سؤال وجواب: دليلك لفهم مستقبل الجنيه المصري
في 21 مارس/أذار 2022، فَقَدَ الجنيه المصري نحو 18% من قيمته أمام الدولار الأمريكي، وهو أكبر انخفاض له منذ تخفيض قيمة العملة في نوفمبر/تشرين الثاني 2016. جاء هذا التطور بعد أسابيع من الضغط على العملة وسط سحب المستثمرين الأجانب مليارات الدولارات من أسواق الخزانة المصرية في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية.
وفي أعقاب ذلك، اتخذ البنك المركزي المصري قرارات حاسمة في اجتماع مفاجئ للسياسة النقدية يوم الإثنين الماضي، تم على إثرها رفع أسعار الفائدة بنسبة 1%. بالإضافة إلى ذلك، ارتفعت -فجأة- فوائد شهادات الاستثمار لمدة عام إلى 18% في البنوك الوطنية المصرية.
تراجع سعر صرف الجنيه المصري لنحو 18.53 مقابل الدولار، بعد استقراره عند نحو 15.7 جنيه للدولار منذ نوفمبر/تشرين الثاني 2020. وذلك بعد أن شهدت قيمة الجنيه المصري انخفاضًا حادًا في عام 2016، عندما فقدت ما يقرب من نصف قيمتها مقابل الدولار بين عشية وضحاها، حيث تم تعويم الجنيه في ذلك الوقت كجزء من حزمة إصلاحات، مقابل خطة إنقاذ بقيمة 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي.
وبينما كان الاقتصاد المحلي هو المسئول عن الإصلاحات في عام 2016، كانت هذه المرة الحرب في أوكرانيا هي المسئول الرئيسي عن التطورات في السياسات الاقتصادية الراهنة. لذا من وجهة نظر البنك المركزي، يعتبر هذا التخفيض في قيمة العملة بمثابة «تصحيح»، يعكس التطورات العالمية والمحلية.
ومن شأن هذا التصحيح أن يجعل الصادرات أكثر قدرة على المنافسة، ويساعد في الحفاظ على سيولة العملات الأجنبية، بجانب كسب ثقة المستثمرين الأجانب، وذلك بعد أن دفع الغزو الروسي لأوكرانيا المستثمرين الأجانب إلى سحب مليارات الدولارات من أسواق الخزانة المصرية، مما ضغط على العملة.
هل نشهد مزيدًا من التخفيض في قيمة الجنيه؟ ولماذا؟
على نحو بديل للاقتراض الخارجي وطرح مزيد من أدوات الدين بأسعار فائدة أكثر ارتفاعًا من المطروحة حاليًا، تُجري الحكومة المصرية مفاوضات مع صندوق النقد الدولي بشأن المساعدة المحتملة، لكنها لم تعلن عن أي طلب رسمي.
لكن خطوة تخفيض قيمة الجنيه، لكي يتماشى مع قيمته العادلة في السوق العالمية، يمكن أن تُمهِّد الطريق لصفقة جديدة مع الصندوق، بشرط أن يسمح صنّاع السياسة النقدية للجنيه بالتعويم بحرية أكبر أو الاستمرار في إدارته والسماح للاختلالات الخارجية بالتراكم مرة أخرى، مما قد يؤدي إلى تخفيضات أخرى في قيمة العملة.
وسبق أن تحولت مصر إلى صندوق النقد الدولي ثلاث مرات في السنوات القليلة الماضية، واقترضت 12 مليار دولار في إطار تسهيل الصندوق الموسع في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، و2.8 مليار دولار بموجب أداة التمويل السريع في مايو/أيار 2020، و5.2 مليار دولار بموجب ترتيب الاستعداد في يونيو/حزيران 2020.
ومصر الآن مؤهلة للحصول على نسخة جديدة من أي برنامج من البرامج الثلاثة السابق ذكرها، ولكن نظرًا لتجاوزها حصة الاقتراض العادية، فسيتعين عليها الالتزام بمعايير وصول استثنائية، مما يعني أنها ستخضع لمستوى أكبر من التدقيق، ومن ثَمَّ يُتوقع أن يكون هناك تخفيض آخر في قيمة العملة المحلية.
