كانت في السابعة من عمرها. لا تستطيع تحديد مكان ذلك اليوم في سلسلة أيام، لم يتبقَّ منها غير صور باهتة. يوم الخميس جلسوا حولها. حاول ابنها الكبير أن يساعدها على تحديد ملامح اليوم. قالت في النهاية إنه كان يومًا مُشمسًا، فيه حرارة لا زالت طازجة، ثم تذكرت:

كان وقت ورق التوت، وعلب الأحذية التي كنَّا نستخدمها لنربي دود القز.

يومها خرجت إلى الشارع، لكي تشتري «زهرة زرقاء للملابس» أو «ملح» لا تتذكر. انحرفت يسارًا إلى شارع سعيد، بعد أن توقفت قليلًا تتابع شظايا النار التي تطلقها ماكينات اللحام في عتمة الورش المواجهة لمستشفى المنشاوي. ضوء الشمس يغمر الشارع، ولا توجد ظلال على الأرصفة. رأت جمعًا من الناس أمام الملجأ. تخطت كشك الجرائد، ووقفت وسط الناس.

تضحك من نفسها وهي تتذكر منظرها تُخرِج رأسها من الفجوات بين الحشد المتجمع على الرصيف، حتى رأتها الست، وسمعتهم يهمسون:

الست أم كلثوم.

لم تكن قادرة على تحديد الملامح بدقة. ما تبقى في ذهنها بعد كل تلك السنين: تايير رمادي ونظارة سوداء، وحذاء لامع مُدبَّب من الأمام، بكعب متوسط وابتسامة خافتة، ووجه مستغرق في التفكير.

أثناء فترة المراهقة، كانت تجلس في الشرفة الواسعة في بيت أبيها، لتسمع أغاني أم كلثوم. حاولت مرارًا التقريب بين صورة «الست» على رصيف الملجأ وبين الصوت الذي يثير كل تلك المشاعر في كيانها. عاندتها الصورة ولم تنطبق على الصوت.

الصورة عادية جدًّا، مغموسة في جو شارع سعيد العادي، وهمس الناس، وحديد سياج الملجأ المكشوف في ضوء الشمس، وصوت عم فرج ينادي الأستاذ مصطفى:

الست في الملجأ يا درش.

هذه اللمحات تباعد بين الصورة والصوت، وتجعلهما من نسيج عوالم مختلفة غير قابلة للتطابق، حتى تشككت في أنها رأت أم كلثوم، رغم ما يعرفه سكان الحتة من أن «الست» كانت تزور الملجأ وترسل إليه التبرعات بانتظام.

لا تعرف متى حدث الارتباط بين الصورتين، ولا متى بدأت تشعر بأن بينها وبين «الست» سرًّا صغيرًا، كأنها قد عاشت معها فترة من الزمن، أو رأتها – مثلًا – بملابس البيت وهي تقص أظافرها بعد خروجها من الحمام. لكن المؤكد أنها انجذبت إلى صوت الست بشدة، وحفظت أغانيها دون أن تدري، وغنَّتها لنفسها في لحظات وحدتها، وتعمَّقت في فهم طريقتها في التعبير بجسدها، وعرفت أفراد الفرقة الموسيقية، وأحبت منظر الأستاذ القصبجي مُمسِّكًا بالعود وراءها في الحفلات المذاعة على التليفزيون.

ترسَّخ الارتباط كلما تقدمت في العمر، واقتربت من نفس عمر «الست» وهي تقف على رصيف الملجأ، وأحيانًا في لحظات الشرود، يُخيَّل إليها أن تعبير وجهها يشبه تعبير وجه «الست» في ذلك اليوم البعيد، ودون أن تدري، نما نوع عميق من الصداقة وأصبحت أغاني أم كلثوم، تسريتها الوحيدة عندما تتراكم عليها الهموم.

تجلس في الشرفة وتُطفِئ النور، وتُشغِّل: «أقبل الليل»، أو «هذه ليلتي»، أو «أمل حياتي»، وتستعيد الشعور القديم بأنها عاشت مع «الست» ذات يوم، يُؤنِّسها اليقين بأنها تعرف تلك الأغاني بطريقة مختلفة عن أي شخص، وتستعيد خبرتها مع تلك الأغاني من أيام إذاعة «أم كلثوم» المشوَّشة، في أمسيات الصيف في شرفة البيت القديم، حتى فترة الكاسيت وهي تعمل مُدرِّسة في الكويت، حتى ظهور «الست» كل يوم على شاشة الفضائيات في العاشرة مساءً.

يوم الخميس الماضي في السهرة الأسبوعية لأبنائها وأحفادها، لم تتمكن من أن تبوح بشعورها العميق بأنها تعرف «الست» معرفة شخصية، وأن «الست» أيضًا تعرفها. خافت من سخرية بناتها وزوجة ابنها، وتوقفت تمامًا عن الكلام، رغم إلحاحهم أن تحكي لهم شيئًا من طقوس سهرات أم كلثوم في الخميس الأول من كل شهر.

صمتت مستغرقة، خائفة أن تتحدث، فتكشف سرها وتُبدد الروعة التي تغمر جسدها، وتُحرَم من لحظات الصفاء التي تزورها في البلكونة كلما جلست لتسمع أم كلثوم.

انتهى