بدأت موسيقى الراب تعرف طريقها إلى مصر على استحياء في أواخر التسعينيات من القرن العشرين في شكل تجارب أولى من خلال فرقة «واي كرو»، ثم «إم تي إم» ومعهم عدد من الأفراد الآخرين، وكانت البدايات من خلال الإمكانيات البسيطة المتوافرة وقتها (1) ولم تجد المناخ المناسب لتحصل على انتشار كاف، بل إنها نالت من الرفض والتقليل لفترة طويلة، حتى بدأت في الانتشار على نطاق أضيق لاحقاً عندما بدأت موسيقى «الأندرجراوند» بشكل عام تظهر على الساحة بقوة ما بعد ثورة يناير.

نشأت موسيقى الراب للتعبير عن الشارع بلغته، للحديث عن مشاكل المجتمع وأزماته، وكأي فن يُعد الراب متنفساً يعبر من خلاله الرابر عن همومه الشخصية وتجربته في الحياة في ظل الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي يعيشها.

وربما بخلاف «إم تي إم» وبعض التجارب التي نشأت في أحضان النمط الإنتاجي السائد مثل: أحمد مكي، أو حصلت على فرصة داخل هذا النمط: أحمد ناصر (الجوكر) وتجربته مع حسن الشافعي، أو وجدت بيئة مناسبة لتنطلق منها كما كانت الثورة مع أحمد ثروت (زاب) وفرقة «أسفلت» وعلي طالبابk بخلاف هذه التجارب القليلة التي لا تعبر عن مشهد الراب المصري من بدايته إلى الآن، لم تحظَ موسيقى الراب بالشعبية والانتشار الكافيين حتى ظهرت الموجة الأخيرة من الراب أواخر عام 2018، من خلال بابلو وويجز ومروان موسى، وأبو الأنوار وغيرهم.

التحول إلى تريند على مواقع التواصل الاجتماعي

 كانت السنتان الأخيرتان محطة انتقال مختلفة في مسيرة الراب، حيث خرج من حيزّ انتشاره المحدود وتحول إلى تريند، وجاءت هذه الطفرة بعد أغنيتين بالأخص أثارتا ضجة في أوساط الشباب: «الجمّيزة» لمروان بابلو، و«باظت» لـ«ويجز».

وما بين ساخر ومعجب، تحول الخلاف إلى تريند على مواقع التواصل الاجتماعي في أواخر عام 2019. وتصدر الراب التريند مرة أخرى منذ أشهر، حينما قام «بيف» بين مروان موسى، أبيوسف، و«عفرتو» وشارك فيه أيضاً «باتيستوتا» و«يوسف جوكر» ورابرز آخرون، وفي نفس الوقت كان الجميع ينتظر عودة بابلو من الاعتزال، والضجة التي أحدثها فيديو كليب «غابة» وتحقيقه ملايين المشاهدات في الساعات الأولى من إصداره.

ربما هي المرة الأولى التي يتصدر فيها مشهد الراب بؤرة الاهتمام والحديث على كل وسائل التواصل الاجتماعي ويجذب انتباه المنصات الثقافية بما يدور في الداخل، وأثارت الأحداث في مشهد الراب العديد من الأسئلة، كما أثارت إعجاب البعض، واستنكار آخرين.

لم يكن ما يدور شيء جديد في مشهد الراب، لكنه كان غريباً على أسماع من لم يكن لهم علاقة سابقة بهذا النوع من الموسيقى، فمهموم «الدس» أو «دِس ريسبكت» بمعنى عدم الاحترام هو مفهوم معروف ومتداول في ثقافة الراب، بل ومتداول بشكل عام في تراثنا من خلال شعر الهجاء، وهكذا مفهوم «البيف»، والذي يعني أن اثنين أو أكثر من الرابر يتبادلان «الدسات» فيما بينهم إلى أن يفوز أحدهم.

