، مستخَفِّينَ بما دونها من معارفَ تُخَالِفُها، وإِنْ حاولَ البعضُ الجمعَ بينَ هذين الفهمَيْنِ في سياقٍ واحد مثلما فعلَ الغزاليُّ.
اعتقد كلا الفريقَين اعتقادًا جازمًا امتلاكَ حقيقةَ الدينِ المطلقة؛ فاعتبرَ الصوفية أنفسهم حماةَ الدين بمعناه الحقيقي لا الظاهريّ، ونظروا إلى فقه الباطن على أنه الفقه الحقيقي للدين، أما أهلُ الفقه فإنهم رأوا أنفسَهم حُرَّاسَ الشريعة، والقائمين على تفعيلها وتطبيقها في الواقع الإنساني، وانزعجوا انزعاجًا تامًّا من استخفاف أهل الباطن بهم، ووصفهم بعلماء الرسوم والظاهر، فوجَّهُوا ناحيَتَهم أصابعَ التكفير والتبديع والتضليل، والانحراف عن الشريعة المرسومة، وما أشعلَ الحربَ المارقةَ بين الفريقين إلا هؤلاء الذين تَطَرَّفُوا من كلا الجانِبَين.
في كتابه «النَّزَعات المادية في الفلسفة العربية والإسلاميَّة»، يرى حسين مروة أنَّ المتصوفةَ حاولوا الخروج عن فكرةِ الوسائط وحاولوا الاتِّصالَ المباشرَ بالله، دون وسيطٍ من خَلْقِه، وكان رفضهم لهذه الوساطة يُعَدُّ نوعًا من الثورة على فقهاء الظاهر المُوَقِّعِينَ عن الله؛ فلا يمكن للعبد أن يسلكَ إلى الله إلا عن طريقهم؛ فَهُم مَنْ يصحِّحُونَ له عباداتِه ومعاملاته حتى تكون على مراد الله.
رفضُ الصوفيةِ لوساطة الفقهاء، وانشقاقهم عنهم في اعتبارِهم أعمالَ القلوب أهمَّ وأفضلَ من أعمال الجوارح، وانشغالِهم بذواتهم عَمَلًا على تطهيرها بدلًا من الانشغال بالآخر؛ جعلَ كلُّ هذا البَوْنَ بينهما في اتِّساعٍ وازديادٍ على مَرِّ الزمان، واتَّخَذَ أشكالًا من الصِّراع على مستوى الفكر والجدل الكلاميّ في البدايةِ، إلا أنه انتحى مَنْحىً عنيفًا بعد ذلك.
استبدالُ الكلمةِ بسيفِ السلطان
تَصَوَّرَ رجالُ الدينِ أنفسَهم على أنهم وحدهم القادرون على فَكِّ طلاسِمِ النصوص الدينية، وتفسير رموزها؛ الأمر الذي أدَّى بهم إلى القول بأنَّ منتجاتِهم البشرية هي عينُ مرادِ الله، وأنْه لا فرقَ بين اجتهاداتهم ومنطوقِ النصِّ الإلهيِّ، وبذلك صاروا يمتلكونَ سلطةَ الحديث باسم الله في الأرض، وتسلَّطُوا على الأفهامِ والعقول، وفرضُوا سلطانهم على الجميع، سواء كانوا من عوامِّ الخلق، أو من نُظَّارِهم مِمَّنْ حاولوا سلوكَ طريقٍ آخر يخالفهم في البيانِ، والفهم، والتأويل كالمتكلمةِ والفلاسفة، والمتصوفة مَحَلّ حديثنا.