هل تشهد مصر مزيدًا من الارتفاع في الأسعار؟
يأتي الانخفاض في قيمة العملة في الوقت الذي تعرّضت فيه سلاسل الإمداد الغذائي العالمية لضربة قوية من الغزو الروسي لأوكرانيا، مما ترك مصر في مواجهة تكاليف أعلى بسبب احتياجاتها الكبيرة من استيراد القمح.
تعتبر روسيا وأوكرانيا الموردين الرئيسيين للقمح لمصر، والتي تعد أحد أكبر المستوردين على مستوى العالم. وتقوم أسعار القمح المرتفعة بالضغط على مستويات الإنفاق الحكومي السنوي على واردات القمح، لترتفع إلى 5.7 مليار دولار، وفقًا لدراسة أجراها «المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية»، في مارس/أذار 2022، مما يُجهِد المالية الحكومية، ويزيد من ضغوط التضخم. كذلك تفقد مصر مليارات الدولارات بتراجع عائدات السياحة، نظرًا لكون روسيا وأوكرانيا مصدرين رئيسيين للسيّاح إلى مصر، وهنا يمكن أن تمثل الأزمة الروسية الأوكرانية ضربة خطيرة لقطاع السياحة المصري.
وبالفعل وصل التضخم إلى أعلى مستوى له منذ ما يقرب من ثلاث سنوات، مُسجِّلًا 10% في فبراير/شباط 2022، وفقًا لبيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، مدفوعًا بزيادة بنسبة 20% في أسعار المواد الغذائية. وحذِر البنك الدولي من أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية بنسبة 30% قد يؤدي إلى زيادة بنسبة 12% في معدلات الفقر، والتي تحوم بالفعل عند حوالي ثلث سكان مصر البالغ عددهم 105 ملايين نسمة.
خلال الأسبوعين الماضيين، ارتفعت أسعار المواد الغذائية الأساسية، بما في ذلك الخبز. ارتفعت أسعار الخبز غير المدعوم بنسبة تصل إلى 50%، وعلى الرغم من أن الكثيرين عزوا ذلك إلى انقطاع إمدادات القمح الناجم عن الحرب الروسية الأوكرانية، فإن مصر لم تستورد فعليًا خلال الأسابيع الثلاثة الماضية أي شيء للسوق المصري بأعلى من الأسعار المعتادة.
ولأن أسعار السلع في السوق المحلية لم تتأثر بعد بالحرب الروسية الأوكرانية، وهذا الارتفاع الأخير في الأسعار كان ناتجًا عن التضخم العالمي الناجم عن جائحة فيروس كورونا، فمن المتوقع -مع استمرار الغزو الروسي لأوكرانيا وفي ظل التخفيضات الراهنية في قيمة الجنيه المصري- أن ترتفع أسعار السلع المستوردة على مدى الأسابيع القليلة المُقبلة، وذلك وسط ضغط تصاعدي موسمي أيضًا على التضخم في مصر مع اقتراب شهر رمضان وزيادة الطلب على المواد الغذائية.
هل العملة الضعيفة في مصلحة الدولة؟
قد يبدو الأمر غير بديهي، لكن فعليًا قد نجد أن العملة القوية ليست بالضرورة أن تكون في مصلحة الدولة. فالعملة المحلية الضعيفة تجعل صادرات الدولة أكثر قدرة على المنافسة في الأسواق العالمية، وفي نفس الوقت تجعل الواردات أكثر تكلفة. وأحجام الصادرات المرتفعة من شأنها أن تُحفِّز النمو الاقتصادي، بينما يكون للواردات باهظة الثمن أيضًا تأثير مماثل، لأن المستهلكين يختارون البدائل المحلية للمنتجات المستوردة، مما يُعزِّز الطلب المحلي على السلع المحلية وهو ما يؤثر إيجابيًا على ميزان المدفوعات.