وفي تاريخ الراب المصري كان هناك عشرات البيفات ومئات الدسات، مثل ما كان بين «إم سي أمين» و«واي كرو»، وبين «إيجي راب سكول» و«إم سي أمين»، وبين «دراجون هيل» و«محمد أسامة»، وغيرهم كثير، وتكون الدسات إما تعبيراً عن خلافات شخصية أو مجرد مناكفات موسيقية. وشهدت الفترة ما بين 2014 و2017 وقت سنوي كل عام تقوم فيه العديد من البيفات القوية، وقد اصطلح المستمعين على تسميته «موسم الدسات»، وبخلاف هذا يقدم كل رابر إنتاجه الفني خارج هذه المناكفات.

لم يكن ما يحدث جديد بالفعل، لكن مع ذلك هناك العديد من الاختلافات حدثت داخل أسلوب الإنتاج ذاته، وترك هذا أثره على عدة مستويات، فأصبح للراب قدرة أكبر على الانتشار والوصول للمستمعين، كما نجح في جذب انتباه المنصات الإعلامية والثقافية، وفي جذب الجمهور العادي وجمهور المثقفين.

من الإنتاج المستقل إلى شركات الإنتاج

 ربما يجب أن نعود قليلاً ونلقي نظرة عامة حول أسباب انتشار الراب بهذه الصورة، مؤخراً، فقد بدأ الراب في مصر كموسيقى مستقلة، بأدوات بسيطة ومستوى سيئ تطور مع الوقت، وكأي شيء جديد لم يجد له مكاناً في المشهد الموسيقي.

لم تحب شركات الإنتاج المغامرة في تبني هذا النوع، وانعكس هذا على الخطاب السائد في الراب حيث ظهر مفهوم «ضد الميديا» كرد فعل على التهميش الحاصل لما يقدمونه، وتجذر هذا المفهوم وأعيد إنتاجه بشكل مستمر طوال مسيرة الراب المصري، وهناك كثير من الأغاني التي كان هذا هو موضوعها الأساسي، على سبيل المثال: «لو فاكرين» لـ«واي كرو» في العقد الأول من القرن العشرين، و«ميديا 2» لـ«روميل بي» في العقد الثاني. 

أثر انتشار الإنترنت ووجود العديد من المنصات الإلكترونية (يوتيوب، ساوندكلاود) في إحداث فارق، ولو ضئيل، في مشهد الراب بشكل عام، وسهّل التواصل ما بين المؤدي والمتلقي، فاتسع المجال لظهور العديد من المغنيين الجدد واتسعت أعداد المستمعين، فيما بعد 2012/2013 بالأخص.

كما كان لتطور أدوات التسجيل في بدايات الألفية الجديدة أثر كبير في تحسين جودة الأعمال، إضافة إلى ظهور موجة المدرسة الجديدة في الراب «نيو سكول» في اجتذاب كثير من المستمعين، لكنها لم تحقق الكثير بسبب دورانها داخل نفس عجلة الإنتاج القديمة. ظل هذا غير كافٍ حتى عام 2018، ولم يستطع مغني الراب أن يعيش من نتاج عمله أو يدّر عليه ربحاً كافياً، وبالنسبة للبعض رأوا أنه لم يصل إلى الفئة المستهدفة ولم يترك أي أثر على أرض الواقع، مما جعل كثيراً منهم يبتعدون عن الراب تماماً أو لفترة ما، لأسباب مادية أو يأساً من الواقع وشعورهم بعدم جدوى ما يقدمونه.

لكن الوضع تغير تماماً عندما بدأت شركات الإنتاج بالدخول إلى المشهد مع ظهور موجة «التراب» وإحداثها ضجة كبيرة في أوساط الشباب وانتشارها بينهم سريعاً، وعندما بدأت الشركات الكبرى في الانتباه لما يحدث واستغلت هذه الموجة وبدأت إعلاناتهم تعتمد على أشخاص بارزين من مشهد الراب، ولم يحدث هذه مسبقاً سوى في إعلان قامت به فرقة «واي كرو» لشركة «بريل» منذ 5 سنوات تقريباً ونُشر على النت فقط.