إذا نظرنا إلى موقفِ فقهاء أهلِ السُّنَّةِ تُجاهَ السلطَةِ الحاكمة، فإننا نجده متفاوتًا عند الأئمةِ الأوائل، إذ نرى العلاقةَ بينهم قد قامت متردِّدَةً بينَ الرفضِ الضِّمْنِيّ والمُعْلَن دون الخروج عليها، وبين التَّعَاطِي معها في حدودٍ أو الرفض البَاتّ المُطْلَق. يرى محمد أبو زهرة في كتابه «أبو حنيفة (حياته وعصره – آراؤه وفقهه)»، أنَّ أبا حنيفةَ مثلًا كان على اتِّصالٍ وثيق بآلِ البيتِ، ليسَ من جهةِ الآراء العقدية والفقهيَّة فحسب، لكن من جهة المَيْل السياسيّ إليهم أيضًا، إذ كان يرجو انتصارَ ثورة زيد بن عليّ؛ فقام على نُصْرَتِها بالمالِ والمقالِ، لكنه لم يخرج على سلطةِ زمانِه بالسيف، ولم يشترك بالفعل في تلك الثورة، وكان موقفه من السلطةِ الاكتفاء بالتَّنَحِّي عنها، والرفض لها ولعطاياها، ومناصبها السياسيَّة المعروضةِ عليه.
وعند الانتقال إلى مالك بن أنس، نرى موقفًا متشابكًا؛ خَاضَ فيه بحدودٍ مع السلطة، إذ كان قليلَ الكلام فيما لا يتعلَّق بالفقه والحديث، ومع ذلك نراه يرفضُ القول بالخروج على السلطة الحاكمة وإنْ كانَ جورُها ثابتًا، ويرى الصبرَ واجبًا على مثل هذا الظلم، لأنَّ الخروجَ عليه يُؤَدِّي إلى مفاسدَ وفتنٍ في الدين والدنيا لا أولَ لها ولا آخر، ولقد كانَ هذا الموقفُ السَّاكِتُ المُسْكِتُ مَرْضِيًّا عند حكومةِ بني العبَّاس، بل نراه يتعاطى كذلك مع سلطةِ زمانِه مُتَسَامِحًا في التَّعَامُلِ معها؛ مستجيبًا لطلب أبي جعفر المنصور تأليفَ كتابٍ في الفقه والحديث كما تذكر الأخبار.
لم تَبْقَ هذه العلاقةُ على هذا الحال؛ غير واضحة المعالم، مُتَذَبْذِبَةً بينَ الفقهاء والحُكَّام، بل حَدَثَ فيها نوعٌ من الامتزاجِ أو التداخُلِ، إذ تبادَلَا منافع الدنيا والدين على مستوياتٍ عديدة، ولم يتورَّعْ كثيرون عن مخالطة الحكام، فضلًا عن قبول عطاياهم، وتَوَلِّي مناصبهم.
صيَّرَتِ الحكومةُ فهمَ الفقهاءِ الدينَ دينًا رسميًّا، وقامتْ باستعمالِ سلطتِهم على عوامِّ الناس؛ فحاولوا إخضاعَهم عن طريق استصدار الفتاوى المناسبة لهم، المحافِظة على بقائهم في سُدَّةِ الحُكْم، والتي تصون وجودَهم القاهِر.
وعلى الجانبِ الآخر، عَمِلَ الفقهاءُ على تنميط المحكومين ظاهريًّا، في نَمَطِ دينيٍّ واحد لا تجوزُ حَيْدَةٌ عنه، واستعملوا الحُكامَ أيضًا في فرضِ رؤْيَتِهم للدين على مخالفيهم، والتَّنكيلِ بمعارضيهم، خصوصًا إن كانوا من النوع ذائع الصَّيْت، من أصحابِ التأثير في الناس، بل صاروا يَتَوَجَّسُونَ خيفَةً من أيِّ فهم آخرَ للإسلامِ يتشاكس وفهمَهُم. ولقد كان الصوفيةُ من أبرزِ معارضيهم على صعيد الفكر، بل ضَمُّوا إلى ذلك نجاحهم التأثير في القلوب، والقدرة على السيطرة الدينية وفِعْلِ الحَشْد.