ويُترجَم هذا التحسن في شروط التبادل التجاري عمومًا إلى عجز أقل في الحساب الجاري (أو فائض أكبر في الحساب الجاري)، ومعدلات توظيف أعلى، ونمو أسرع للناتج المحلي الإجمالي. كذلك نجد أن السياسات النقدية التحفيزية -كزيادة سعر الفائدة- التي عادةً ما تؤدي إلى ضعف العملة، يكون لها تأثير إيجابي أيضًا على أسواق رأس المال والإسكان في البلاد، والتي بدورها تُعزِّز الاستهلاك المحلي من خلال تأثير الثروة.
لكن؛ هل ينجح تخفيض العملة دائمًا في تحقيق زيادة في معدل النمو الاقتصادي؟
فعليًا، التخفيض الإستراتيجي لقيمة العملة لا ينجح دائمًا، وهنا يجب على الدولة أن تكون حذرة بشأن سلبيات تخفيض قيمة العملة. قد يؤدي تخفيض قيمة العملة إلى انخفاض الإنتاجية بسبب ارتفاع أسعار المواد الخام والسلع الوسيطة المستوردة بغرض إتمام العملية الإنتاجية للسلع النهائية في السوق المحلي، حيث قد تصبح واردات المعدات والآلات الرأسمالية باهظة الثمن. كما يُقلِّل تخفيض قيمة العملة بشكل كبير من القوة الشرائية في الخارج لمواطني الدولة.
وهنا يظهر السؤال التالي…
لماذا تلجأ الدول لتخفيض قيمة عملتها؟
هنا يمكن ذكر ثلاثة أسباب رئيسية:
1. زيادة الصادرات
لأن معظم الدول تتعامل مع اقتصاد مفتوح، فهنا يتم التعامل مع الأسواق العالمية من خلال عملتي التصدير والاستيراد، وهنا تتنافس البضائع من بلد ما مع تلك الموجودة في جميع البلدان الأخرى. أي أن صانعي السلع -القابلة للتصدير- في مصر يتنافسون مع صانعي نفس السلع في أوروبا واليابان على سبيل المثال. وإذا انخفضت قيمة الجنيه مقابل اليورو والين، فإن سعر السلع المُباعة من قبل الشركات المُصنِّعة في مصر، بالجنيه المصري، سيكون فعليًا أقل تكلفةً مما كانت عليه من قبل.
ولكن في ضوء أن مصر ليست دولة مُصدّرة كبيرة للأسواق العالمية، وفاتورة وارداتها تتجاوز صادراتها، ولأنها ما زالت مُصنَّفة على أنها دولة مُستوردة، فإن أثر الصادرات من خفض قيمة العملة لم يتحقق لمصر.
2. تقليص العجز التجاري
مع انخفاض قيمة العملة ستزداد الصادرات وستنخفض الواردات بسبب انخفاض تكلفة الصادرات وزيادة تكلفة الواردات. وهذا يؤدي إلى تحسن ميزان المدفوعات مع زيادة الصادرات وانخفاض الواردات، وتقليص العجز التجاري.
لكن هل السلع المستوردة في مصر هي سلع رفاهية يمكن الاستغناء عنها؟
في الحقيقة لا، حيث إن معظمها سلع ضرورية لازمة لمواصلة العملية الإنتاجية المحلية، ولازمة لتغطية الاستهلاك من السلع الغذائية الضرورية. وبالتالي كلما كانت السلع المستوردة ضرورية وحتمية، كلما كان هناك زيادة أكبر في عجز الميزان التجاري وسط مزيد من التخفيض في قيمة العملة.
كذلك هناك جانب سلبي محتمل آخر، حيث يؤدي تخفيض قيمة العملة إلى زيادة عبء الديون على القروض المُقوَّمة بالعملات الأجنبية عند تسعيرها بالعملة المحلية. هذه مشكلة كبيرة بالنسبة لدولة نامية مثل مصر، والتي تمتلك الكثير من الديون المُقوَّمة بالدولار واليورو. وبذلك تصبح خدمة هذه الديون الخارجية أكثر صعوبة، مما يُقلِّل الثقة بين الناس بالعملة المحلية.
