عم درويش — قصة قصيرة
عمل عم درويش مُعلمًا لمدة أربعين عامًا، وخرج إلى المعاش عام 2002، ومن يومها لا ينقطع عن صلاة الفجر. يُؤذِّن للفجر في الزاوية الصغيرة في شارع «المؤيد». ينفجر صوته في فضاء الصمت الليلي:
صوت خشن تُليِّنه وتُنير طبقاته الجشة، طيبة فطرية، وإيمان عميق بما ينطق من كلمات.
صوت عم درويش رغم جشاشته فيه من الدفء ما يجعلنا نشعر بأن منطقتنا منعزلة عن باقي المدينة، صوته هو السور الذي يُحيط بتلك المنطقة، وعندما يغيب عن فضاء الفجر مُناديًا:
يقلق أهل المنطقة، ويطمئنون عليه من «حسين الترزي»، وبعد أيام يعود صوته ليُدفئ فجر كل يوم.
بعد صلاة العصر يمر على حسين الترزي، على ناصية الشارع. يجده مثل كل يوم، يُمدِّد رجليه على الكرسي المقابل بسبب الدوالي. يجر عم درويش كرسيًا ويجلس على الرصيف في مواجهة الدكان. يدخل مع حسين في نقاشهما المعتاد عن أخبار الحتة، والبلد، والحياة عمومًا.
في كل يوم يحاول أن يُطيِّب الدنيا في وجه الرجل، الذي يظن أن الشرور قد تجمعت لتأكل الأخضر واليابس. يقول عم درويش:
في الفترة الأخيرة بدأ قلب عم درويش يتعب من مناقشة حسين الترزي، فيجلس صامتًا على الكرسي، يستمع –شاردًا- إلى الرجل، يُخبره بحوادث اليوم في الشارع وما نقلته الجرائد والراديو، الذي لا يكف عن الطنين في المحل الصغير.
لم يعد في قلب عم درويش طاقة لمناقشة الرجل الناقم على الحياة، لأن همومًا كانت نائمة قد صحت، وبدأت تؤرِّق نومه، أوّلها عنوسة ابنته «عبير»، مُدرِّسة التربية الرياضية في مدارس الجهاد الإسلامي. فهو يشعر تجاه البنت بذنب عميق، لأنها ورثت طوله الفارع وملامحه الغليظة، وهو يظن أن قطار الزواج قد فاتها بسبب ذلك، وقد ظل غير قادر على النوم من يوم فسخ خطبتها. وإن كان الإنسان لا حليلة له في قوانين الوراثة وفي حكمة الله في خلقه، فلا حيلة له أيضًا في الأحزان التي تُسبِّبها الوراثة وحكمة الله.
ثاني الهموم التي صحت في حياة عم درويش، هو الخلاف الذي دبّ بينه وبين أخته الكبيرة، حول ميراث صغير في بيت العائلة في شارع القشطي. لكن أكبر الهموم وأكثرها فداحةً هو قرار ابنه الكبير السفر إلى السويد. كاد هذا الخبر أن يُطيِّر برجًا من دماغ عم درويش.
جاء الشاب مساء الخميس ليُسلِّم عليه ويخبره بما اتفق عليه مع زوجته.
كان يعمل في السياحة في البحر الأحمر، ويُكفِّي بيته ويُعلِّم بناته الثلاث في مدارس خاصة، لكن بعد الاضطرابات الأخيرة في البلاد، انهارت السياحة وبقي عاطلًا عدة أشهر. تعرّف على فتاة من السويد أثناء وجودها في الغردقة، كانت معجبة به، تأتي إلى الغردقة من أجله. تطورت العلاقة، وبعد حوارات طويلة على الإنترنت كل يوم، عرضت عليه أن يسافر السويد.
الأمر الذي طيّر أبراج عقل عم درويش، أن زوجة ابنه هي التي أعدّت الخطة، ليسافر زوجها ويتزوج السويدية ويعمل هناك، وبعد أن يستقر يأخذ بناته ليتعلمن هناك في بلاد الشمال.