استشعرَ الفقهاءُ خطورةَ انتزاعِ هؤلاءِ حيازتَهُم الدينَ، وقلقُوا كثيرًا عندما لاحظوا انسحابَ البُسُطِ من تحت أقدامهم شيئًا فشيئًا، ومن أجل ذلك غلب عليهم طابَعُ العداء تجاه التصوف وأهله، وتلبَّسَ هذا العداءُ مسوحًا قاسيةً وقبيحةً من القتل، والتنكيل، والبطش، والإيذاء، والمطاردة؛ مُعْتَمِدِينَ في ذلك على سيفِ السلطانِ القاهرِ الذي لم يكن يريد أن يخسرَهم أو يردَّ لهم مَطْلَبًا، إذ يعني خسرانُهم خُسْرَانَ الدين الرسميّ للدولة، ومن ثَمَّ القدرة على السَّيْطَرَةِ الدينيَّة، كما يعني فقدانَ الرعيَّةِ ما يُمَيِّزُهُم من نَمَطٍ دينيٍّ تناغموا فيه وانتَظَمُوا.
كيفَ صَارَ السّهرورديُّ المقتولَ؟
يتصوَّرُ قارئُ هذه المناجاة للوهلَةِ الأولى أن صاحبَها رجلٌ عاش حياتَه كلَّها هائمًا على وجهه في طرقاتِ الله، سالمًا مسالمًا، بعيدًا عن الخلقِ وأذاهم، ولكنَّ الحقيقةَ التاريخيةَ لم تكن على هذا النحو! لقد زُجَّ بهِ زجًّا في عالَم السياسة التي لم يقتربْ منها في حياته كلِّها أصلًا، لا على مستوى الفكر ولا على مستوى الممارسة، وقام الفقهاءُ باستعمال حضورهم لدى الحاكم لاستصدار موافقةٍ على إعدامه رِدَّةً، وسمَّوْه المقتولَ تمييزًا له عن غيره، ونفيًا لمعنى الشهادةِ عنه.
اتَّسَمَ العصرُ الذي ظهرَ فيه السهروردي باضطراباتٍ موبقة، وحروبٍ مشتعلةٍ، وفِتَنٍ لا تُبْقِي ولا تَذَر، وقد تفكَّكَتْ أوصالُ الخلافة العباسيَّة، وظهر صلاحُ الدين الأيوبي مُتَغَلِّبًا على الدولة الفاطميةِ في مصرَ، وعكف على توحيد بلاد الشام ومصرَ تحت رايتِه، ودخل حلبَ وَوَلَّى عليها ابنَهُ الظاهر، وأحاطَه ببطانةٍ من الفقهاء، وقد أُعْجِبَ الظاهرُ هذا بالسهروردي، الحكيم الشاب، وقامتْ بينهما صداقةٌ، لكنها لم تكن كافية لإنقاذه من سخطِ الفقهاء وبطشهم به.
إنه علينا بدايةً أن نعرفَ انتماءَ الفاطميِّين في مصرَ في المذهب العقديِّ إلى الشيعة الإسماعيليَّة الذين تَسَمَّوا بالباطنيَّة حتى نعرف أصل المشكلة. في كتابه «تاريخ الجدل»، يخبرنا محمد أبو زهرة عن هذه الطائفة؛ انتسابَها إلى الشيعة الإمامية، وقولَهم بإمامة إسماعيل بعد أبيه جعفر الصادق، وتسميتَهم بالباطنية لقولهم بالإمام الباطن، ولأنَّ للدين ظاهرًا وباطنًا، كما يخبرنا عن اضطهادِهم في أولِ أمرِهم فيمن اضُطِهِدَ، حتى فَرَّ معتنقوها إلى فارس، وهناكَ خالطَتْ مذهبَهم آراءُ الفرسِ القديمةِ وغيرُها من الفلسفات والمذاهب، ثم انتهائهم أخيرًا إلى النجاح في اقتطاعِ مصرَ من الدولة العباسيَّة.