3. الحد من أعباء الديون السيادية
قد يتم تحفيز الحكومة لتشجيع سياسة العملة الضعيفة، إذا كان لديها الكثير من الديون السيادية الصادرة عن الحكومة للخدمة على أساس منتظم. إذا تم إصلاح مدفوعات الديون، فإن العملة الأضعف تجعل هذه المدفوعات أقل تكلفةً بمرور الوقت.
على سبيل المثال، إذا كان على الحكومة دفع مليون جنيه شهريًا في مدفوعات الفائدة على ديونها المستحقة، ثم أصبحت قيمة المليون جنيه نفسها من المدفوعات الافتراضية أقل من ذي قبل، فسيكون من الأسهل تغطية هذه الفائدة.
في مثالنا، إذا تم تخفيض قيمة العملة المحلية بنحو 18%، فإن مدفوعات الدين البالغة مليون جنيه ستصبح فقط 820 ألف جنيه الآن. لكن هذه السياسة، يجب استخدامها بحذر، لأن هذه السياسة لن تؤتي ثمارها إذا كانت الدولة المعنية -مثل مصر- تمتلك عددًا كبيرًا من السندات الأجنبية، لأنها ستجعل مدفوعات الفائدة هذه أكثر تكلفة نسبيًا.
هل تؤدي هذه القرارات إلى إعادة ضبط الاقتصاد المصري؟
في محاولة لوقف هروب رؤوس الأموال من أسواق السندات، والتي تسارعت منذ الغزو الروسي لأوكرانيا، رفع البنك المركزي المصري أسعار الفائدة، وسمح لقيمة الجنيه المصري بالانخفاض أمام الدولار، وذلك بعد أن أدى نقص العملة الأجنبية إلى إغلاق الموانئ المصرية، بسبب عدم تمكن المستوردين من الحصول على تلك العملات الأجنبية اللازمة لخطابات الاعتماد لتخليص بضائعهم.
نظريًا، يُساعِد قرار البنك المركزي المصري برفع سعر الفائدة بمقدار 100 نقطة أساس والسماح للعملة بالانخفاض، على حماية احتياطي النقد الأجنبي -المنخفض فعليًا- وسط تدفقات رأس المال الخارجة نتيجة تشديد شروط التمويل العالمية، وارتفاع أسعار الغذاء. كما أن هذا التخفيض يُمهِّد الطريق لبرنامج صندوق النقد الدولي الذي نعتقد أنه سيساعد في ترسيخ الثقة في المسار المالي والإصلاحي لمصر بشأن التزامها بصنع سياسة الاقتصاد الكلي التقليدية. كذلك يُنظَر إلى مرونة سعر الصرف على أنها إجراء لتعزيز القدرة التنافسية لمصر.
لكن في المقابل تعتبر مصر دولة مستوردة لكثير من المواد الخام والسلع الغذائية والكثير من المواد البترولية، لذلك، فإن تخفيض قيمة العملة سيكون له تأثير كبير على المالية العامة للحكومة، ومن شأنها تضخيم فواتير الدعم الحسّاسة اجتماعيًا.
وفعليًا أعلنت الحكومة عن حزمة من الإجراءات، تبلغ قيمتها حوالي 7 مليارات دولار، لحماية الفئات الأكثر ضعفًا في المجتمع من الصدمات في السوق، وهو ما يزيد من أعباء الموازنة العامة. كذلك، فإن زيادة فاتورة واردات الطاقة والغذاء من شأنها أن تؤدي إلى ارتفاع عجز الميزان التجاري، الذي يُمثل تهديدًا لاستقرار الجنيه المصري، مما قد يعيق المستثمرين من ضخ مزيد من تدفقاتهم في أسواق المال المصرية، حيث يشعر بعض المستثمرين بالقلق من أن الإجراءات المتخذة لتيسير مسار صفقة صندوق النقد الدولي قد لا تكون كافية لمعالجة النكسات التي يتعرض لها الاقتصاد والعجز المتزايد في الحساب الجاري.