أثر هذا في انتقال الراب إلى مرحلة جديدة في تاريخه لم يصل إليها من قبل من حيث عدد المستمعين أو الكسب المادي، كما نرى ارتقاء مستوى التوزيع في منصات عرض الأغاني ذاتها، حيث تحول من ساوند كلاود إلى أنغامي وسبوتيفاي وديزر، بجوار اليوتيوب كمنصة أساسية.

ويُعد هذا التغيُّر في أسلوب الإنتاج تفسيراً لابتلاع موجة التراب لكثيرين من مغنيي الراب القدامى من «الأولد سكول» و«النيو سكول»، بل ورجوع بعضهم إلى المشهد بعد أن كانوا يائسين من تحول الراب إلى موسيقى تحظى بالشبعية والانتشار، وهذا ما فشلت فيه موجة «النيو سكول» سابقاً.

وبالتالي، أثّر كل هذا في تغيُّر مفردات الخطاب وغاياته، اختفى مفهوم «ضد الميديا» بالتدريج خضوعاً للنمط الجديد، وبدأ الراب يتماشى مع ذوق ومتطلبات الجمهور أولاً، وتخلى في بعض الأحيان عن مقوماته الموسيقية الأساسية ليتحول إلى «مهرجان»(2). ربما هذا ليس سمة عامة، حيث نجد العديد من الأمثال التي تحاول الخروج عن هذا النمط، لكن الأسلوب الإنتاجي الحديث سيبتلع أي صوت مميز جديد، وهذا ما سيجعل المغني خاضعاً للظروف الجديدة التي تمليها عليه حاجة السوق عاجلاً أم آجلاً.

الفيديو كليب كعمل إبداعي منفصل

 يُعد انتشار ظاهرة الفيديو كليب بكثرة أحد آثار دخول شركات الإنتاج في مجال الراب، وعلى الرغم من أنها ليست ظاهرة جديدة لكنها أصبحت جزءاً أساسياً من المشهد. وبخلاف بعض تجارب «إم تي إم» التي لم تكن على قدرٍ عالٍ من الجودة، بدأت ثقافة الفيديو كليب بشكل احترافي في الراب مع “مستر كوردي”، وتبع هذا كثير من المحاولات متفاوتة المستوى، نذكر منها: «فن سريالي» و«كُل شت» لـ«شاهين»، و«شِت! مش لاقي ولا تشيرت» لـ«أبيوسف»، و«مملكة 9» لـ«ولاد تسعة»، و«ميديا 2» لـ«روميل بي»، وغيرهم الكثير. 

https://youtu.be/4hA_jvtpTq8

لكن التركيز على جودة الفيديو كليب والاعتماد عليه كعامل بصري إبداعي وأهميته بالنسبة للماركتينج أصبح جزءاً لا يتجزأ من مشهد الراب اليوم، بل إننا نلحظ تطوراً كبيراً في مستوى الإعلانات ذاتها المعتمدة على الراب وضخامة إنتاجها، كإعلان أغنية «حتتك بتتك» التي قام بها ويجز لصالح شركة«ببچي». 

وسواءً كان الرابر تابع لشركة إنتاج أم لا فإنه يفهم أهمية الفيديو كليب، على الرغم من وجود فارق كبير بين الكليبات التي تتنتجها شركات الإنتاج والتي تعتمد على الإنتاج الذاتي، ويظهر هذا جلياً بين كليبات بابلو السابقة المعتمدة على الإنتاج الذاتي، وكليب أغنية غابة الذي تبنته شركة إنتاج.