والآن، فلنتعرَّفْ سريعًا على يحيى بن حبش بن أمِيرَكا، المُلَقَّبِ بشهابِ الدين، والمشهورِ بالمقتول، والمُنْتَسِب إلى مدنية سُهْرَوَرْدَ الواقعة في إيران. شهابُ الدين صوفيّ، ومتفلسف، وطبيب، وشاعر، حاولَ الجمعَ بينَ الفلسفة ونزوعَه نحو التصوِّفِ وانتهى إلى تأسيس فلسفةٍ قام بابتداعها وإنشائها، أقام دعائمَها على هذا المَزْج، واشتهرتْ باسم فلسفة الإشراق؛ تلك الفلسفة التي يَصفُها حسين مروة في كتابه «النزعات المادية في الفلسفة العربية والإسلامية (تبلور الفلسفة – التصوف – إخوان الصفا)»، بأنَّ فلسفاتِ عصرِه ومعارفَ زمانِه قد تداخلَتْ فيها تَدَاخُلًا مُتَشَابِكًا كالفلسفة العقلانيَّة في صورتِها المشَّائيَّة، إضافة إلى مصادرَ أخرى متعدِّدَةٍ من بينها الزرادشتيَّه، والفيثاغوريَّة الجديدة، والأفلاطونية المُحْدَثَة، والهرمسية، وكانَ الإسلامُ الإطارَ العامَّ الذي يدور فيه امتزاجُ هذه الأفكارُ والفلسفات المتنازعة.
تشابهَتْ فلسفةُ السُّهْرَوَرْديِّ الإشراقيَّةُ وفلسفةَ الإسماعيليَّة- الذين أصبحَ لهم حضور سياسيّ ودولة، وكانوا العدوَّ الأول لصلاح الدين الأيوبي ودولتِه الناشئة- على مستوياتٍ عديدةٍ؛ فبدايةً، كان السهروردي- مثله مثل جميع الصوفية- يرى أنَّ للنصِّ ظاهرًا يفهمُه أهلُ الظاهر من الفقهاءِ وغيرِهم، ولكنَّ هذا الظاهرَ ليس مرادَ اللهِ وحده، ولكنَّه نُتْفَةٌ بسيطة جِدًّا منه، وأنَّ له باطنًا لا يعرفُه إلا الخواصُّ من أهل الله ليس إلا، وهذا الجزءُ الباطنُ هو الناطقُ الأكبرُ عن مرادِ اللهِ حقًّا، ويشملُ عوالم الغيبِ والملكوت، ولا يختصُّ بالشهود فحسب. بَرَزَتِ المشكلةُ من أنه كانَ مستغرقًا في عالم الباطن، مُسْتَخِفًّا بتعاليمِ أهل الظاهر واعتقادِهم حِيَازَةَ العِلْمِ عن اللهِ.
انظر إلى هذا النصِّ وتَمَعَّنْهُ، تَجد شيخَ الإشراقِ فيه يقوم على تأويلِ نصٍّ مأثور عن النَّبِي تأويلًا باطنيًّا، مُسْتَعِينًا فيه بكلماتٍ قرآنيَّة من مواضعَ متعَدِّدَةٍ، ثم تراهُ يقومُ على تأويله غَاطِسًا في ما وراء ظاهرِ اللفظة من معنىً، بل يمكنك أن تجد حضورًا أفلاطونيًّا في ثنايا كلامه، لا سيَّما عندما يذكر القوةَ الغضبية (محلُّها الصدر)، والقوةَ الشاعرةَ الداركةَ، أو العاقلة (مستقرُّها الرأس)، وهما اثنتان من قوى النفس التي قال بها أفلاطون، أما القوة الثالثة التي لم يذْكُرْهَا هيَ القوة الشهوانيَّة (مُسْتَوْدَعُهَا البطن)، وقد أقامَ أفلاطون على هذه القوى فلسفتَه الأخلاقيَّة. في هذا النص نراه مازجًا معارفَه كلَّها في التأويل والفهم بشكلٍ باطني، لكن في إطارٍ إسلامي واضحٍ لا يَخْرُجُ عن مُحِيطِ النصِّ.