أثّرت الهموم في قلب عم درويش وعقله، ولم يعد يرفع آذان الفجر بالصفاء المعتاد، غلبت على نبرات صوته الخشونة والضيق والعصبية، وفي الفترة الأخيرة بدلًا من أن يرد حسين الترزي ويعارض نظرته السوداوية للحياة، بدأ هو نفسه يشعر بما في وجه نظر صديقه من وجاهة.
يخرج من صلاة العصر يجلس على المقعد أمام دكان الترزي، وبعد أن كانا يتناقشان نقاشًا حاميًا بسبب تعارض وجهة نظرهما، بدأ كل منهما يعضد رأي الآخر بأسانيد وحجج جديدة.
كل خبر في الحتة يتحوّل، في حديثهما، إلى ظاهرة وعلامة على اقتراب يوم القيامة؛ سرقة غطيان بالوعات الصرف الصحي من الشوارع، العراك بالكلاب الشرسة في «شارع الحلو»، وبنات الدروس الخصوصية اللاتي يقفن على الناصية طول النهار، وما جعل الأمر غير محتمل، أنهم منذ عدة أيام وجدوا جثة فتاة في حوش البيت الملاصق للزاوية.
بدأت تأملات عم درويش وتفسيراته للحوادث تميل إلى الجانب السوداوي وتتمعن فيه. الانحراف يبدأ من المتدينين الذي يمارسون الشعائر بلا قلب، والناس التي ترى في الشعائر مجرد حفاظ على شعرة مع السماء. مظاهر الشره تسري في الشوارع والبيوت والاهتمام بالجسد وشهواته حتى من قبل منْ يصلون بتقوى.
هذه المظاهر دفعته أن يذعن إلى حجة حسين الترزي بأن العالم في طريقه إلى الزوال، وأن الشر سينتصر لا محالة. وبدأت حججه تتهاوى؛ فالميزان يميل لصالح الشر، وفكرته الأساسية حول أن العالم سوف ينتهي إلى انتصار الخير وحلول الله على الأرض، أصبحت مُخجِلة.
بدأ ضغط الدم يرتفع، فزار الطبيب ليُغيِّر له دواء الضغط، وكل يوم يقترب منه الإحساس بالفناء خطوة، وتضيق الأرض بمن عليها، لكن روحه لا تزال تحمل بقية من عناد، لا يزال يشعر بأن هناك ما يمكن عمله لإيقاف هزيمة الخير، حتى يعود التوازن إلى الحياة.
صحا عم درويش في الفجر، خائفًا، فقد رأى وحوشًا ترتع في الشارع، وعندما نظر في ساعته عرف أنه فوَّت لأول مرة منذ فترة طويلة إقامة صلاة الفجر في الجامع. نظر من الشباك المُطل على شارع الحلو. ضوء النهار قد طلع وفاتته صلاة الفجر حقًا وليس في حلم. جلس على الكنبة بجانب النافذة يستغفر الله من غضب الله، ويفكر فيما يمكن عمله، حتى تكف المشاعر المنغصة عن اجتياح قلبه.
أدّى صلاة الصبح وأمسك القرآن وراح يقرأ ورده، ليس مرة، بل ثلاث مرات تكفيرًا عن خطيئة التخلف عن صلاة الفجر. في أثناء القراءة جاءت الفكرة، لا بد من عمل شيء لكي يوقف هذه الشرور، لا بد من عمل أي شيء. لم يكن يعرف غير القرآن، ففكر أن ينذر نفسه لختم القرآن، مرة في اليوم، لمدة سبعة أيام، ليس في البيت بل في الشارع، بجانب باب الزاوية، ينقطع عن كل شيء إلا عن ختم القرآن، لكي يساعد ميزان الخير.
في عصر يوم الجمعة حدث مشهد جديد في الحتة، عم درويش أنزل بمساعدة شباب مصنع الحلويات المواجه لبيته، كرسيًا من كراسي الصالون ووضعه بجانب باب الزاوية وجلس في الشارع ليل نهار، يختم القرآن لسبعة أيام، لكي يوقف الشر، ويؤجل نهاية العالم المحتومة.