ونفس الأمر مع ويجز، فقد بدأ الفيديو كليب يعتمد على مستوى تقني وإخراجي أعلى، ويظهر لنا كحالة إبداعية منفصلة بذاتها تستميل مختلف الطوائف الفنية والثقافية للاهتمام بها حتى إذا لم تعجبهم الأغنية بذاتها. 

https://youtu.be/-jy7JQKBdaA

(فيديو كليب أغنية «فري»، وفيديو كليب «غابة» لبابلو، الفرق ما بين الإنتاج الذاتي وشركات الإنتاج) 

(فيديو كليب أغنية «ساليني»، وفيديو كليب «منحوس» لويجز. لإيضاح الفرق بين الإنتاج الذاتي وشركات الإنتاج) 

وينطبق هذا أيضاً على أغنية «تيسلا» لمروان موسى التي صدرت ضمن ألبوم «فلوريدا»، فالأغنية بذاتها لم تكن من الأعمال المميزة في الألبوم، بل كانت أقل من متوسطة، لكن الفيديو كليب الذي صدر لها منذ أيام نقل الأغنية لمستوى آخر، فتجلت فيه نواح إبداعية متعددة أكبر من الكلمات. فشركات الإنتاج تعرف جيداً أن للصورة أثراً أكبر في جذب الانتباه بعيداً عن المضمون.

(فيديو كليب أغنية “تيسلا” لمروان موسى) 

هكذا نشهد كثيراً من التغيرات في مجال الراب على كل المستويات، ولا يمكن أن نحكم هل مستوى الراب اليوم أفضل من الأمس أم لا، لأن تطور القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج جعلها تختلف الآن تماماً عما كانت عليه قبل 20 سنة أو 10 سنوات، لكن على مستوى الكلمات وتعبيرها عن المجتمع، أو عن التجربة الشخصية للرابر يبدو أن الوضع الحالي يزداد فيه الرابر ابتعاداً عن الواقع والمجتمع لينتج ما يناسب احتياجات السوق من الأغاني (الروشة) التي تترك علامة مع الشباب بإيقاعها أو تعبيراتها الرنانة، ولا يوجد غرابة في أن «الجميزة» و«باظت» كانتا بداية التريند، كما نجد أن «أبيوسف» مسموع بشكل كبير وسط قبل ظهور التراب لأنه غير مشغول- على حد قوله- بمناقشة قضايا أو موضوعات، بل هو يتلاعب بالكلمات على «البيت» لأنه يحب فعل هذا، ويمكن أن يختار كلمة أو يكتب «بار» لرؤيته إنه «هيطرقع». 

يمكن أن نستثني بعض الأغاني لعدد من (الرابرز) الذين يمكن أن نقيم تحليلات واسعة عن كيفية إدراكهم للواقع الاجتماعي الحالي وتعبيرهم عنه وعن ذواتهم من خلال أغانيهم، ومنهم: بابلو، شاهين، شب جديد، ضبور، وبعض أغاني ويجز.

ربما يتحرك الراب اليوم للأمام على المستوى الفني والأدوات والانتشار، ومن الجيد أن نراه يتحول إلى موسيقى شعبية تجذب لها جمهوراً واسعاً، لكن سيكون من السيئ أن يتخلى عن استقلاله التام تجاه قضايا المجتمع الكبيرة والصغيرة ليتحول إلى سلعة استهلاكية بحتة، أو وسيلة من وسائل الإعلان للشركات الكبرى، أو يتقيد بالشكل الذي سيُفرض عليه لتحقيق مصالح إنتاجية؛ فيصبح بمرور الوقت أكثر ابتعاداً عن الواقع.

المراجع
  1. “كنا بنسجل على كاسيت وشرايط المحاضرات، بنشغل المزيكا ونسجل” عمر المسيري (بوفلوط)، أحد مؤسسي فرقة “واي كرو”، من الفيلم التسجيلي: من تحت الأرض (2010) إخراج: أحمد رحال
  2. ويمكن التفريق بين المهرجان والتراب كما أشار مغني الراب والبروديوسر “باتيستوتا”: “كيك وسنير وهاي هاتس يعني تراب، بوم وتك وشخاليل وصاجات يعني مهرجان” والكيك والسنير هي الحركات الموسيقية الثابتة التي تصنع “تمبو” البيت في الراب.