سارَ السُّهرورديُّ بين النَّاسِ مُتَحَمِّسًا لفلسفتِه الإشراقيَّة، وناظر عنها وجادل، ولم يُبال بمن حوله، بل قام على إفشاء أفكارِه الباطنية دون مُوَارَبَةٍ؛ الأمرَ الذي أزعَجَ كثيرًا من الفقهاءِ، أَضِفْ إلى قلةِ احتياطِه ذكاءَهُ الحادَّ الذي مَكَّنَه من الظهور على مُخَالِفيه، ونبوغه البحثيّ في الفلسفة النظريَّة والتصوف العَمَلِيّ والمَعْرِفِيّ. تضافرت كلُّ هذه الأمورُ معًا لتقيم عليه الدنيا، وتثير حفيظة رجال الدين المُحَافِظِين؛ فطالبوا بإعدامِه بتهمة الرِّدَّةِ وترويجِ أفكارٍ تتنافى مع الدِّين؛ مُلْتَمِسِينَ وجهَ التَّشابه بينه وبين الشيعة الباطنية للتخلص منه، لكنَّ الظاهرَ لم يُذْعِن لهم بدايةً.
لم يتوقفِ الفقهاءُ عندَ هذا الحدّ، بل تواصلوا مع صلاح الدين نفسِه برسالة يسألونه فيها قتلَه، ويصفونه بالكفر والإلحاد والانتصار لدعوة الباطنية أعداء الدولة، وقد كان صلاح الدين يتوجَّسُ من أيِّ دعوة باطنية في البلاد، ومن أجل ذلك أصدرَ قرارًا يوافق فيه على التَّخَلُّصِ منه وإنْ بالظنِّ إرضاءً للفقهاء، وقد كان في أمسِّ الحاجة إلى دعمهم، وخوفًا من حدوثِ أيِّ ثورة ناشئة أو انتشارِ أيِّ دعوة باطنية جديدة تَتَبَدَّى في الخفاء.
في كتابه «تاريخ الشعوب الإسلامية»، يرى بروكلمان أن صلاح الدين لم يضطر إلى امتحان الزنادقة إلا مرةً واحدة في حالة السهروردي الذي كان يرى أن «ثمَّةَ نورًا روحانيًّا يتخلل الكونَ كإشراقٍ لدُنِّيّ هو جوهرُ الأشياء جميعًا»، ثم ما لبثت عقيدتُه تلك تُثِير شكوكَ الفقهاء، وتبعث عليه غضبَهم حتى زعموا اعتقادَه اعتقادَ الشيعة الباطنية، «وهكذا لم يكن في وسع صلاح الدين- رغم اعتداله- إلا أن يُصَدِّقَ [على] حُكْمِ الموت الذي أصدرَه القضاءُ على الملحد».أما بشأنِ محاكمتِه والحكم عليه، فإن العماد الأصفهانيّ يأتي في كتابه «البستان الجامع لتواريخ الزمان» بروايةٍ يتهمُ فيها الفقهاءُ السهرورديَّ بادِّعائِه قدرةَ اللهِ على أنْ يخلق نبيًّا بعد النبي محمد، وما كان منه إلا أن أَكَّدَ على نفسِه التهمةَ، إذ قام بحصر دفاعه كلّه في إثبات قدرة الله على ذلك.
لم يكن مقتلُ السهروردي إذن إلا نوعًا من الصراع الديني بين الصوفية والفقهاء حول فهم الإسلام، استغل فيه الفقهاءُ قربَهم من سلطةِ عصرهم السياسيةِ، واحتياجَها إليهم من أجل تصفية هذا النزاع الديني بحَدِّ السيف.
صدرَ الحكمُ بقتله إذن وهو شاب في عمر الثامنة والثلاثين، وأُسْقِطَ في يدِ الظاهرِ، ولم يستطيع إنقاذَ صديقه الذي يحبه. تختلف الرواياتُ في الطريقة التي سلكوها في قتله، إذ تخبرنا مرةً أنه ماتَ بالخنقِ، ومرةً تخبرنا أنه خُيِّرَ في طريقة موته؛ فاختار الموتَ صبرًا بأن يمنعوا عنه الطعامَ والشراب حتى يقضي أنفاسَه الأخيرةَ وقد أنكر جسدَه بالكليَّة، مُنْصَرِفًا إلى سَنَا الأنوار، مُخلِّصًا روحَه جميعها من شوائب أيِّ ظُلْمَة؛ استعدادًا لرحلة صعودها مُتَّحِدَةً بالفَيْضِ الإلهيّ الأول.